ألقِ نظرة على مياه قنوات البندقية اليوم، وستُصاب بالدهشة، ليس لأنك ستتمكن من رؤية القاع الرملي من خلال المياه النقية فحسب، وإنما لرؤية أسراب من الأسماك الصغيرة والسلطعون والحياة النباتية متعددة الألوان أيضاً، في الوقت الذي يختفي فيه الناس من على سواحل القنوات بسبب وباء كورونا.
غلوريا بيغياتو، صاحبة فندق متروبول الشهير الذي يقع على بعد خطوات قليلة من ميدان سان ماركو ويطل على بحيرة البندقية، وصفت المشهد قائلة: "المياه زرقاء ونظيفة. وهادئة كما لو كانت بركة؛ لأن الأمواج التي تسببها القوارب الآلية التي تنقل السياح توقفت. وبالطبع اختفت سفن الرحلات البحرية العملاقة".
كما ازدادت نقاوة المياه بشكل كبير. وعادت طيور البجع والغاق إلى الغوص بحثاً عن الأسماك التي يمكنها رؤيتها الآن. وصنع البط عشاً له في محطة بيزالي روما للقوارب، حتى أن أحدهم وضع لافتة تقول: "احذر دهس بيض البط"، وهو أمر نادراً ما كان يحدث مع كثرة السياح والبشر الذين يزدحمون بالمنطقة، وتحول ملحوظ في المدينة التي شهدت حتى وقت قريب احتجاجات على السياحة المفرطة تحت شعار No Grande Navi (لا مزيد من السفن السياحية).
على الجانب الآخر، فقد تحولت المدينة القديمة بين عشية وضحاها بموجب القواعد الصارمة التي فرضتها للحبس الذاتي لمنع انتشار فيروس كورونا، إذ حُظرت جميع التحركات ما عدا اصطحاب الكلاب للتنزه أو شراء الطعام، كذلك خلت مئات القنوات في مدينة البندقية من قوارب النقل والقوارب السياحية، فيما رست معظم الزوارق على ضفافها. والآن تعمل حافلات النقل النهرية بجدول زمني مخفف.
أما في سوق ريالتو المعروف على مستوى العالم الذي يكون مزدحماً عادة، لا تزال معظم أكشاك الأسماك والخضراوات مفتوحة، رغم قلة الزبائن ووقوفهم على مسافات متباعدة. إذ يُسمح لجميع الأسواق بتقديم خدماتها للعملاء شريطة أن تفصل بينهم مسافة متر واحد على الأقل، وفق المشهد الذي نقلته صحيفة The Guardian البريطانية.
وقد أرجع دافيد تاغليبِترا، الباحث البيئي في معهد علوم البحار، لمحطة تلفزيون محلية نظافة المياه الواضحة إلى غياب وسائل النقل الآلية، التي عادة ما تؤدي إلى تحريك قاع القناة الموحل.
هذا، وقال المهندس المعماري فرانكو فولين الذي يعمل صياداً: "في الوقت الحالي، لن أخرج للصيد لأن جميع المطاعم التي أوّرد لها أغلقت أبوابها، فما الفائدة؟ ولكن عندما ينتهي هذا كله، قد نشهد عودة المزيد من الأسماك لأن صيد السمك للتسلية محظور في الوقت الحالي، وستمتلئ البحيرة بالمزيد من مظاهر الحياة البحرية".
أما ماتيو بيزول فيدير مطعم Venissa في أحد حقول العنب المطلة على البحيرة الضحلة في جزيرة ماتسوربو، وقد قضى بعض الوقت في الدعوة لنموذج سياحي أكثر استدامة ومسؤولية تجاه البيئة في البندقية.
وقال: "بربكم، وجود أسماك في قنوات البندقية ليس بالأمر الغريب. بل غيابها هو ما ينبغي أن يقلقنا لأن النظام البيئي في البحيرة هش. وحري بالناس أن يدركوا أنه إذا تمكنا من التحكم في حركة القوارب في البندقية وبحيرتها والحد منها، فيمكننا جميعاً اكتشاف محيط حيوي فريد".
لم تكن السفن السياحية وحدها هي التي اختفت، وإنما أغلقت أكشاك الهدايا التذكارية التي تصطف على طول ريفا ديلي سكيافوني، ومحلات مورانو للزجاج والأقمشة، والبارات والمطاعم أبوابها أيضاً. ولا شك أنها ضربة قاصمة لاقتصاد يعتمد على السياحة، ولكن في الوقت نفسه يبدو أن السكان المحليين يعيدون اكتشاف مدينتهم، ولكن بطريقة مقيَّدة لا يمكن إنكارها.
في النهاية، عقبت غلوريا: "نحن سكان البندقية نشعر بأن الطبيعة عادت واستعادت سيطرتها على المدينة، إذا سألتني اليوم -سماء زرقاء مشمسة وقنوات صافية- فنعم، نود جميعاً أن تبقى البندقية على هذا النحو لفترة من الوقت. لكننا نحتاج عودة السياح ونتطلع إليها، ولكن ربما ليس 20 مليون سائح سنوياً كما كان الأمر من قبل".
ثم ختمت قائلة: "أعتقد جدياً أننا يجب أن ننتهز فرصة هذا العزل لنتأمل وندرس كيف يمكننا أن نكون أكثر تنظيماً في المستقبل لنحقق التوازن بين المدينة والسياحة".