كانت تلك هي بداية رحلتهم إلى الأرض الموعودة، إلى مكانٍ آمن تاقوا إليه طويلاً، أو هكذا ظنّوا. فبعد ساعات من إعلان الحكومة التركية أنَّها لن تمنع اللاجئين من محاولة الوصول إلى أوروبا، أقدم فيضان بشريّ لأناسٍ ينحدرون من أفغانستان وباكستان، أو من الشرق الأوسط وإفريقيا، يسعون للبحث عن ملجأٍ من الحروب والمصاعب الاقتصادية، على مغادرة محطة حافلات في بلدة أدرنة التركية وبدأوا رحلتهم نحو الحدود.
طوابير طويلة نحو اليونان
تقول صحيفة The Guardian البريطانية نقلاً عن مراسلها على الحدود اليونانية التركية: بعد مغادرة الحافلات انقسم المهاجرون إلى مجموعاتٍ أصغر وفق البلد التي انحدروا منها. فوقف الإثيوبيون في طابورٍ منظم، فيما ذهب أحد أفراد الحشد للتفاوض مع سائقي سيارات الأجرة "التاكسي". ونظر الجزائريون إلى هواتفهم وتجادلوا بصوتٍ عال، في حين وقف اثنان من الأزواج الفلسطينيين بجانب عمود خرساني وتناقشا بأصواتٍ هادئة حول ما إن كان بإمكانهما تحمُّل تكاليف ركوب التاكسي حتى الحدود الواقعة على بُعد 15 كيلومتراً.
قرَّر الجزائريون السير، مستسلمين إلى حقيقة أنَّه لا توجد سيارات لنقلهم أبعد من ذلك. ساروا في طابورٍ طويل في الطريق الرئيسي الخالي جيد الإنارة في البلدة التركية، وكانوا يحزمون كل مقتنيات حياتهم في بضع حقائب ظهر مدرسية وحقائب تسوق بلاستيكية صغيرة.
عندئذ، بدأت قطرات المطر تتساقط، ما مثَّل اختباراً آخر للرجال والنساء والأطفال الذين عانوا بالفعل من مصاعب لا يمكن تصورها.
أشار الرجال الذين يقودون المسير إلى طريقٍ صغير وتبعتهم المجموعة، فعبروا الطريق السريع وساروا على طريقٍ أصغر يتقاطع مع منطقة صناعية مليئة بالمخازن والورش. سأل شاب طويل من جزر القمر، الواقعة شرقي إفريقيا، الجزائريين ما إذا كانت المجموعة قد دخلت إلى اليونان أم لا. فأجاب الجزائريون: "لا، لا نزال في تركيا".
كان المطر ينهمر، وامتلأ الطريق الصغير المفروش بالحصى ببرك الماء. حاول البعض حماية أنفسهم بوضع حقائب بلاستيكية على رؤوسهم، ولفَّ أحد الرجلين الفلسطينيين ذراعه حول رفيقته الشابة لحمايتها. وبدأت الكلاب القريبة في النباح حينما مرَّت المجموعة بجوارها، وحضَّ الجزائريون المتأخرين على التحرك أسرع.
فحثَّ أحد الشباب قائلاً: "إذا ما عبرنا الحدود في جمعٍ كبير، فلن يستطيعوا إيقافنا، تحركوا سريعاً".
"هل هذه هي اليونان؟"
يُمثِّل نهر "مريج" خط الحدود بين تركيا واليونان. وقرب بلدة بازاركول، عَبَرَت المجموعة الجسرين اللذين يجتازان النهر، واللذين كانا يهتزان على وقع هطول المطر.
أصيب إثيوبي كان يسافر مع زوجته باليأس حين سمع أنَّه لا تزال هناك نصف ساعة أخرى حتى الوصول إلى الحدود. وتحدَّث الرجل لصحيفة The Guardian البريطانية عن كيفية نزوحه من إثيوبيا ووصوله إلى تركيا قبل أربعة أشهر. وقرَّر الزوجان أن يجرّبا حظهما ويحاولا المغادرة عند سماعهما إعلان أردوغان.
وبعد الجسر، غادرت المجموعة الطريق الضيق وتوغلت في الحقول الطينية حتى صادفت عقبة أخرى، تمثَّلت هذه المرة في صورة خندق. عَبَر الشباب أولاً، ثم حاولوا مساعدة كبار السن والنساء.
وبعد بضعة أمتار، كان هناك خندق آخر أكثر عمقاً. ومجدداً، سأل الرجل القادم من جزر القمر: "هل هذه هي اليونان؟".
مثَّل بستانٌ صغير من أشجار الحور يقع على ضفاف النهر محطة راحة لا بأس بها للمجموعة. فراح حاملو الخرائط يتفقَّدون خرائطهم. وجلس البعض مُرهَقاً في الطين، في حين صرخ الجزائريون الذين كانوا يقودون الطريق في كل من كان يستخدم الهواتف المحمولة، وحثوهم على إغلاقها خشية أن يرصد حرس الحدود أضواءها.
بدأت المجموعة السير مجدداً على طول ضفاف النهر الرملية، لكن كان السير هذه المرة أكثر بطئاً ويتوقف كل بضع دقائق من أجل الإنصات لأي صوت. وباتت أضواء النقطة الحدودية اليونانية الآن مرئية. وخلفها تقع أوروبا، وتصورات أفراد المجموعة عن الحرية.
"اركضوا فحسب"
جثم أفراد المجموعة، وشكَّلوا صفوفاً فيما كان الجزائريون يوضحون أنَّهم يعتزمون الركض عبر السياج الحدودي، صفاً تلو الآخر. وكانت النصيحة المُقدَّمة للآخرين واضحة: إذا ما سقط أحدكم أو أُسقِط، فلا تنتظروه، اركضوا فحسب.
جمع البعض أغصان وأفرع شجر جافة وحملوها فوق رؤوسهم في محاولة للتمويه. وزحفوا ببطء باتجاه السياج واختفوا، ولا يزال مصيرهم مجهولاً بالنسبة لنا، تقول صحيفة الغارديان.
بحلول صباح اليوم التالي، تحول تقطُّر اللاجئين إلى حشد من بضعة آلاف يتجمَّعون عند المعبر الرسمي في بازاركول. واحتشد الآلاف حول نيران لأشجار الصنوبر التي ينبعث منها الدخان، وغطّوا وجوههم من الدخان الأبيض الذي يهب من الجانب اليوناني وتزيد من وطأته الرياح الباردة. وقد هدموا السياج المعدني على الجانب التركي من الحدود ووقفوا يواجهون صفاً من الشرطة اليونانية يرتدون معدات مكافحة الشغب.
من أين أتى هؤلاء المهاجرون؟
يمثل المحتشدون بلداناً تمزَّقت بفعل حرب أهلية أو اضطرابات: سوريا، وليبيا، والعراق، وإيران، وأفغانستان، وكذلك من بلدان بعيدة مثل إرتريا وبنغلاديش.
كان الكثير من هؤلاء في تركيا منذ سنوات ينتظرون العبور إلى أوروبا، في حين أنَّ آخرين وصلوا في وقتٍ أقرب.. كان ضمن الحشد ثلاثة شبان سوريون. قال أحدهم، وهو من حلب: "لا يمكنني العودة إلى سوريا لأنَّني سأُجنَّد بالجيش".
وبحلول الظهيرة، اقتحم جزء كبير من الحشد الجانب التركي من السياج على الحدود ودخلوا المنطقة الفاصلة بين البلدين، وهناك أقاموا مخيماً، في حين وقف آخرون يواجهون الشرطة اليونانية. وبدأ شبّان يلقون الحجارة، فيما ردت الشرطة اليونانية بإطلاق قنابل صوتية وقنابل مسيلة للدموع، التي كانت تصعد في الهواء قبل أن تسقط وسط الأسر والأطفال.
وبحلول المساء، كان الأمر صعباً للغاية بالنسبة للبعض، وقرروا التخلي عن هذه المحاولة والعودة إلى إسطنبول.. لكنَّ كثيرين آخرين استمروا في التوافد على الحدود.