امتلأت أجواء إيران توتراً، الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني، حين أقلعت الرحلة الدولية الأوكرانية رقم 752 متجهة إلى كييف. فقبل ساعات قليلة، أطلقت إيران صواريخ ضد قاعدتين في العراق تستضيفان قوات أمريكية، وكانت القوات الإيرانية في حالة استنفار؛ تحسباً لأية ضربات أمريكية مضادة.
ووفقاً لبيانات أولية من الأقمار الصناعية، لم يكن هناك أي شيء غريب في إقلاع الطائرة وصعودها بالجو. لكن بعد دقائق قليلة من انطلاق الرحلة، اشتعلت النيران في الطائرة من طراز "بوينغ 737" وهوت إلى الأرض؛ وهو ما أسفر عن مقتل جميع ركابها الـ176.
في أفضل الأحوال حسب تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية يمكن أن يستغرق تحديد سبب تحطم طائرة دولية عاماً كاملاً أو ما يزيد من العمل الاستقصائي الشاق ومحققين من عدة دول. وقد يتبين أنَّ كشف حقيقة ما حدث فوق سماء طهران أصعب من ذلك؛ بالنظر إلى التوترات بين إيران، حيث تحطمت الطائرة، والولايات المتحدة، حيث صنعت الطائرة شركة بوينغ، التي تعلق في كارثة عقب حادثتين قاتلتين يشملان طراز الطائرة نفسه.
يقول مسؤولون أمريكيون إن الدفاعات الجوية الإيرانية أسقطت الطائرة على الأرجح بطريق الخطأ. وخلصت أوكرانيا إلى أربعة سيناريوهات محتملة منها إصابة الطائرة بضربة صاروخية أو عمل إرهابي، لكن وكالة أنباء الطلبة الإيرانية قالت إن رئيس هيئة الطيران المدني بالبلاد نفى الخميس "الشائعات غير المنطقية" التي تقول إن الطائرة الأوكرانية التي تحطمت قرب طهران أسقطت بصاروخ.
ونقلت الوكالة عن علي عابد زادة قوله "من الناحية العلمية، من المستحيل أن يضرب صاروخ الطائرة الأوكرانية ومثل هذه الشائعات غير منطقية".
في الوقت ذاته قال رئيس وزراء كندا إن الطائرة قد تكون أُسقطت بصاروخ دون قصد.
سفارة أوكرانيا مسحت البيان
وفور وقوع الحادث، صدرت تصريحات محيرة ومتناقضة من أوكرانيا وإيران. ففي البداية، أصدرت السفارة الأوكرانية لدى إيران بياناً استبعدت فيه تحطم الطائرة نتيجة عمل إرهاب أو هجوم صاروخي. لكن السفارة مسحت البيان عن موقعها في وقت لاحق، واستعاضت عنه بآخر يقول إنَّ من السابق لأوانه وضع أية استنتاجات.
وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في منشور على موقع فيسبوك: "لا بد من التدقيق في جميع الفرضيات المحتملة" لسقوط الطائرة، مضيفاً أنَّ الخبراء الأوكرانيين سيسافرون إلى طهران؛ لإجراء تحقيقات واستعادة جثامين الضحايا الأوكرانيين.
يمكن أن تطول حالة الشكوك هذه صناعة الطيران، التي تعتمد بشكل كبير على طائرات "737 إن جي" في الرحلات التجارية. وبالنسبة لـ "بوينغ"، هذا التحطم هو الأحدث ضمن سلسلة من الأحداث المدمرة التي عصفت بالشركة منذ أول حادث تحطم طائرة 737 بإندونيسيا في أواخر عام 2018.
توقيت التحطم أثار الشكوك
ومع ذلك، أثار توقيت التحطم شكوكاً فوراً. إذ فتحت إيران نيرانها على القوات الأمريكية في ساعة مبكرة من صباح الأربعاء، 8 يناير/كانون الثاني، رداً على غارة جوية أمريكية يوم الجمعة، 3 يناير/كانون الثاني، أسفرت عن مقتل جنرال إيراني بارز وزعيم الميليشيات العراقية المدعومة من إيران؛ في أحدث خطوة من سلسلة تصعيد طويلة بين البلدين.
ففي هذا الصدد، قال بيتر جويلز، مدير سابق للمجلس الوطني الأمريكي لسلامة النقل، إنَّ المحققين ينبغي أن يضعوا فرضية سقوط الطائرة نتيجة هجوم، "على قائمة أجندة عملهم".
الثلاثاء، قبل ساعات من تحطم الطائرة، منعت إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية الطائرات الأمريكية من التحليق فوق إيران، مشيرة إلى خطر إمكانية الخلط بين الطائرات التجارية والطائرات العسكرية. ووفقاً لـFlightradar24، غيرت بعض شركات النقل غير الأمريكية مسار رحلاتها الجوية يوم الأربعاء؛ لتجنب التحليق فوق العراق وإيران. يُذكَّر أنَّه في عام 2014، في وقت مبكر من الحرب بشرق أوكرانيا بين القوات الحكومية والانفصاليين المدعومين من روسيا، أسقط صاروخ روسي رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17؛ وهو ما أسفر عن مقتل 298 شخصاً.
على الجانب الآخر، قال أبو الفضل شيكارتشي، متحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، إنَّ تحطم الطائرة لم يكن نتيجة عمل عسكري.
ونقلت وسائل الإعلام الإيرانية عن شيكارتشي قوله: "هم يروجون للرواية التي تفيد بأنَّ الرحلة الأوكرانية كانت مستهدفة. هذا سخيف! فمعظم ركاب هذه الرحلة من شبابنا وشاباتنا الإيرانيين. وأياً كان ما نفعله، فالهدف منه حماية بلدنا وشعبنا والدفاع عنهما".
وعادةً ما تقود الدولة التي يحدث فيها حادث تحطم تحقيقاً في الحادث، وتسمح بمشاركة مسؤولين من البلد الذي صُنِّعَت فيه الطائرة، بالإضافة إلى البلدان التي ينتمي إليها الضحايا. لكن مع اشتباك الولايات المتحدة وإيران في نزاع عنيف متصاعد، اتضح فوراً أنَّ التعاون في التحقيقات سيكون مشحوناً.
واستُعِيدَت "الصناديق السوداء"، أو سجلات بيانات الرحلة، من موقع التحطم، وعادةً ما تُرسَل إلى صانع الطائرة لتحليلها. ومع ذلك، قال رئيس منظمة الطيران المدني الإيراني، علي عابد زادة، لوكالة أنباء مهر شبه الرسمية، إنَّ إيران لن ترسل الصناديق السوداء من رحلة الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية إلى شركة بوينغ.
ونقلت وكالة "مهر" عن زادة، قوله: "لن نعطي الصناديق السوداء للشركة المُصَنِعَة ولا الأمريكيين". لكنه قال إنَّ المسؤولين الأوكرانيين سينضمون إلى التحقيقات التي ستجريها إيران في الحادث.
ومع ذلك، وعدت شركة الطيران بإجراء تحقيق كامل يشمل مسؤولين من أوكرانيا وإيران وشركة بوينغ. وأعلن الرئيس الأوكراني إنه أمر المدعي العام ببلاده بفتح تحقيق جنائي في الحادث، وسيُفحَص أسطول الطيران المدني بأكمله في البلاد.
من جانبه، قال مايكل هويرتا، مسؤول سابق في إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية: "حين يتعلق الأمر بالطيران المدني الدولي، نميل إلى اعتقاد أنَّ الخبراء التقنيين سيتولون زمام الأمور. لكن بالنظر إلى أنها إيران، علينا الانتظار لرؤية ما سيحدث".
وبعد ظهر أمس الأربعاء، قال المجلس الوطني لسلامة النقل بالولايات المتحدة، الذي كثيراً ما يشارك في تحقيقات حوادث الطيران بأجزاء أخرى من العالم، إنه لم يُطلَب منه المشاركة بعد.
وغادرت طائرة "737" مطار الإمام الخميني الدولي في طهران في تمام الساعة 6:12 صباح الأربعاء، وعلى متنها 176 شخصاً، من بينهم تسعة من أفراد الطاقم، وفقًا لشركة الطيران التي نشرت أسماء القتلى. لكن السلطات الإيرانية ذكرت أنَّ عدد القتلى يُقدَّر بـ177 شخصاً، في حين أشارت بعض المنظمات الإخبارية الإيرانية إلى تعداد ضحايا آخر.
ووفقاً لموقع Flightradar24، الذي يتعقب الطائرات اعتماداً على إشاراتها اللاسلكية، وصلت الطائرة إلى ارتفاع 8000 قدم (2.4 كيلومتر) تقريباً وسرعة تفوق 300 ميل (482 كيلومتراً) في الساعة. ثم بعد دقيقتين إلى ثلاث دقائق من الإقلاع، توقف الإرسال الأوتوماتيكي لبيانات الرحلة فجأة، رغم أنها ظلت محلقة في الهواء بضع دقائق إضافية. وقال عابد زادة إنَّ الطائرة لم تتصل ببرج المراقبة بشأن حالة طوارئ.
من جانبها، نشرت وكالة أنباء "الطلبة" الإيرانية، وهي مؤسسة إعلامية تديرها الدولة، مقطع فيديو قالت إنه لحادث تحطم الطائرة، وتظهر فيه طائرة مشتعلة تفقد ارتفاعها، قبل أن تتحول لكرة لهب تضيء السماء. وعلى الجانب الآخر، توصلت صحيفة The New York Times الأمريكية لمقطع فيديو آخر يُظهِر التحطم من زاوية مختلفة.
"استيقظنا على صوت التحطم"
وقال ساجد شيرخاني، البالغ من العمر 29 عاماً، ويعيش بالقرب من موقع تحطم الطائرة: "استيقظنا على صوت التحطم. قفزنا من أسرَّتنا وركضنا للخارج، وجميع نوافذ منزلنا تهشَّمت. ركضنا للخارج اعتقاداً منا أنَّ صاروخاً قصفنا، وأنَّ الحرب اندلعت".
تحطمت الطائرة على أرض زراعية بالقرب من قرية خلج أباد، على بُعد 10 أميال تقريباً شمال غربي آخر إشارة للطائرة تعقبها موقع مراقبة الطائرات Flightradar24. يبدو أن الطائرة انحرفت في اتجاه الشمال الغربي وحلقت عدة أميال بعد أن توقف جهاز إرسالها عن العمل.
ركاب مزدوجي الجنسية
كان هناك اختلاف على تحديد جنسيات الضحايا، لكن قد يكون هذا لأن بعض الركاب كانوا مزدوجي الجنسية، كانت الإحصائيات الإيرانية تفيد بوجود 147 إيرانياً، وكنديين على متن الطائرة، في حين قال فاديم بريستايكو، وزير الخارجية الأوكراني، إنهم كانوا 82 إيرانياً و63 كندياً.
قال جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، في تصريح له: "حكومتنا ستواصل العمل عن كثب مع الشركاء الدوليين، لتضمن أن (حادث) التحطم هذا سيخضع لتحقيق دقيق، وأن أسئلة الكنديين ستلقى إجابات لها".
تعطل محرك للطائرة
هناك نظرية أخرى للتحطم وهي أن أحد محركي الطائرة تعطل. قال قاسم بينياز، مسؤول في وزارة الطرق والتنمية الحضرية الإيرانية، لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية، وهي وكالة الأنباء الرسمية للدولة، إن أحد محركي الطائرة اشتعل ولم يتمكن الطيار من استعادة السيطرة على الطائرة.
قالت وكالة أنباء فارس، المنصة الإعلامية شبه الرسمية، في تقرير عن الحادث: "طائرات ركاب بوينغ 737 لها سمعة سيئة بتكرار حدوث المشكلات الفنية". في إشارة واضحة إلى حادثي التحطم اللذين ضما طائرة الشركة من طراز 737 Max. وبعد ذلك قال عابد زاده لوكالة أنباء Mehr الإيرانية إنه حتى الآن لا يوجد دليل على أي مشاكل تقنية.
لكن الطائرات التجارية مصممة لتتمكن من الطيران حتى لو توقف أحد المحركين. كما أن حرائق المحركات منتشرة نوعاً ما في الطائرات التجارية، لكن قلما يتسبب في تحطم الطائرة.
ومن النادر أن يتسبب تعطُّل المحرك في تدمير الطائرة أو إلحاق الضرر بها، ففي عام 2018، مرت رحلة طيران تابعة لشركة Southwest Airlines في طريق عودتها من نيويورك إلى دالاس، بهذه الحالة الطارئة، ونتج عن الأمر مقتل شخص واحد.
خضعت للصيانة قبل يومين من الحادث
تقول شركة الطيران إن الطائرة المتحطمة بإيران كانت من طراز 737-NG، وصُنعت في عام 2016، ووصلت إلى المطار من المصنع مباشرة، وخضعت للصيانة المجدولة قبل وقت قريب للغاية يوم الإثنين 6 يناير/كانون الثاني، أي قبل يومين من الحادث. لم تقدم شركة الطيران أي نظريات حول إذا كانت الطائرة أُسقطت بضربة ما، ولكنها قالت إن الفريق الذي كان على متن الطائرة كان مدرباً على أعلى مستوى.
بينما تُعرف خطوط الطيران التابعة للاتحاد السوفييتي السابق برداءتها في ملف السلامة، قالت شركة الخطوط الجوية الأوكرانية إن معايير السلامة لديها خضعت لمراجعة وموافقة لمعايير الإدارة الطيران الفيدرالية، الخاصة باتفاقات مشاركة رحلات الطيران مع الشركاء الأجانب. ولم تختبر الشركة من قبلُ تحطماً مميتاً، وفقاً لقائمة بحوادث الطيران الأوكراني أعدتها مؤسسة Flight Safety.
تُعتبَّر هذه الطائرة من أكثر الطائرات المستخدمة في أنحاء العالم، إذ صُنع منها أكثر من 7 آلاف طائرة منذ عام 1998، وسجلت الطائرة أكثر من 250 مليون ساعة طيران، وأقل من 10 حوادث مميتة.
لكن هندسة بوينغ أصبحت تحت المجهر في السنة الماضية، بعد حادثي تحطم شملا طرازاً مختلفاً عن الطائرة وهو الطراز 737 Max. وهذان الحادثان اللذان كان سببهما جزئياً النظام الحاسوبي الجديد على الطائرة، تسببا في مرور بوينغ بكبرى أزماتها على الإطلاق. إذ مُنع هذا الطراز Max من الطيران في أنحاء العالم منذ شهر مارس/آذار، وأُقيل المدير التنفيذي للشركة في الشهر الماضي.
وبينما تجاهد الشركة لإصلاح طائرة Max حتى تُصدق عليها الهيئات المنظمة للطيران، ظهر مؤخراً مزيد من أخطار السلامة بالطائرة. ربما أيضاً تريد الشركة أن تُقيَّم هذه المخاطر في مجموعة طائراتها من طراز 737-NG، التي تضم طراز 737-800. وهبطت أسهم شركة بوينغ في البورصة نحو 2% يوم الأربعاء 8 يناير/كانون الثاني.
في حال اتضح أن التحطم في طهران كان عطلاً ميكانيكياً، سيثير تساؤلات عن طراز 737-NG، وستكون النتائج كارثية بالنسبة لشركة بوينغ. وقالت الشركة في تصريح لها: "إننا على علم بتقارير الإعلام في إيران، ونجمع مزيداً من المعلومات".