كل عطلة نهاية أسبوع لما يزيد على شهر الآن، كانت إسطنبول تخضع لحظر تجوال صارم بسبب فيروس كورونا. لا يسمح لأحد بالخروج، لا لممارسة الرياضة أو لشراء البقالة، وتفرض الشرطة الغرامات. وأحياناً، مثلما حدث أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي والأسبوع المقبل، امتد الإغلاق الذي خلَّف الشوارع فارغة من مرتاديها أربعة أيام لتشمل العطلات الرسمية.
تقولا كارلوتا غال، مديرة مكتب صحيفة The New York Times الأمريكية في إسطنبول، قضى هذا على واحدة من أروع متع العيش في إسطنبول: مشاهدة البهجة الدائمة بهذه المدينة، التي يحيطها الماء، عند التقاء مضيق البسفور والقرن الذهبي ببحر مرمرة.
من عدة جهات، يمكنك رؤية قوارب الصيد الصغيرة تتمايل وتومض على سطح الماء، وعبارات الركاب التي تقطع المياه باستمرار، وسفن الحاويات العملاقة وناقلات النفط الطويلة التي تُبحر بسلاسة بين كل هذا. لكن حظر التجوال وفر لحظات جديدة لجمال خاطف للأنفاس.
الطبيعة تبتهج وتتعافى
ابتهج محبو الطبيعة بالتغيرات الجديدة؛ فقد تجرأت الدلافين لتظهر على مقربة أكثر من قبل، إذ تسبح وتغطس عند جسر غلطة الذي يعبر القرن الذهبي. تشجعت أيضاً الطيور المهاجرة، إذ عادت اللقالق إلى أوكار قديمة، وتبدد التلوث، ما منح المدينة أول نظرة منذ 20 عاماً على جبل أولوداغ الذي يكسوه الجليد والواقع على بعد 100 ميل جنوب إسطنبول.
خَفَّت ضوضاء مواقع البناء وضجيج الازدحامات المرورية الكثيفة. وأصبحت الحركة الوحيدة الباقية لنوارس البحر وهي تحوم فوق أسطح البنايات.
بالطبع لا يمكن أبداً أن يصل حظر التجوال في إسطنبول إلى حالة إغلاق شامل؛ إذ إن مواطنيها، الذين عايشوا عدة انقلابات عسكرية، وحصارات، وزلازل وأوبئة وغيرها من الكوارث، يعرفون جيداً أن الحياة لابد وأن تستمر.
لذا، فالخبازون مستثنون من حظر التجوال لأن الخبز الطازج عنصر أساسي للغاية على المائدة التركية. ينادي الخبازون على بضاعتهم في الشارع الخاوي ويبيعون الخبز من مؤخرة عرباتهم.
الأتراك لا يستطيعون الاستغناء عن البقلاوة حتى في حظر التجول
حين حل شهر رمضان، نهاية أبريل/نيسان الماضي، جرى استثناء محال المعجنات أيضاً من الحظر. إذ يبدو أن الأتراك لا يستطيعون الاستغناء عن البقلاوة خاصتهم، تلك العجينة الهشة الرائعة متعددة الطبقات المحشوة بأطنان من المكسرات والغارقة في الشراب، إنها الحلوى المفضلة في البلد.
سُمح للصحفيين أيضاً بمغادرة منازلهم، لذا ذهبت لزيارة "كاراكوي غولو أوغلو" أشهر محل للبقلاوة في إسطنبول، يقول مراد غولو، المدير العام لـ"كاراكوي غولو أوغلو"، الذي أسسه جده الأكبر في القرن التاسع عشر، إنه طلب من الحكومة السامح لصُناع البقلاوة بالاستمرار في عملهم.
وأضاف: "نأكل البقلاوة في كل المناسبات.. خاصة أثناء رمضان، والاحتفالات، والجنازات".
يعمل كبار الطهاة لدى غولو أثناء الإغلاق، إذ يُرققون طبقات عجينة البقلاوة، التي تقتضي التقاليد أن تكون كل طبقة منها بالغة الرفع لدرجة أنك تكون قادراً على قراءة صحيفة عبرها.
يخبز الطهاة الآلاف من صواني البقلاوة، ويغرقونها بالشراب ويعبئونها في عُلب لإيصالها إلى منازل الزبائن.
اكتشاف التقاليد القديمة
سُمح أيضاً للمسحراتية بأن يجوبوا الشوارع ليلاً أثناء حظر التجوال، قارعين طبولهم لإيقاظ الناس لتناول السحور وأداء صلاة الفجر قبل بداية يوم جديد. إنه تقليد قديم يأبى أن يفنى حتى وإن طالبتهم الأحياء التي تغلب عليها "العلمانية" بألا يزعجوهم أثناء نومهم.
ببعض المتعة والفخر، يعيد الأتراك استكشاف تقاليدهم القديمة، مثل ذلك الذي تُنزل فيه ربة المنزل سلة من النافذة وتنادي على صاحب متجر طلباً لبعض البقالة كي يضعها لها في السلة توفيراً لرحلة هبوط وصعود الدرج الشاقة.
نشرت بتول أوزكان من حي الفاتح في إسطنبول، وهو واحد من أقدم أحياء المدينة، صورةً على موقع تويتر لسلة عائلتها وصاحبتها ببيت من قصيدة لجلال الدين الرومي يقول فيه: "هناك أمل بعد اليأس والكثير من الشموس بعد الظلمة".
ومن العادات الأخرى لدى الأتراك، أن يدفع الناس ثمن رغيفي خبز في المخبز لكنهم يتركون واحداً كي يعطيه الخباز لشخص أكثر احتياجاً.
إسطنبول لها تاريخ مع الأوبئة
إلى جانب كل أمجادها الثقافية والمعمارية، عُرفت إسطنبول أيضاً بتفشي الأمراض بها. إذ تفشي كل من الكوليرا والسل على نحوٍ سيئ في قصر توبكابي وكثيراً من المدينة في ما مضى.
بُني الهيكل المنيع للكاتدرائية البيزنطية آيا صوفيا في ذلك الوقت فقط ليكون شاهداً على الطاعون العظيم الذي اجتاح المدينة عام 542 ميلادي، وتركها مدمرة.
لقى 20% من السكان حتفهم أثناء حالات تفشٍّ متكررة، بما في ذلك كبير مساعدي الإمبراطور الحاكم جستينيان. حُفرت قبور جماعية في حي غلطة عبر القرن الذهبي، وكُدست الجثامين على سفن وتركت لتبحر وحدها.
ربما أدت مثل هذه التجارب مع المرض إلى المساعدة في خلق هوس دائم بالنظافة في تركيا. يخلع العمال والضيوف أحذيتهم قبل دخول منزلك. لطالما كانت المطاعم توفر العطر لرشّ يدك به حتى قبل ظهور جائحة "كوفيد-19".
في كثير من زوايا الشوارع تنتصب نافورات منحوتة من الرخام تعود للعصر العثماني، على الرغم من أن عدداً ضئيلاً منها فقط لا يزال به مياه جارية. وفي هذه الآونة يقف مسؤولو الصحة مرتدين قمصاناً ملونة في شوارع التسوق الرئيسية ولديهم زجاجات بلاستيكية تحتوي على مطهرات موضوعة على طاولات أمامهم.
الجائحة تلقي بظلالها على الجميع
عندما ينتهي حظر التجوال المفروض أثناء عطلة نهاية الأسبوع، يسارع الناس إلى الخروج من منازلهم لتنفس الصعداء، حتى أن البعض يذهبون سراً إلى المتاجر الموجودة عند ناصية الشارع مع دقات الساعة إيذاناً بحلول منتصف الليل.
تظل المحال والأعمال التجارية الصغيرة، التي تمثل شريان الحياة للمدينة، مغلقة. توفر المطاعم خدمة طلب الطعام لتناوله بالخارج فقط، فيما ما زال فتح المقاهي والحانات ومحال الشاي محظوراً.
لكن مع تغير الطقس ليكون أكثر دفئاً، تتوق المدينة للعودة إلى قضاء الأوقات خارج المنازل مرة أخرى.
بدأ أصحاب المحال حملة تنظيف ترقباً لعودة الحياة التجارية. وشرعت متاجر التحف في رصّ قطع الأثاث خارجها على الأرصفة. ومع ذلك، لا توجد أي علامة على عودة الزبائن.
كانت الأعمال التجارية الصغيرة تكافح بالفعل منذ بضع سنوات، إذ ترنحت بفعل سلسلة من الضربات الاقتصادية. أما الحرفيون، مثل الخزفيين والنحاتين والصاغة، الذي يعملون في ورش بالغة الصغر في شوارع جانبية شديدة الانحدار في الحي الذي أقطن به، فيبدو أنهم قلة.
لكن الجائحة تلقي بظلالها على الجميع. إذ إن الرجل الذي ينقل الأثاث أو يحمل المشتريات الثقيلة للزبائن على عربة يدفعها ويعيش على قوت يومه، يطلب الآن الإحسان من المارين بالشارع.