تخلت عنها شقيقتها السودان وفشلت في التفاهم مع إثيوبيا.. ما خيارات مصر بعد أن أصبحت وحيدة في أزمة سد النهضة؟

بعد ساعات قليلة من فشل الجولة رقم 29 من جولات التفاوض والتشاور الخاصة بملف سد النهضة بين الدول الثلاث "إثيوبيا، السودان، مصر"، أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد زيارة تفقدية إلى موقع المشروع على الحدود مع السودان في خطوةٍ تحمل العديد من الرسائل للداخل والخارج، كما سنوضح في هذه المقالة.

آخر جولة تفاوض أو تشاور "كما يصفها الجانب الإثيوبي"، انتهت في واشنطن الجمعة الماضية 31 يناير/كانون الثاني الماضي، وكان يفترض أن تصل الجولة التي سبقتها في الـ15 من الشهر ذاته إلى اتفاق شامل حول خطة ملء الخزان وآلية تشغيل السد، ولكن عندما فشلت جلسات منتصف الشهر الماضي تم الاتفاق على عقد جولة أخيرة انتهت في الـ31 من يناير بعد أن تم تمديدها ليومين إضافيين، ومع ذلك لم يحدث أي تقدم غير توقيع مصر منفردة على وثيقة أعدها الوسيط الأمريكي تتعلق بجدول خطة ملء السد على مراحل، وآلية التعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة، أثناء الملء والتشغيل، فيما لم يوقع السودان وإثيوبيا على الوثيقة وطلب وزيرا الخارجية والري في البلدين مزيد من الوقت لإجراء مشاورات مع القيادات العليا.

مسألة حياة أو موت

لعلّ البعض يتساءل عن أسباب عدم توصل الدول الثلاث إلى اتفاق بشأن السد، فالمفاوضات تنعقد وتنفض منذ عام 2013 وبخلاف اتفاق المبادئ الذي احتضنته العاصمة السودانية الخرطوم عام 2015  لم يحدث أي تقدم يذكر، مع العلم أن اتفاق المبادئ معظمه عبارة عن بنود عامة ذات عبارات فضفاضة.

مسألة السد أصبحت قضية سيادية بالنسبة لكل من إثيوبيا ومصر، فالأولى يمثل لها سد النهضة الحلم الأكبر منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد خطط الإمبراطور هايلا سيلاسي لتشييده في مطلع السبعينيات إلا أن الظروف الاقتصادية التي ألمّت ببلاده لم تساعد على تنفيذ المشروع، لكن تهيأت الفرصة من جديد في عهد رئيس الوزراء الأسبق مليس زيناوي الذي يُعد مفجّر ثورة التغيير والتطور في إثيوبيا ففي فترة حكمه شُيّدت المجمعات الصناعية الضخمة لمحاربة الفقر، وامتدت الطرق لتغطي معظم المدن والبلدات الكبرى، كما أُبرمت عقود مترو العاصمة أديس أبابا وفي عام 2010 أكملت الدراسات الخاصة بمشروع سد النهضة لتنطلق أعمال البناء في العام الذي يليه لكن القدر لم يمهله ليشاهد الحلم يتحقق على أرض الواقع فقد رحل بعلة مفاجئة عام 2012.

يشكل السد للإثيوبيين مسألة تحدٍّ شعبي، فهو مشروع قومي لإثيوبيا شارك في تمويله معظم المواطنين حتى الطلاب والشرائح الفقيرة، بينما قدّم رجال المال والأعمال مساهمات كبرى، واستثمرت في سنداته وشهاداته الاستثمارية عديد من مؤسسات الدولة وشركاتها، إلى جانب إثيوبيي الشتات كل هؤلاء مجتمعين مولوا السد بما يعادل 3 مليارات دولار إضافة إلى 1.7 مليار دفعتها الصين.

وعلى الجانب الآخر تتخوف مصر من تأثير السد على حصتها المائية، لذلك تعد مسألة قضية السد بالنسبة لها مسألة حياة أو موت، فالشغل الشاغل للحكومة المصرية هو خطة ملء سد النهضة والآلية التي تتضمن الإجراءات ذات الصلة بالتعامل مع حالات الجفاف، والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء الملء، وكذلك الآلية التي تتضمن الإجراءات الخاصة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء التشغيل، زيادةً على آلية التشغيل نفسه والتنسيق لمراقبة ومتابعة تنفيذ الاتفاق وتبادل البيانات والمعلومات، وآلية فض المنازعات، فضلاً عن إتمام الدراسات الخاصة بالآثار البيئية والاجتماعية لسد النهضة.

ويُقال إن إثيوبيا دخلت جولة مفاوضات واشنطن الأخيرة، التي كان يفترض أن تكون حاسمة، متمسكة بوضع جدول زمني بين 4 و7 سنوات كحدٍ أقصى لملء السد بشكل كامل ومستديم، لإنتاج أكبر قدر من الكهرباء والحفاظ على وتيرة الإنتاج في الفترة بين صيف 2021 وخريف 2026 على أقل تقدير، وبحسب بيان للخارجية الإثيوبية تقدمت مصر باقتراحٍ لملء خزان السد في فترة تتراوح بين 12 إلى 21 سنة، مشددة على أن هذا "أمر غير مقبول"، وأشارت إلى أن الاقتراح المصري يفترض تدفقاً طبيعياً للمياه من النيل الأزرق، وهذا بمثابة حرمان لإثيوبيا ليس فقط من مستقبلها ولكن أيضاً من حقوقها في مياه النيل، حسب البيان الإثيوبي.

النقطة الخلافية الأخرى أن إثيوبيا تتمسك بضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر رفضته مصر؛ إذ ترى أنه سيكون غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهناك خلاف جوهري آخر هو مطالبة مصر بتمرير 40 مليار متر مكعب أثناء فترة الجفاف، وهو ما يعني وقف الملء لبحيرة السد إذا انخفض المنسوب عن هذا الحد، في حين تعرض إثيوبيا اتخاذ التدابير عند حدود 35 مليار متر مكعب وتمرير هذه الكمية في فترة الجفاف، مع العلم أن مصر سبق أن قدمت تنازلات بتخليها عن التمسك بوصول 49 مليار متر مكعب من المياه إلى بحيرة السد العالي، عندما اعترضت إثيوبيا بأن هذا يعني عدم قدرتها على توليد الكهرباء من السد في أوقات الجفاف.

آبي أحمد يواجه ضغوطاً داخلية شديدة

بدا الشارع الإثيوبي غير راضٍ عن قبول حكومته لفكرة الوساطة الأمريكية التي وجهت العام الماضي دعوات إلى الدول الثلاث لاستضافة محادثات لتقريب وجهات النظر، الشعب الإثيوبي لم يتقبل الفكرة لكون الحكومة كانت رافضة لفكرة دخول طرف رابع طيلة السنوات الماضية، ولإحساس الإثيوبيين بأن التدخل الأمريكي هدفه نجدة الحكومة المصرية التي وافقت على مشروع السد من قبل بتوقيعها على اتفاق إعلان المبادئ.

أحزاب وكيانات سياسية واجتماعية عديدة اتهمت رئيس الوزراء آبي أحمد بتقديم تنازلات في المشروع الكبير الذي يُنتظر أن ينتج 6450 ميغا واط من الكهرباء تغطي جزءاً مقدراً من حاجة البلاد ويتم تصدير الباقي لدول الجوار خاصة السودان وكينيا وأوغندا.

جبهة تحرير تغراي "TPLF" المؤسسة للائتلاف الحاكم في إثيوبيا والتي أصبحت أقرب للمعارضة بعد تأسيس آبي أحمد لحزب الازدهار الجديد، تبنّت الهجوم على حكومة رئيس الوزراء متهمةً إياه بالتفريط في المشروع الحلم الذي موله الإثيوبيون من حر أموالهم بعد نجحت مصر في استصدار قرار بمنع التمويل الدولي للسد باعتباره قضية خلافية. وقبل التطورات الأخيرة ولقاءات واشنطن كان نشطاء وإعلاميون محسوبون على جبهة التحرير اتهموا الحكومة بعدم كشف جريمة مقتل مدير السد السابق سيمنجنيو بيكلي الذي رحل في ظروف غامضة قالت السلطات فيما بعد إنها "حادثة انتحار"، إذ تساءل البعض قائلين: "كيف يشتري تذكرة طيران ويحزم حقيبة سفره إذا كان يريد إطلاق النار على نفسه؟".

إلا أن الأحداث التي توالت فيما بعد أكدت أن آبي أحمد قام بمعالجة ما اعتبرها مواطن الخلل في مشروع السد، واتخذ قرارات حاسمة في مواجهة الشركات المتعثرة، ولم يُظهِر رضوخاً للجانب المصري رغم الضغوط الدولية والإقليمية.

الحملة الإثيوبية لدعم السد وحث الحكومة على عدم تقديم تنازلات جوهرية شارك فيها عدة نشطاء وإعلاميون حيث دشنوا هاشتاغ #Itsmydam على موقع تويتر للدلالة على أن سد النهضة ملك للمواطن الإثيوبي وليس للدولة كي تقدم فيه تنازلات بضغوط أجنبية تؤدي إلى خفض نسبة الطاقة المنتجة أو المشروعات المصاحبة. والإثيوبيين بشكل عام لديهم حساسية من التدخلات الخارجية والاستعمار الخارجي، فإثيوبيا البلد الوحيد جنوب الصحراء الذي لم يخضع للاستعمار سوى مرة واحدة لم يستطع فيها المستعمر الإيطالي أن يبقى في البلاد سوى أربعة أعوام فقط وفي ذاكرة الشعب الإثيوبي معركة عدوة الشهيرة التي تحطم فيها الغرور الأوروبي على سفوح حبال تغراي شمالي إثيوبيا، ولم ينجح الإيطاليون في دخول البلاد إلا بعد أن استخدموا السلاح الكيماوي المحظور ضد مقاتلي الحبشة.

وتمثل زيارة رئيس الوزراء آبي أحمد رسالة طمأنة للمشاركين في حملة "إنه سدّي" بأن الحكومة حريصة على أموالهم واستثماراتهم في السد، ورسالة في الوقت نفسه إلى الجانب المصري وإدارة الرئيس ترامب بأنه لا تراجع أبداً عن خطط إكمال السد وبالمواصفات الموضوعة مسبقاً.

لماذا السودان يؤيد سد النهضة؟

كثيرون اعتبروا أن الموقف السوداني المتطابق مع إثيوبيا يرجع إلى مرارات تاريخية بين الخرطوم والقاهرة، من الخلاف على مثلث حلايب والذي يرى الجانب السوداني أن مصر استولت عليه بالقوة، ويذهب آخرون إلى الصورة المشوهة التي تعكسها السينما المصرية والإعلام المصري عموماً عن السودان والإنسان السوداني رغم العلاقات الطيبة والتاريخية بين الشعبين الشقيقين.. الحكومات بطبيعة الحال لا تتعامل بالعواطف، فالسد يحقق منافع جمة للسودان أقلها الحصول على طاقة كهربائية بأسعار تفضيلية، فأديس أبابا تمد جارتها الغربية بـ300 ميغا واط حالياً يتوقع أن ترتفع إلى أكثر من 1100 بعد اكتمال السد.

الأهم من ذلك، سد النهضة سيغير "هيدرولوجية" النيل الأزرق بشكل جذري نتيجة حجز الخزان لكامل فيضان النيل الأزرق في موسم الأمطار خلال الصيف، ثم يبدأ التدفق البسيط بشكل يومي عبر فتحات التوربينات، حيث ينتظر أن تحجز إثيوبيا قرابة 17 مليار متر مكعب لتصل لمنسوب 595 متراً بهدف توليد الكهرباء، ويعني ذلك خروج أقل من 100 مليون متر مكعب يومياً في المتوسط من فتحات التوربينات لتجري في مجرى النيل الأزرق العميق، ولكن بسرعة منخفضة ليست كسرعة جريان المياه كما كان يحدث في موسم الفيضان الذي يعاني فيه سكان المناطق المحاذية للنيل من تدمير منازلهم وممتلكاتهم وحتى أرواح البعض.

هذا هو التغيير الجذري في هيدرولوجيا النيل الأزرق Hydrology of the Blue Nile، الذي سينعكس إيجاباً على الكثير من المزارعين السودانيين الذين كانت تواجههم سنوياً مشكلة فيضان النيل طيلة أشهر الصيف، وفي أشهر الجفاف يضمن السد تدفق المياه لري الأراضي السودانية دون معاناة.

مصر وحيدة فكيف تتصرف؟

في ختام جولة المفاوضات الأخيرة التي استضافتها العاصمة الأمريكية واشنطن وجدت مصر نفسها وحيدة، إذ لم يوقع السودان وإثيوبيا على المسودة الأمريكية المتعلقة بجدول خطة ملء السد على مراحل، وآلية التعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة، أثناء الملء والتشغيل.. إذ طلب ممثلو الخرطوم وأديس أبابا مزيداً من الوقت لدراسة الوثيقة والرجوع إلى صنّاع القرار في البلدين.

يشكل النيل ما نسبته 90% من الموارد المائية لمصر، وفي ظل الوتيرة الحاليّة للمفاوضات التي تمضي بلا أفق بينما ستبدأ إثيوبيا إنتاج الكهرباء من سد النهضة في يوليو/ تموز القادم، فإن مصر على الأرجح ستلجأ إلى خيارات أخرى لتعويض نقص المياه، مثل إنشاء محطات ضخمة لتحلية مياه البحر (الأحمر، الأبيض المتوسط)، وبالفعل تم إنشاء عدد من المحطات في مناطق "العلمين، والجلالة، وشرق بورسعيد، والسخنة، والغردقة، ومطروح وشمال وجنوب سيناء"، إلى جانب إعادة تدوير المياه من خلال محطات معالجة ثلاثية متطورة حتى يتم استخدام المياه أكثر من مرة، وكذلك استخراج المياه الجوفية والاستفادة من مياه الأمطار، أما خيار اللجوء للقوة العسكرية لتدمير السد فهو مستحيل تماماً ولا يتعدى التصريحات الإعلامية، فأي مغامرة من هذا النوع كفيلة بأن تدخل مصر في أزمة عالمية لا أحد يستطيع التنبؤ بمآلاتها.