مات مبارك والجيش تعلّم الدرس.. متى ندفن النظام المصري؟

عدد القراءات
884
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/26 الساعة 13:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/26 الساعة 13:33 بتوقيت غرينتش
رويترز

مات حسني مبارك. وبوفاته صباح أمس الثلاثاء 25 فبراير/شباط دقّ جرس إنذار يذكّر بالنظام الاستبدادي في مصر. الرجل الذي صبغ مصر بصبغته مدة 30 عاماً، كان موته محل تكهُّنات وإشاعات طوال 20 عاماً منها، توفي في هدوء، بعدما فقد سلطته ومكانته بسنوات. 

أنا من الجيل الذي كان في المدرسة الثانوية حين كان أنور السادات رئيساً لمصر. حظي السادات باحتفاءٍ دولي باعتباره مُجدِّداً وزعيماً عربياً شجاعاً جلب السلام لبلده وشعبه وللمنطقة. ولكن بالنسبة لشعب مصر، كان السادات طاغية أنانياً، استأثر بالسلطة، وسجن خصومه وترأَّس نظاماً فاسداً أثرى أصحاب المال والنفوذ، وزاد الفقراء فقراً. وكان مهتماً بإقناع الحكومات والشعوب الأجنبية بظهور علامات الحداثة الزائفة في مصر، بينما كان حال البلاد يتدهور يوماً بعد يوم. وعندما اغتيل، تنهَّد الكثير من المصريين ارتياحاً. 

وأكدت سنوات مبارك الأولى في السلطة هذا الشعور بالارتياح: إذ أطلق سراح السجناء السياسيين، وتخلَّى عن أبهة الرؤساء المعتادة، وحيَّد رموز الفساد، وكان هناك تركيزٌ مُطمئِنٌ على إصلاح الاقتصاد والبنية التحتية المتعثرة. لكنَّ هذا الشعور لم يستمر طويلاً. وظلَّ النظام السياسي الذي ترأَّسه السادات، وجمال عبدالناصر من قبله، على حاله.

كان مبارك على درايةٍ جيدة بقدرات مصر المحدودة، ولم يحاول مطلقاً السعي إلى تحقيق طموحات أسلافه المُبالَغ فيها. لكنَّه أيضاً كان يُدرك الشعور المتأصل لدى المصريين بالفخر الشديد. وبدلاً من أن يسعى إلى إعادة هيكلة نظامه السياسي الاستبدادي لتعزيز إمكانات مصر، اختار الحل الأسهل: إبقاء البلاد على حافة الغرق بالكاد، وسدُّ الفجوة بين شعورها بالفخر وواقعها المتدهور بمظهر الفخامة وكبرياء الزعامة.

ولذلك لم تتخذ مصر في عهد مبارك خطواتٍ جادة في أي اتجاه معين. وفي ظل وجود نظام سياسي جامد فشل في تحويل رأس مال المجتمع ونقاط قوته إلى تنمية مستدامة، أصبح البقاء في السلطة هو الرهان الأكثر أمناً. 

وقد كانت هذه بالضبط هي مشكلة عهد مبارك؛ إذ تجاهلت السلطة مشكلات البلاد المزمنة في الوقت الذي تضاعف فيها عدد سكانها وتغيَّرت توقعاتهم من السلطة ومواقفهم السياسية والأيديولوجية. ولم يكن النظام السياسي الذي ورثه مبارك عاجزاً على تنمية البلد فحسب، بل كان ضيقاً جداً لدرجةٍ أعجزته عن احتواء صراعاته السياسية والاجتماعية الداخلية. وفي نظامٍ مهووس بتجنُّب القرارات الصعبة والمصيرية، ظلت عدم كفاءة النظام السياسي ملفاً مهجوراً. 

ويُمكن القول إنَّ البلاد في عهده دائماً ما كانت في وضع "إدارة الأزمات"، ولم يكن لديها الوقت الكافي لفعل أو إنجاز أي شيء ذي جدوى حقيقية، أو التفكير في تغيير المسار، أو النظر في تنفيذ إصلاحاتٍ اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية عميقة.

لكنَّ وتيرة التغيير الاجتماعي والثقافي تسارعت تسارعاً كبيراً بعد عام 1990. إذ وسَّعت الأقمار الصناعية التلفزيونية، ثم الإنترنت من بعدها، شبكة التواصل الاجتماعي للأجيال الجديدة وكسرت احتكار الدولة المصرية لتشكيل الوعي والمواقف الاجتماعية والسياسية. وعرَّض التواصل المفتوح مع العالم الشباب المصري لمجموعةٍ مختلفة تماماً من الأفكار ومعايير الحكم والقيم المجتمعية وقواعد الحكم، بما في ذلك حقيقة أن الانتخابات الحرة كانت تُجرى حتى في بعض البلدان الواقعة تحت الاحتلال، لكنها لم تكن تُقام في مصر. وهنا اتسعت الفجوة بين النظام السياسي وتوقعات الأغلبية منه بدرجةٍ أكبر من اللازم. ليبقي النظام واقفاً على حافة الانهيار بممارسته القمع الانتقائي ضد فئات معينة من المجتمع، وغضّ الطرف عن فئات وقطاعات أخرى، وانتقاء الداخلين في أوساط النخبة والسلطة، مع التهديد والتلويح المستمر بفزَّاعة التطرُّف الإسلامي.

وبذلك استمرت المظالم في الزيادة، وتفاقمت حدة الاستياء، وتراكمت النزاعات خارج الإطار المؤسسي. وفي النهاية، وصلت البلاد إلى نقطة تحول في فبراير/شباط من عام 2011، حين أجبِر مبارك على التنحي، وسلَّم صلاحياته إلى المجلس العسكري. وقد حدث هذا مرةً أخرى في عام 2013 حين انقلب الجيش على الرئيس محمد مرسي بعد عام واحد فقط من انتخابه. ومن المفارقات أنَّ النظام الذي كان مصدر المشكلات منذ البداية ظلَّ باقياً.  

صحيحٌ أنَّ النظام الاستبدادي الحالي في مصر عاجزٌ عن أداء وظائفه الحيوية كما كان في عام 2011، لكنَّه ما زال باقياً بفِعل القمع الشديد والخوف من بدائله. ويُدرك الجيش، الذي يسيطر على الحكم في مصر منذ عام 1952، أنَّ استراتيجية مبارك لإبقاء البلاد على حافة الانهيار لم تعد صالحة للتطبيق. ولكن بدلاً من إصلاح النظام السياسي الذي أدى إلى هذا الانهيار، يتبنَّى الجيش استراتيجية عدوانية لإعادة هيكلة المجتمع كي يُناسِب نظامه الاستبدادي غير الكفء.

خُلاصة القول إنَّ النظام الاستبدادي المصري فقد صلاحيته منذ سنوات عديدة، مثله مثل مبارك. ويبقى السؤال: متى سندفنه؟  

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.

عزالدين فشير هو محاضر في سياسات وثقافة الشرق الأوسط منذ 2016. وقد عمل سابقًا في قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في القاهرة. وعمل فشير سابقاً كمستشار للحركات المطالبة للديمقراطية وبعض المرشحين السياسيين في مصر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عز الدين فشير
كاتب وروائي مصري
عزالدين فشير هو محاضر في سياسات وثقافة الشرق الأوسط منذ 2016. وقد عمل سابقًا في قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في القاهرة. وعمل فشير سابقاً كمستشار للحركات المطالبة للديمقراطية وبعض المرشحين السياسيين في مصر.
تحميل المزيد