في الساعة 10:16 من صباح الجمعة 6 مارس/آذار 2020، الذي سادت الرطوبة والكآبة أجواءه، دخل وزير الطاقة الروسي إلى مقر منظمة "أوبك" في وسط مدينة فيينا، وهو يعلم أن رئيسه يشرع في خطوات ستقلب سوق النفط العالمي رأساً على عقب.
أخبر ألكسندر نوفاك نظيره السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن روسيا لا ترغب في خفض إنتاجها النفطي أكثر من ذلك، حسب تقرير وكالة Bloomberg الأمريكية. وكان الكرملين قد استقر على خفض الإنتاج لرفع أسعار النفط، في وقتٍ أضرّ فيه انتشار فيروس كورونا بالطلب على إمدادات الطاقة إضراراً هائلاً، وسيكون ذلك بمثابة هدية بلا مقابل لصناعة الزيوت الصخرية في الولايات المتحدة. فقد أخذت مقاليع الزيوت الصخرية تُدخل ملايين البراميل إلى السوق العالمية، في الوقت الذي أبقت الشركات الروسية على إنتاج متراجع من آبارها النفطية. أمَّا الآن فقد حان الوقت للضغط على الأمريكيين.
بعد 5 ساعات من مفاوضات سادها التهذيب، لكن من دون نتائج حقيقية، والتي حددت فيها روسيا استراتيجيتها بحسمٍ، انهارت المحادثات، لتنخفض أسعار النفط بأكثر من 10%. لم يكن التجار وحدهم من فوجئوا، فقد صُدم الوزراء أيضاً، وفقاً لشخص كان حاضراً في غرفة الاجتماع.
لأكثر من 3 سنوات، أبقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تحالف بلاده مع منظمة أوبك ["أوبك بلس": تحالف يضم دول منظمة أوبك إلى جانب 10 دول نفطية حليفة من خارج المنظمة، مثل روسيا وكازخستان]، متكتلاً مع السعودية والأعضاء الآخرين في منظمة الدول المصدرة للنفط في قرارها الخاص بالحدّ من الإنتاج النفطي للمحافظة على أسعار النفط ودعمها. ولا تدعم صادرات الطاقة خزينة روسيا وحسب، وإنما تُعد أيضاً أكبر مصدر لإيرادات الدولة. وقد حقق التحالف مكاسب على مستوى السياسة الخارجية، وخلق رابطة مع القائد الجديد للسعودية، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لكن تحالف "أوبك بلس" ساعد أيضاً صناعة الزيوت الصخرية الأمريكية، وهو ما أثار غضب روسيا على نحو متزايد من رغبة إدارة ترامب في استغلال إنتاج بلاده من الطاقة أداةً سياسية واقتصادية. وانزعجت روسيا خاصةً من استخدام الولايات المتحدة للعقوبات لمنع استكمال خط أنابيب يربط حقول الغاز في سيبيريا بألمانيا، وهو الخط المعروف باسم "نورد ستريم 2". كما استهدف البيت الأبيض مشروعات شركة "روسنفت" الروسية المنتجة للنفط في فنزويلا.
يقول ألكسندر دينكين، رئيس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في موسكو، وهو مركز أبحاث تديره الدولة الروسية: "لقد قرر الكرملين التضحية بتحالف "أوبك بلس" لوضع حدٍّ لاستفادة منتجي الزيوت الصخرية في الولايات المتحدة من قرارات التحالف، ومعاقبة الولايات المتحدة على عرقلتها لأعمال خط نورد ستريم 2. بالطبع، قد يكون إغضاب السعودية أمراً محفوفاً بالمخاطر، لكن هذه هي استراتيجية روسيا في الوقت الراهن: هندسة مرنة للمصالح".
الرفض الأول
لم يحظَ تحالف "أوبك بلس" يوماً بالشعبية بين كثيرين في صناعة النفط الروسية، إذ استاءوا من اضطرارهم إلى كبح الاستثمارات في مشروعات جديدة ومربحة. وعلى وجه الخصوص، ضغط إيغور سيتشين، رئيس شركة "روزنفت" القوي، وحليف بوتين منذ زمن طويل، معارضاً للقيود، وفقاً لأشخاص مطلعين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم خلال محادثات خاصة.
كما شعر الكرملين بخيبة أمل من أن التحالف مع الرياض لم يسفر عن استثمارات سعودية كبيرة في روسيا.
لعدة أشهر، أخذ نوفاك، وزير الطاقة الروسي، وفريقه، يخبر السعوديين أنهم يودون البقاء في تحالف "أوبك بلس" لكنهم مترددون فيما يتعلق بقرارات تعميق التخفيضات في الإنتاج، وفقاً لأشخاص مطلعين على العلاقة بين الطرفين. وفي اجتماع أوبك الأخير في ديسمبر/كانون الأول، تفاوضت روسيا على موقف سمح لها بالحفاظ على الإنتاج مستقراً إلى حدٍّ ما، في الوقت الذي تحملت فيه السعودية تخفيضات كبيرة في إنتاجها.
عندما بدأ فيروس كورونا المستجد يلقي بظلال كبيرة على النشاط الاقتصادي الصيني، في أوائل شهر فبراير/شباط، وهو ما قلل الطلب على النفط في السعودية، التي تعد مورد النفط الأكبر إلى الصين بنسبة 20%، حاول الأمير عبدالعزيز إقناع نوفاك بضرورة الدعوة إلى اجتماع مبكر لـ"أوبك بلس" لاتخاذ إجراءات تستجيب لانخفاض الطلب، لكن نوفاك رفض. وحتى بعدما تحدث الملك السعودي وبوتين عبر الهاتف فإن ذلك لم يساعد.
مع انتشار الفيروس وتوقع المحللين لأسوأ عام على مستوى الطلب النفطي منذ الأزمة المالية العالمية، كان المعسكر السعودي يأمل في الانتصار لرأيه في مواجهة روسيا في اجتماع منظمة أوبك المقبل، المقرر عقده في أوائل مارس/آذار. لكن، ومع أن روسيا لم تستبعد تماماً المزيد من التخفيض للإنتاج النفطي، فإنها استمرت توضح أن منتجي الزيوت الصخرية يجب أن يتقاسموا الأضرار التي يعانيها منتجو النفط.
تقابل بوتين، الذي بات الحكم النهائي فيما يتعلق بسياسات روسيا في تكتل "أوبك بلس" منذ بدأ التحالف عام 2016، مع منتجي النفط الروس والوزراء الأهم يوم الأحد الماضي. وكان النهج الذي توصلت إليه روسيا هو أن منتجي الزيوت الصخرية يتعين أن يتقاسموا المعاناة الناجمة عن انخفاض الطلب العالمي على الطاقة، وأن الولايات المتحدة عليها أن تخفض إنتاجها أيضاً، وفقاً لما قاله شخص مطلع.
غياب التفاهم
عندما اجتمع وزراء الطاقة في فيينا هذا الأسبوع، بذلت السعودية محاولةً أخيرة لإجبار روسيا. فقد أقنعوا مجموعة الدول الأساسية في منظمة أوبك بدعم قرار يفضي إلى تخفيض كبير للإنتاج النفطي بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً، لكنهم جعلوا ذلك القرار يتوقف على انضمام روسيا ودول تحالف "أوبك بلس" الأخرى إليهم. لكن نوفاك -الذي كان آخر المنضمين إلى الاجتماع في مقر المنظمة في فيينا حيث إن نظراءه كانوا في انتظاره يسودهم القلق- رفض أن يتزحزح عن قرار بلاده برفض تخفيض آخر في إنتاج النفط.
فكر ولي العهد في التواصل مع بوتين الجمعة، بحسب شخص مطلع على الوضع، لكن المتحدث باسم بوتين أوضح أنه ليس لديه خطط للانخراط. أما فيما يتعلق بوزراء النفط في البلدين فلم يكن ثمة تفاهم كبير بينهما، وفقاً لما قاله شخص كان حاضراً في غرفة الاجتماع، وأضاف أنهم لم يتبادلوا ابتسامة واحدة.
ومع كل تسريب يتعلق بعدم التفاهم في الاجتماع، فإن أسعار النفط أخذت في التغير، إذ أدرك التجار شيئاً فشيئاً أن تفاهماً يفضي إلى صفقة ما بين الطرفين يكاد يكون مستحيلاً.