هناك فخٌّ سهل التجنُّب منصوبٌ منذ سنوات في طريق خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإقامة دولة إسرائيل بين النهر والبحر.
إذ إنَّ الحقيقة التي كانت قائمةً في هذه المنطقة أنَّ عدد الفلسطينيين أكبر من اليهود هناك. فوفقاً لإحصاءاتٍ صدرت في عام 2016 عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وقُدِّمت إلى لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرائيلي، كان هناك 6.5 مليون مسلم و6.44 مليون يهودي بين نهر الأردن والبحر المتوسط آنذاك، وإن كانت هذه الإحصاءات قد أصبحت قديمة ولا تعبِّر عن الوضع الحالي. وقد ذكرت اللجنة آنذاك عدد المسلمين وليس الفلسطينيين، ما يعني أنَّها استبعدت المسيحيين الفلسطينيين.
وهذا يعني أنَّ خطة الضم التي يعتزم نتنياهو تنفيذها لا يمكن أن تنجح بذاتها. فالبنى التحتية الخرسانية الهائلة التي عزَّزت إسرائيل بها احتلالها للضفة الغربية -مثل المستوطنات والجدران العازلة والطرق والأنفاق- وحالة الفصل العنصري فيها التي أصبحت وحشيةً وكاملة كما لو صُنِعَت في جنوب إفريقيا، كلها أدوية مُسكِّنة لمشكلات إقامة دولةٍ ذات أغلبية يهودية لكنَّها لا تُعالج السبب نفسه.
نكبةٌ أخرى
ويمكنك أن تُكرِّر قدر استطاعتك، مثلما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم أول أمس الثلاثاء 28 يناير/كانون الثاني، أنَّ إسرائيل ستسيطر على وادي الأردن، أي حوالي 30% من الضفة الغربية، وتُقِر القانون الإسرائيلي المتعلق بالمستوطنات. ولكن بدون نقل أعداد أكبر من الفلسطينيين خارج دولة إسرائيل الموسعة نقلاً فعلياً، فلن يحدث تغيير يُذكر، وسيُصبح الضم مجرد شكلٍ آخر من أشكال الاحتلال.
ولذلك، يكمن نقل السكان، أو النقل الجماعي للسكان، أو النكبة الأخرى، في صميم "رؤية" ترامب ونتنياهو للسلام.
غير أنَّ هذا سلام من نوعٍ زائف. فهو الصمت الذي سُمِع في القرى الفلسطينية عام 1948، أو في بيت حانون عام 2014، حين قصفت إسرائيل مدرسةً تابعة للأمم المتحدة في شمال قطاع غزة كانت مكتظةً بمئات المدنيين النازحين مما أسفر عن مقتل 15 شخصاً وإصابة 200 آخرين، أو في شرق حلب أو الموصل، بعدما تعرَّضت كل منهما لقصفٍ شديد حتى أصابها دمارٌ هائل. وهو السلام الناشئ وسط الهزيمة الكاملة التامة لنضال الفلسطينيين من أجل إقامة دولة مبنية على أرضهم.
الخطة الخفية
ولذلك، أرى أنَّ صميم الرؤية المُنذِرة بنهايةٍ مشؤومة لا يكمن في خُطَب ترامب أو نتنياهو المؤمنة بسيادة اليهود، التي أعلن فيها كلاهما أنَّ "المهمة قد أنجِزَت"، والانتصار التام للحركة الصهيونية على الشعب الفلسطيني، بل يكمن في فقرةٍ مدفونة بعمق داخل الوثيقة المؤلفة من 180 صفحة، وهي الوثيقة التي تباهى ترامب بأنَّها أكثر الوثائق تفصيلاً على الإطلاق حول هذا الصراع، على وجه التحديد.
وهي الفقرة التي تقول إنَّ مبادلة الأراضي من الجانب الإسرائيلي يمكن أن تشمل "مناطق مأهولة بالسكان وغير مأهولة بالسكان". وقد حددَّت الوثيقة السكان الذين تشير إليهم بدقة، وهُم عرب 1948 الذين يعيشون فيما يُسمَّى بالمثلث الشمالي لإسرائيل والمكوَّن من كفر قرع، وباقة الغربية، وأم الفحم، وقلنسوة، والطيبة، وكفر قاسم، والطيرة، وكفر برا، وجلجوليا.
وتُضيف الوثيقة: "تفكر الرؤية في إمكانية إعادة رسم حدود إسرائيل، رهناً بموافقة الطرفين، بحيث تصبح مجتمعات المثلث جزءاً من دولة فلسطين. وفي هذه الاتفاقية، ستخضع الحقوق المدنية لسكان مجتمعات المثلث لقوانين السلطات المعنية وأحكامها القضائية المعمول بها".
وهذا هو الجزء المستتر من الخطة والأخطر على الإطلاق. فهذا المثلث موطن نحو 350 ألف فلسطيني -جميعهم يحملون الجنسية الإسرائيلية- مكدسين في الجانب الشمالي الغربي من حدود الضفة الغربية. وتضم أم الفحم، أهم مدن المثلث، بعض أنشط المدافعين عن الأقصى.
وقال يوسف جبارين، عضو الكنيست عن القائمة العربية المشتركة، في تصريح لموقع Middle East Eye البريطاني: "أم الفحم هي موطني، ووادي عيرون هو شريان حياتي. والمثلث يحتضن مئات الآلاف من المواطنين العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في وطنهم الأم. وبرنامج الضم والنقل الذي وضعه ترامب ونتنياهو سينتزعنا من وطننا ويجردنا من جنسيتنا؛ مما يشكل خطراً وجودياً على جميع المواطنين من الأقليات العربية. ومن ثم، حان الوقت لليهود والعرب الذين يقدرون الديمقراطية والمساواة أن ينهضوا ويعملوا معاً ضد هذه الخطة الخطيرة".
تطهير عرقي رسمي
منذ سنوات وقادة إسرائيل من تياري اليمين والوسط يتلاعبون بفكرة "النقل الثابت" لهؤلاء السكان إلى خارج إسرائيل. إذ سبق وطرح رئيسا الوزراء السابقان، يهود باراك وآرييل شارون، فكرة نقل السكان وتبديل الأراضي، لكن أفيغدور ليبرمان هو أول من تبنى طرد الفلسطينيين قضيةً دائمةً.
إذ نادى ليبرمان بتجريد 350 ألف فلسطيني في المثلث من الجنسية الإسرائيلية، وإجبار السكان الآخرين، الذي يشكلون 20% من السكان الإسرائيليين ويدينون بديانات غير اليهودية، على أداء "قسم ولاء" أنَّ إسرائيل "دولة صهيونية يهودية"، وإلا يُطرَدوا إلى دولة فلسطينية.
ومنذ عامين مضيا، اقترح نتنياهو على ترامب تخليص إسرائيل من المثلث. والآن حُفِظَت خطط التطهير العرقي هذه في وثيقة رسمية صادرة عن البيت الأبيض.
وقال أيمن عودة، بوصفه عضواً فلسطينياً في الكنيست، في تغريدة، إنَّ إعلان ترامب "يعطي الضوء الأخضر لتجريد مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين العرب الذين يعيشون شمال إسرائيل من جنسياتهم".
دعم ترامب
كان وجود السفراء الإماراتيين والبحرينيين والعمانيين بين الحضور هو السمة المميزة الأخرى لإعلان البيت الأبيض يوم الثلاثاء، 28 يناير/كانون الثاني. إذ رحبت المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة بالخطة من دون تحفظ. كما فعلت قطر ذلك، رغم أنها أضافت أنه يجب التفاوض على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وأن يحتفظ الفلسطينيون بحقهم في العودة.
وقال ترامب إنه اندهش من كم الاتصالات التي تلقاها من قادة العالم للإعراب عن دعمهم للخطة، من بينهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
إذ أعرب جونسون عن كامل دعم بريطانيا لخطة ترامب، ملقياً وراء ظهره 4 عقود من السياسة الخارجية البريطانية القائمة على حل دولتين عادل ومنصف. بدوره، أصدر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب بياناً أعرب فيه عن "ترحيبهم" بالصفقة. وقال: "هذا من الواضح اقتراح جدي ينُم عن بذل جهد ووقت مكثفين".
وتفاخر ترامب: "لا أصدق مدى الدعم الذي تلقيته هذا الصباح. تواصل معي قادة عدة، فبوريس (جونسون) هاتفني، وغيره الكثيرون. وعرضوا جميعاً المساعدة بكل ما بوسعهم".
ومع ذلك، هناك البعض ممن يدركون مدى خطورة هذه الخطة. والسيناتور كريس ميرفي هو واحد منهم. إذ قال في تغريدة: "اتخاذ قرار أحادي بضم وادي نهر الأردن والمستوطنات الحالية، الذي يُعَد غير قانوني بموجب القانون الأمريكي والقانون الدولي، سيعيق عملية السلام لعقود من الزمن، بل ويخاطر باندلاع عنف خطير وزعزعة استقرار على نطاق هائل داخل أماكن مثل الأردن".
"وحيد في المنزل"
يجب ألا يستهين أحد بالطبيعة التاريخية لهذا الإعلان الأخير؛ فهو بمثابة إعلان وفاة لحل الدولتين أو فكرة إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة مجاورة لدولة ذات غالبية يهودية. وقد لفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل قبل وقت طويل من اتفاقات أوسلو.
إذ أخبر كل من السوفييت -ممثلين في رئيس الوزراء الروسي يفكيني بريماكوف- والأمريكيين -وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر- صانعي السلام العرب مثل الملك حسين، عاهل الأردن، بأنَّ الدولة الفلسطينية المستقلة لن تصبح واقعاً أبداً. وكان هذا حتى قبل مؤتمر مدريد الذي سبق توقيع اتفاقيات أوسلو. ولم يكن الملك بحاجة إلى حضور جنازة صديقه إسحاق رابين، الذي اغتيل عام 1995، ليدرك ذلك؛ فقد فهمها بالفعل. لكنها أصبحت الآن ميتة رسمياً.
فقد أعطت الولايات المتحدة الآن موافقتها الرسمية على الحدود الشرقية لدولة إسرائيل. والخريطة التي نشرها موقع Middle East Eye تفسر كل شيء. إذ تشبه الدولة الفلسطينية كما تتصورها الخطة أشعة الرنين المغناطيسي لدماغ مريض مصاب بالزهايمر. الدولة الفلسطينية التُهِمَت بالكامل.
وتبعث هذه الخريطة للفلسطينيين من جميع الفصائل رسالةً واضحة وضوح الشمس مفادها: انسوا انقسامكم، فلتنسوا ما حصل بين فتح وحماس في 2007، دعوا عنكم مزاعم الانقلاب، واتحدوا. اتحدوا ضد هذا التهديد الوجودي.
فقد صار الفلسطينيون بمفردهم حقاً، وجميع الأسس التي يستند إليها موقفهم التفاوضي اختفت. إذ سُلِب منهم القدس، وحق العودة، وحق اللاجئين في العودة، ومرتفعات الجولان، ووادي الأردن. إضافة إلى ذلك، لم يعُد لديهم حلفاء عرب. فسوريا مدمرة، والعراق مُقسَّم، ومصر والسعودية أصبحتا الآن دميتين تحركهما إسرائيل. لقد فقد الفلسطينيون دعم أكثر الدول العربية اكتظاظاً بالسكان وأغناها.
أضف إلى هذا، أنهم ليس لديهم ملاذ يفرون إليه. فأوروبا أُغلِقَت في وجه أية موجات هجرة جماعية مستقبلية. أي أنهم لم يعُد لديهم سوى خيار واحد؛ هو: البقاء والقتال. إذا أصبحوا يداً واحدة، يمكنهم إلغاء خطط إسرائيل المتطرفة للتطهير العرقي. فقد فعلوا ذلك سابقاً ويمكنهم فعله مرة أخرى.
معاناة جديدة
على الفلسطينيين الآن مواجهة هذا الواقع. إنَّ اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، في عام 1993، قد وصل أخيراً إلى الطريق المسدود الذي كان مُقدَّر له دوماً أن ينتهي إليه. فلم تكن قرارات الولايات المتحدة ولا القانون الدولي ولا قرارات الأمم المتحدة ستهب لإنقاذهم أبداً، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنَّ خطة ترامب الوحشية أسدت إلى الفلسطينيين معروفاً. فقد دحضت خيالات قائمة منذ عقود.
ما يجب أن يبدأ الآن هو موجة جديدة من الكفاح من أجل المساواة في الحقوق في دولة واحدة في كامل أرض فلسطين التاريخية. وهذا سينطوي على معركة ضخمة. فلا ينبغي لأحد أن يقلل من شأن ما سيحدث إذا نهض الشعب الفلسطيني للنضال من جديد. مثلما لا ينبغي لأحد أن يشكك فيما ستكون عليه عواقب الرضا بما حدث.
هذه هي المرة الأولى منذ عام 1948 التي يمكن للفلسطينيين جميعهم أن يوحدوا صفوفهم. عليهم انتهاز الفرصة، وإلا سيتلاشوا ولن يصبحوا سوى مجرد حاشية في صفحات التاريخ.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
ديفيد هيرست: رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.