في نهار الـ21 من مارس/آذار من عام 2018، تلقَّى أغنى رجل في العالم ومالك موقع أمازون، جيف بيزوس، دعوةً لحضور مأدبة عشاء صغيرة على شرف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
لبّى بيزوس الدعوة، التي كانت يوم 4 أبريل/نيسان 2018، أي بعد أسبوعين من تلقي الرسالة، وتبادل فيها الرجلان أرقام هواتفهما في مأدبة العشاء، التي شهدت ضيوفاً آخرين من بينهم كوبي براينت، لاعب كرة السلة السابق، وبوب إيغر الرئيس التنفيذي لشركة ديزني.
بداية التواصل بين الرجلين
من الطبيعي أن يحدث تواصل بين الرجلين من خلال هواتفهما الخاصة بعد هذه الجلسة، لكن الذي لم يكن يتصوره أحد أن تكون هناك حيلة، كانت تُرسم من أحدهم للإيقاع بالآخر، واختراق خصوصيته وقرصنة جهازه.
بعد شهر واحد فقط، وبالتحديد في الأول من مايو/أيار 2018، تلقّى بيزوس "رسالة من حساب ولي العهد" عبر تطبيق واتساب، كانت عبارة عن ملف فيديو، استقبله بيزوس، وقام بتحميله على هاتفه الآيفون إكس.
كل شيء كان يسير على ما يرام بالنسبة لبيزوس، لكن في السعودية يبدو أن الأمر كان مختلفاً تماماً، فالرسالة التي استقبلها بيزوس سمحت لهم بتسريب بيانات أغنى رجل في العالم بكميةٍ ضخمة.
في الأيام والأسابيع التي أعقبت ذلك، أرسل بيزوس -الذي كان متزوجاً آنذاك- رسائل نصية خاصة إلى حبيبته، يتحدث فيها عن مشاعره العاطفية.
في 8 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، أي بعد شهر واحد فقط من اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، تلقَّى أغنى بيزوس رسالةً تطفُّلية من حساب محمد بن سلمان على تطبيق واتساب.
الرسالة الصادرة من ولي العهد السعودي احتوت على صورة واحدة تحمل تشابهاً واضحاً مع المرأة التي أقام الملياردير بيزوس علاقةً جنسية سرية معها. واحتوت كذلك على عبارةٍ يبدو أنها تهكمية، بحسب الأمم المتحدة.
تقول العبارة التي وردت بالرسالة: "الجدال مع امرأة يشبه قراءة اتفاقية ترخيص البرامج، ففي النهاية عليك أن تتجاهل كل شيء، وتضغط على خيار "موافق"".
فضيحة تسببت في تدمير حياة بيزوس الأُسرية
لاحقاً، وبالتحديد في شهر فبراير/شباط 2019، صُدم بيزوس عندما نُشرت تلك الرسائل في صحيفة National Enquirer الأمريكية، لكنَّ الظروف الدقيقة المُحيطة بنشرها لم تتضح.
لم يمر ما جرى على بيزوس مرور الكرام، فقد تسبب ذلك في فضيحة له، أدت إلى تدمير حياته الزوجية، وانفصاله عن شريكة حياته، واضطراره للتوصل إلى تسوية معها، انتهت بحصولها على حصة في أمازون قيمتها نحو 36 مليار دولار.
بدأ بيزوس بعدها يبحث فيما جرى، وكيف تمكنت الصحيفة الأمريكية من الحصول على معلوماته وبياناته الخاصة التي كانت موجودة على هاتفه الخاص، فأوكل إلى شركة FTI Consulting الاستشارية التحقيق في الأمر.
قبل صدور التقرير من الشركة، يبدو أن بيزوس كانت لديه بعض الشكوك، فقد لمح في خضم أزمته مع صحيفة National Enquirer الأمريكية، في تدوينة غير عادية نشرها على موقع "ميديم"، إلى أن الهجمة التي طالته من قبل مالك الصحيفة ديفيد بيكر تعود إلى انتقادات صحيفته "واشنطن بوست" للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وللسعودية، معتبراً أن رئيس "أميركان ميديا" عمد إلى إنتاج "صحيفة موالية للسعودية"، وفق توصيفه.
وما قد يعزز الشكوك لديه، هو أن محمد بن سلمان تربطه علاقة جيدة بديفيد بيكر، مالك صحيفة National Enquirer، تجسدت في لقاءين.
من جانبها أنكرت شركة American Media Inc الأمريكية، التي تملك صحيفة National Enquirer، تورُّط أي "طرف ثالث" في حصولها على معلوماتٍ عن بيزوس، مؤكِّدةً أنها حصلت على المعلومات السرية من مايكل سانشيز شقيق حبيبة بيزوس، بحسب ما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية
لكنَّ سانشيز، أعلن بعدها أنَّ الصحيفة الصفراء كانت على درايةٍ بالعلاقة غير الشرعية بالفعل، حين اتّصلت به لأول مرة في يوليو/تموز من عام 2018، وأنَّها كانت قد "اطَّلَعت" بالفعل على رسائل نصية بين بيزوس وحبيبته.
كما يُعرف ديفيد بيكر الذي كان مشهوراً في هوليوود، في واشنطن، بأنَّه رجلٌ لديه علاقات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وله تاريخ في حلِّ بعض المشكلات لترامب، بما في ذلك "وأد" بعض التقارير الصحفية السلبية عن ترامب، وعلاقاته السرية خارج إطار الزواج.
صدور نتائج التحقيق من بيزوس
صباح الأربعاء 22 يناير/كانون الثاني 2020، نشرت الصحافة البريطانية تفاصيل نتائج التحقيق الذي توصل له خبراء التحقيقات الذين عينهم جيف بيزوس، التي تقول وبدرجة ثقة "متوسطة إلى قوية" إن حساب الواتساب الذي يستخدمه ولي العهد كان منخرطاً بصورة مباشرة في قرصنة هاتفه، بعد تسلّمه رسائل ومقاطع فيديو مشفرة.
أما عن الأسباب التي قد تدفع ولي العهد السعودي لتنفيذ عملية كهذه مع هذا الشخص بالتحديد، فيقول التقرير، إنه كان بمثابة عقاب لبيزوس على نشر خاشقجي مقالات بصحيفته، ومتابعتها لقضايا الناشطين السعوديين الذين يتعرضون لاضطهاد.
بعد ساعاتٍ من نشر التقرير، نشرت سفارة المملكة لدى الولايات المتحدة تغريدة على تويتر تقول فيها إنَّ التقارير الإعلامية التي تدَّعي أن المملكة وراء قرصنة هاتف السيد جيف بيزوس أمر سخيف، داعيةً إلى التحقيق في الادعاءات حتى يحصل الجميع على حقائق.
خطة لاستهداف المقربين من خاشقجي
أُرسِلت نتائج التقرير إلى المُقرِّرة الخاصة لدى الأمم المتحدة، أغنيس كالامارد، وديفيد كاي، وهو مُقرِّرٌ خاص آخر لدى الأمم المتحدة، ورأت أغنيس التي تُحقِّق في مقتل خاشقجي، أنَّ الرسالة تبدو دليلاً على أنَّ محمد بن سلمان حاول تهديد بيزوس.
كما أن الرسالة يبدو أنَّها كانت تهدف إلى جعله يشعر بأنه مُعرَّض للفضيحة، في الوقت الذي كانت تواصل فيه صحيفة The Washington Post الأمريكية، التي يملكها، نشر تقارير لاذعة عن مقتل خاشقجي الذي كان أحد صحفييها، بحسب ما صرحت به أغنيس لصحيفة The Guardian البريطانية.
وتضيف معلومات جديدة نشرتها أغنيس وكاي، مُقرِّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية التعبير، إلى أنَّ استهداف بيزوس المزعوم كان مجرد بداية لحملة أوسع تسعى إلى استهداف الأشخاص الذين كانوا على مقربة من خاشقجي، وعلى اتصالٍ مستمر معه.
كما تشير الحقائق الجديدة التي كشفتها الأمم المتحدة إلى حملةٍ سيبرانية دُبِّرَت لاستهداف بيزوس، ودائرة الأشخاص المُقرَّبين إلى خاشقجي.
هذا يدل، من وجهة نظر أغنيس، على أن "هذه الفترة شهدت جهوداً مُدبَّرة لاختراق أنظمة الأشخاص الذين اعتُبِروا أنَّهم يُشكِّلون تهديداً ما على محمد بن سلمان، أو النظام الحكومي في المملكة العربية السعودية. وهذا لا يعني أنَّها كانت تهدف إلى الحصول على معلومات معينة. لقد كانت تهدف إلى استخدام هذه المعلومات في المستقبل".
ويشير الجدول الزمني الذي نشره كاي وأغنيس يوم أمس الأربعاء 22 يناير/كانون الثاني، إلى أربعة من النقاد السعوديين البارزين، استُهدِفوا ببرمجيات خبيثة في الأسابيع التي أعقبت ذلك، هم: يحيى عسيري، وعمر عبدالعزيز -اللذان كانا على اتصال دائم مع خاشقجي- وغانم الدوسري، الناقد الساخر المقيم في لندن، ومسؤولٌ في منظمة العفو الدولية كان يعمل في المملكة العربية السعودية.
يُذكَر أنَّ خاشقجي دخل السفارة السعودية في إسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018، وقُتِل هناك. وادَّعى تقرير وكالات الاستخبارات الأمريكية وتقرير أغنيس فيما بعد أنَّ محمد بن سلمان يتحمل مسؤولية القتل.
وقال كاي وأغنيس في تقريرهما إنَّ المملكة العربية السعودية شهدت بعد ذلك بوقتٍ قصير "حملة ضخمة على الإنترنت" ضد بيزوس وأمازون، استهدفت بيزوس في الأساس بصفته مالك صحيفة The Washington Post.
وقال كاي وأغنيس إنَّ الحملة السيبرانية ضد بيزوس انتهت في 1 أبريل/نيسان الماضي.
جديرٌ بالذكر أنَّ الحكومة السعودية تُصِرُّ على أنَّ محمد بن سلمان ليست له علاقة بمقتل خاشقجي. وتنفي كذلك استخدام تكنولوجيا المراقبة ضد منتقدي المملكة.
ولكن في مساء أمس، مع استمرار تزايُد حجم القصة، تذكَّر بيزوس الصحفي الراحل في تغريدةٍ نشرها.