كانت المملكة العربية السعودية مستقرة معظم الوقت منذ ظهورها. وكانت مَلَكية مطلقة تتعامل مع المعارضين بلا رحمة. فكان الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإخفاءات في الداخل وعمليات الاختطاف في الخارج هي ديدنها. واستُخدِمَت الوهابية كأداة وحشية لفرض السيطرة الدينية والاجتماعية. واشترى الملوك الشعبية لأنفسهم باستخدام العطايا، مثل دفع تكاليف الحصول على الدرجات العلمية بالخارج. هذه هي الطريقة التي عملت بها المملكة –طوال عقود- ورافقها مشكلات داخلية قليلة نسبياً.
فكانت تُحكَم بواسطة مجلس من الأمراء، أبناء الملك المؤسس عبد العزيز، الذين تقاسموا الخيرات في ما بينهم بما يضمن تمثيل كل فرع: فرع نايف بن عبد العزيز حصل على وزارة الداخلية، وفرع سلطان على وزارة الدفاع، وفرع عبد الله على الحرس الوطني، وفرع فيصل على وزارة الخارجية، وفرع طلال على وسائل الإعلام، وهكذا.
ونُقِلَت الحقائب الوزارية المُربِحة من الآباء إلى الأبناء كما لو كانت ممتلكاتٍ عائلية، وبهذه الطريقة تراكمت الخبرة والتجربة وبقيت داخل الأسرة.
تنافسات مريرة
وحين وقعت الأزمات، كانت تُتَّخّذ قرارات جماعية. فكان مجلس العائلة يجتمع وتُتَّخَذ القرارات ببطء وحذرٍ شديد وشبه مبالغ فيه. وقِيل إنَّ السياسة الخارجية السعودية كانت تُمارَس من خلف ستائر شفافة، ولذا كانت غامضة. وكانت المملكة برمتها في خدمة الجيش الأمريكي والمصالح النفطية في الخليج، لكن كان لديها أجنداتها الخاصة ضمن هذا العنوان الكبير.
وكانت هناك خلافات على عمليات خلافة الحكم يمكن مقارنتها بما حدث هذا الأسبوع، مثل تلك المرة حين تحدى ولي العهد فيصل سلطة الملك سعود في الستينيات. لكن تلك الخلافات كانت تُحَل بسرعة وبهدوء. وحين خسر الملك سعود صراع السلطة وأُجبِر على السفر إلى المنفى، وقف الأمير الذي أطاح به في المطار يُلوِّح له مُودِّعاً.
وكانت هناك كذلك تنافسات مريرة. فالصحفي السعودي المقتول جمال خاشقجي كان داعماً لمحمد بن نايف، الذي قاد وزارة الداخلية بقبضة من حديد، فسَجَنَ وأعدم المئات، لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن الأمير أحمد بن عبد العزيز، الذي أطلق سراح السجناء حين تولى نفس المنصب.
ولم يكَلّ خاشقجي قط من قول إنَّه ليس ثمة فارق بين الأمير أحمد وابن أخيه محمد بن نايف، اللهم إلا أنَّ أحدهما كان ولياً للعهد والآخر لا. وأتذكر أنّي كنتُ أعتقد أنَّ هذا تقدير قاسٍ للغاية.
لكن على الرغم من كل التوترات العائلية، كان هناك استقراراً.
لكن ليس بعد الآن. لقد ولَّت هذه الحقبة. ولتنظروا كيف يهتز القارب الملكي السعودي بعنف، وقائمة المؤشرات التالية هذه ليست إلا نتاجاً للأيام القليلة الماضية فقط.
قرارات متسرعة
أُطلِقَت حملة ضد شقيق للملك ونجل المؤسس عبد العزيز بن سعود، والذي كان يُعتَبَر -حتى الآن- لا يُمَس؛ واجتاح الحوثيون مدناً في مديرية خُب والشعف على الحدود مع السعودية، قبل التصدي لهم الإثنين الماضي 9 مارس/آذار؛ وجرى إغلاق حدود البلاد؛ وأُوقِفت العُمرة إلى مكة قبل ستة أسابيع فقط من بداية شهر رمضان؛ وفُرِضت إجراءات الحجر على المنطقة الشرقية؛ في حين لم يُعلَن رسمياً إلا عن عدد صغير من الإصابات بعدوى فيروس كورونا؛ وانهار اتفاق قائم منذ ثلاث سنوات مع روسيا، وغمرت الرياض السوق العالمية بالنفط، ما أدَّى إلى هبوط أسعار إلى مستويات لم تُرَ منذ حرب الخليج 1991.
وكل حادثة من هذه مرجعها رجل واحد: محمد بن سلمان. فهو يتعامل مع كل كارثة بالانتقال إلى أخرى. وتُتَّخَذ القرارات بسرعة مدفع رشاش سريع الطلقات، دون التفكير لثانية في العواقب.
ولنأخذ مثلاً قرار النفط. إذ قدَّرت صحيفة The Financial Times البريطانية أنَّ القرار سيؤدي إلى فجوة بـ140 مليار دولار في عوائد هذا العام لدول الخليج الست في حال ظلَّت أسعار النفط الخام عند مستوى 30 دولاراً للبرميل. وبإمكان دول الخليج الثرية المتمثلة في الكويت والإمارات وقطر أن تتعامل مع ذلك، لكنَّ السعودية والبحرين وعُمان لا يمكنها ذلك. فميزانية السعودية تحتاج إلى سعر 83 دولار للبرميل من أجل الوصول إلى نقطة التعادل (تعادل النفقات مع الواردات).
ربما كان هذا هو السبب في إقالة مهندس خطة الإصلاح الاقتصادي، محمد التويجري، من وزارة الاقتصاد والتخطيط الأسبوع الماضي وتعيينه مستشاراً. فكان هذا هو الرجل الذي حذَّر من أنَّ السعودية ستُفلِس في غضون "ثلاث إلى أربع سنوات" إذا لم تًصلِح أوضاعها المالية.
كان ذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات.
المُقامِر
وينبغي في أحسن الأحوال تصنيف ضخ المملكة للنفط بالمعدل الذي تضخه به الآن باعتباره مقامرة. لكنَّ هذه ليست إلا قائمة مستمرة بالتنامي. فالمقامرة المقبلة هي تحطيم صورة المملكة التي نُسِجَت بعناية باعتبارها قائدة العالم الإسلامي السُنّي والوصية الموثوقة على المقدسات الإسلامية.
كان هذا مصدراً هائلاً للقوة السعودية الناعمة. وكان أيضاً مصدر شرعية لآل سعود.
وحين وجَّه رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، مهاتير محمد، الدعوة لقادة تركيا وقطر وإيران، وكلهم منافسون للسعودية، من أجل عقد قمة مُصغَّرة لقادة الدول الإسلامية في كوالالمبور في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ثارت ثائرة محمد بن سلمان.
وبدلاً من احتضان القمة، سلَّط أُجرَائه على مواقع التواصل الاجتماعي عليها، وتسبَّب خلال ذلك في إيجاد منافس لمنظمة التعاون الإسلامي. واستأسد على رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان حتى لا يحضر. واعتذر خان لاحقاً لمهاتير.
والنتيجة؟ ارتفعت مكانة ماليزيا وتركيا وقطر، بل وحتى باكستان، في العالم الإسلامي السُنّي وتراجعت مكانة السعودية. لكن ليس بنفس سرعة التراجع التي يتسبَّب بها قرار إغلاق حدود المملكة في وجه المعتمرين، قبل ستة أسابيع فقط من بداية شهر رمضان.
التعتيم على كورونا
لا يُعرَف مدى انتشار فيروس كورونا في المملكة؛ لأنَّ الأطباء لا يجرون الاختبارات لاكتشاف الفيروس، وكما هو الحال في مصر، تُبذَل جهودٌ للتهوين من وجوده. هل يعتقد أحدٌ حقاً أنَّه في الوقت الذي توجد فيه 9000 حالة في إيران، و189 في البحرين، و71 في العراق، و74 في الإمارات، و58 في الكويت، أنَّه لا توجد إلا 21 حالة فقط في السعودية؟
وليس معروفاً كذلك إلى متى ستبقى تلك الإغلاقات. فالاستياء الذي تثيره تلك القرارات التعسفية داخل المملكة وخارجها في تنامٍ، وسرعان ما سيصبح مُهدِّداً لولي العهد. فهو يخسر الكثير من الدخل، لكنَّه كذلك يقامر بشرعيته الدينية بصفته الملك المقبل للسعودية.
لذا، فإنَّ السعوديين عالقون. فهم لا يجرؤون على الاعتراف بحجم المشكلة، ولا يمكنهم كذلك تبرير إغلاق المنطقة الشرقية استنادا إلى مبررات طبية. بل هناك دوافع سياسية لفرض إجراءات الحجر على مناطق الأغلبية الشيعية في منطقتي القطيف والأحساء.
وهو ما يقودني إلى آخر قرارات محمد بن سلمان المتمثل باعتقال عمه أحمد بن عبد العزيز.
غطاء ترامب
كان ابن سلمان يعلم –لأنَّ أحمد بن عبد العزيز سمح بمعرفة هذا قبل أن يغادر منزله في لندن- أنَّ عمه حصل على ضمانات من جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6) ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) بأنَّه لن يتعرَّض للاعتقال عند عودته. لكنَّ ولي العهد ،بعدم امتثاله لتلك الضمانات، يعتمد على الغطاء الذي يوفره له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر.
لكن بافتراض عدم بقاء أي من هذين الرجلين في منصبه بعد نوفمبر/تشرين الثاني القادم، ماذا يظن ابن سلمان أنَّه سيحدث لملفات وكالة الاستخبارات المركزية الضخمة عنه؟ سيجري نقلها إلى الرئيس –وليكن مثلاً- جو بايدن، وهو الذي يصف نفسه علناً بالصهيوني ويحظى بدعمٍ إسرائيلي، لكن ربما يُتوقَّع أن تكون له وجهة نظر مختلفة للغاية. وأي شخص يتوقع من بايدن أن يُغيِّر السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، فهو مُقبِلٌ على فترة انتظار طويلة، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ شيئاً لن يتغير.
إذ سيكون لبايدن مصلحة في تفكيك شبكة ترامب الخاصة من الحلفاء الأجانب. ومحمد بن سلمان هو أحدهم. لكنَّ الولايات المتحدة ستظل داعمة للمملكة، لكن ليس بالضرورة للملك الجديد.
وعلى أقل تقدير، سيعتمد القضاء على الأصول الثمينة المعروفة لوكالة الاستخبارت المركزية الأمريكية في السعودية، مثل محمد بن نايف، على افتراضٍ بأنَّه سيكون هناك دوماً شخصٌ ما في البيت الأبيض يكبح رغبات الوكالة في رد الضربات. وفي ظل المناخ السياسي المتقلّب الحالي في الولايات المتحدة، هذه مقامرة هائلة.
فهل سيودُّ أي شخص –باستثناء ترامب- أن يصبح ولي عهد غير مستقر بهذا الشكل ملكاً في دولة تُعَد –على العكس من دول مثل روسيا والصين وإيران وتركيا- محميةً عسكرية أمريكية؟
هذه هي أكبر مقامرة يُقدِم عليها محمد بن سلمان في مسيرته القصيرة كوليٍ للعهد. لكنَّ المشكلة الحقيقية هي أنَّ ابن سلمان، ومستشاريه، قد يكونوا أغبياء للغاية بحيث لا يدركون الخطأ الذي ارتكبه للتو.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.