أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على استهداف الرجل "الأخطر" في منطقة الشرق الأوسط، وأحد أبرز العسكريين الإيرانيين، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، بغارة جوية في العراق، ومعه رفقاء آخرون كانوا في طريقهم لأحد الاجتماعات المهمة في العراق.
تذرّعت واشنطن على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقتل قاسم سليماني، المعروف في إيران بالحاج قاسم، بدعوى أنه كان يُخطط لقتل المزيد من الجنود الأمريكيين، وأنه مسؤول عن إسقاط آلاف الأمريكيين بين قتيل وجريح على مدى فترة طويلة من الوقت، وترامب بطبيعة الحال محق في ذلك، لمسؤولية سليماني عن نشاط إيران العسكري خارج البلاد طيلة السنوات الماضية، سواء في سوريا أو العراق أو لبنان.
وقد صنع قاسم سليماني عداوات على مدار سنوات طويلة في العالم العربي، بسبب موقفه من الثورات العربية، حيث وقف داعماً للنظام السوري، وللمصالح الإيرانية في مواجهة الشعب السوري، فضلاً عن محاولاته في الأيام الأخيرة لاحتواء المظاهرات العراقية من خلال لقائه بمقتدى الصدر في الأسابيع التي سبقت مقتله، فضلاً عن باقي الملفات التي تحضر فيها إيران في المنطقة، وهي كافية بطبيعة الحال أن تصنع من الرجل عدواً واضحاً للشعوب في المنطقة.
حاشية مهمة بخصوص قاسم سليماني والمقاومة الفلسطينة
على النقيض، كان لقاسم سليماني دور واضح في تدعيم المقاومة الفلسطينية بالسلاح الكافي في مواجهة العدوان الإسرائيلي، خاصة في حرب 2014، وقد قام بذلك كجزء من مسؤولياته في هذا الملف المهم للجمهورية الإسلامية التي تنطلق قناعاتها الدينية من دعم لحركات المقاومة في فلسطين لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
وهي إشكالية بطبيعة الحال، تدفع بالمتابع إلى استيعاب فلسفة الانحيازات في السياق السياسي، فرغم موقف البعض من الإيمان بالرفض المطلق للموقف الإيراني في الشرق الأوسط لما تسببت فيه من قتل المئات وتشريد الآلاف وتعطيل مسار وتطلعات شعوب كانت تريد الانطلاق نحو الحرية، وبالتالي فموقفها من دعم المقاومة الفلسطينية مرفوض، ومن العيب أن تُعلن حركات المقاومة تلاقيها السياسي والداعم لمواقف إيران في بعض الملفات في المنطقة.
لكن على الجانب الآخر يذهب البعض، وأنا منهم، إلى أن المواقف السياسية يحكم عليها بتفصيلاتها المنفصلة عن باقي المواقف، حيث إنه من الممكن الثناء على موقف طرف ما، مادام يدعم ما هو متوافق عليه لدى الشعوب من البحث عن الحرية والتحرر، مع إنكار موقف نفس الطرف في مكان آخر، وهو يتعارض مع قيم الحرية والعدل والتحرر.
وبالتالي، فموقف طهران من المقاومة الفلسطينية لا يمكن إنكاره في خضمّ تقييم موقفها من مواجهة الثورة السورية أو الحراك العراقي، أو الحراك في لبنان أو دعمها لجماعة الحوثي في اليمن أو حتى تطلعاتها السياسية في إفريقيا على حساب شعوب هذه المناطق.
لذلك ووفقاً لحالة قاسم سليماني، ظهرت الأصوات المتطرفة التي تنفي عن الإيرانيين أي قيمة إيجابية في مشروعها السياسي في المنطقة، وتستحضر طيلة الوقت جرائمها في المنطقة، وأن الجزاء من جنس العمل.
هذه الحاشية الخاصة بالموقف الإيراني من المقاومة الفلسطينية جديرة بالوقوف عندها، في ظل تناول مآلات الوضع في الشرق الأوسط بعد اغتيال قاسم سليماني ومستشاره ونائب رئيس ميليشيات الحشد الشيعية العراقية ذات الولاء للإيرانيين أبومهدي المهندس.
توقيت استهداف قاسم سليماني
إذا ما بحثنا في أهمية توقيت استهداف قاسم سليماني فعلينا استذكار الحادث الشهير الذي استهدفت فيه طهران طائرة أمريكية، في نهاية يونيو/حزيران من 2019، وقالت إنّ الطائرة كانت بغرض التجسس، ما دفع الحرس الثوري الإيراني إلى استهدافها.
هذه الحادثة كانت ضاغطاً على إدارة ترامب، الذي طُلب منه رد قاسٍ على الإيرانيين، لكنه في اللحظات الأخيرة تراجع عن توجيه ضربة لأهداف إيرانية، وقال إنه راعى وتخوف من سقوط مدنيين في الحادث، فتراجع قبيل إصدار الأوامر بتوجيه الضربة.
تلا ذلك ما يمكن أن يُطلق عليه "عربدة" طهران في مضيق هرمز، واحتجازها للسفن، ونداءات بعض دول الخليج مثل السعودية بضرورة وقف إيران عن تربّصها بحركة الملاحة في المنطقة، وخروج تصريحات من الإدارة الأمريكية بالتهديد والوعيد للإيرانيين.
ومع دخول العراق في أتون حراك سياسي جنباً إلى جنب مع الوضع في لبنان، تصاعدت حدة الأوضاع في المنطقة، وكان البطل المحرك لها هي طهران، التي كانت تسعى إلى وأد الحراك الشعبي في العراق، ونسف تطلعات الشعب الذي كان يسعى إلى إنجاز ثورة سياسية واجتماعية تعوضه عن حالة الفقر والمعاناة التي يعيشها منذ سنوات.
وسعت إيران إلى التلاقي مع مقتدى الصدر لوأد وإيقاف الحراك السياسي، ما كان له الأثر اللَّحظي بالفعل في إيقاف جذوة الحراك ولو بشكل مؤقت، واستخدام إيران لذراعها العسكرية في العراق؛ الحشد الشعبي، لإرسال رسائل طيلة الوقت للإدارة الأمريكية بضرورة ألا تتدخل في الملف العراقي، وإلا ستطالها صواريخ الحشد.
كل هذه التفاصيل كانت مقدّمة بطبيعة الحال لحصار السفارة الأمريكية في بغداد، بعد استهداف الطيران الأمريكي لكتائب حزب الله العراقية وقتل العشرات، وهو ما رأته إيران رسالةً واضحةً من واشنطن، أن اليد العليا في العراق مازالت لأمريكا، وعلى إيران الالتزام بقواعد اللعبة.
ومع محاولة الحراك الشعبي العراقي الترفّع عن الطائفية وتقديم صورة "مقبولة" من التآلف البعيد عن المطالب الطائفية، وخروج تصريحات أمريكية داعمة بشكل علني لهذه التظاهرات، ودعواتها لإيران بالتوقف عن التدخل في الحراك السياسي، كان واضحاً لإيران أنّها معركة عضّ أصابع بين الطرفين.
الصيد الثمين بوجود أبومهدي المهندس
في ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم، طالب وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير، بضرورة التصدي لعدوانية إيران، لأنها تُهدد المنطقة برمتها، ولم يعد من الممكن تحمل عدوانيتها، وذلك على هامش قمة منتدى المتوسط في العاصمة الإيطالية روما، كانت تصريحات الوزير السعودي عقب استهدافات إيرانية "وفق تقارير قالت إنها قادمة من العراق عن طريق الحشد الشعبي"، لشركة أرامكو .
المشرف الأول على استهداف أرامكو، الذي كان يشهد بنفسه كل التفاصيل هو نائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس، والذي يعتبر العدو الأول والمطلق للسعودية في العراق، هذا الرجل الذي كان يعمل مستشاراً لقاسم سليماني، كان له دور كبير في قيادة الحشد الشعبي ضد أهداف سعودية، وبطبيعة الحال ضد أهداف أمريكية في العراق، ما جعل استهدافه في الليلة المشهورة برفقة قاسم سليماني مكسباً كبيراً للرياض، التي ترى في موته انتقاماً لما قام به من استهداف لأرامكو وتكبيدها مليارات الدولارات خسائر بسبب ذلك.
مقتدى الصدر وعودة جيش المهدي
تسبب مقتل قاسم سليماني في دعوة مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، فصيله المسلح المعروف باسم "جيش المهدي" وفصائل أخرى "منضبطة"، إلى الاستعداد من أجل حماية العراق.
قال الصدر في بيان له "إنني كمسؤول المقاومة العراقية الوطنية، أعطي أمراً بجهوزية المجاهدين لاسيما (جيش الإمام المهدي) و(لواء اليوم الموعود)، ومن يأتمر بأمرنا من الفصائل الوطنية والمنضبطة، لنكون على استعداد تام لحماية العراق".
فصيل جيش المهدي مجمد نشاطه منذ 2007، حيث كان يعمل ضد الجنود الأمريكيين لإنهاء الاحتلال للعراق، ولذلك فدعوة مقتدى الصدر لفصيله جيش المهدي بالجهوزية يعني الآتي:
- أن الحراك السياسي العراقي في طريقه للإنهاء ودخول البلاد في شبه "صدام" مسلح جديد بين فصائل شيعية، وما تبقى من الجيش الأمريكي في العراق، والذين يُقدر عددهم بـ5 آلاف جندي أمريكي.
- لن تستطيع الحكومة العراقية المقبلة التعاطي سياسياً مع هذا التحول الجديد لموقف مقتدى الصدر، خاصة أن قتل قاسم سليماني سيخلق حالة من التعبئة الشعبوية التي ستتوافق مع دعوات الصدر للعمل المسلح ضد الوجود الأمريكي في العراق.
- هذا سيسمح للإيرانيين بطبيعة الحال بتوظيف الوضع لمحاولة رد الاعتبار والانتقام من أمريكا، بسبب مقتل قاسم سليماني.
- ستعود العراق لنقطة الصفر مرة أخرى وتختفي الأحاديث عن ملفات الفساد والمحاصصة في مقابل "لا صوت يعلو فوق صوت الانتقام لسليماني"، ما يُمهد الباب أمام الإيرانيين لإعادة بسط النفوذ في المشهد السياسي والعسكري في العراق بشكل أعمق.
السؤال المهم في هذه الأزمة، كيف ستردّ إيران على قتل سليماني؟
بوضوح ودون الحديث عن تفاصيل قد تُشتت الأذهان، فلن تندلع حرب في منطقة الشرق الأوسط بين أمريكا وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، على الأقل في الفترة القريبة، للأسباب التالية:
- أمريكا تدرك جيداً متى تتدخل في الشرق الأوسط لضبط إيقاع الصراع، ومتى تنزوي بعيداً، وبالتالي فقتل سليماني هو محاولة لضبط أداء الصراع في المنطقة، ودفع كل الأطراف إلى أن يلزم كل منهم مكانه وحدوده وخطوطه الحمراء، دون تعدٍّ فجٍّ وواضح ومتبجّح.
- الحالة التي فيها إيران الآن، خاصة تلك المتعلقة بالواقع الاقتصادي جعلها في موقف صعب للغاية، لا تقوى معه على تحمل تكلفة حرب كاملة، سواء مع أمريكا أو حلفائها، ولا قادرة على تغطية احتياجات أذرعها العسكرية في المنطقة، فترامب نجح في خنق إيران مالياً، فباتت تواجه أزمة في توفير الاعتمادات المالية التي تريدها أذرعها، بل وقد قلصت المزيد من الميزانيات بسبب العقوبات الأمريكية عليها.
- لا أرى أن المراقب الدولي، وأعني هنا أطراف مثل روسيا والصين وحتى الاتحاد الأوروبي سيقف بموقف المتفرج، حال وصول الأمر إلى حتمية الصدام، خاصة مع حرص بكين على سبيل المثال على التمدد في الشرق الأوسط في السنوات القليلة الماضية، وكذلك موسكو، وبروز دعوات للحرب يعكّر صفو مسيرتهم الهادئة في المنطقة.
- رغم حالة الحشد الكبيرة من جانب بعض دول الخليج، لواشنطن، من أجل الحرب مع إيران، إلا أن بعض دول الخليج تدرك جيداً أنهم هم الذين سيدفعون ثمن هذه الحرب، سواء من خلال ضخ الأموال إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتمويل الحرب، أو تحمل تبعات الهجوم الإيراني على هذه الدول، وبالتالي ستحدث خسائر ضخمة في الاقتصاد، وضحايا الحرب من المواطنين.
وبناء عليه فإن إيران ستضطر مؤقتاً إلى ابتلاع الدواء المر، بقتل أبرز رجالاتها العسكريين، لكنها ستضطر من أجل الظهور بدور الوفي أمام شعبها، إلى استخدام أذرعها في اليمن، وفي العراق، وفي سوريا، لمهاجمة الرياض وبعض الأهداف الإسرائيلية، بالإضافة إلى بعض الأهداف الأمريكية "غير المهمة" في العراق، مع محاولاتها انتهاز فرصة انشغال الإدارة الأمريكية بملفات هامة، مثل انتخابات 2020، وربما ساعتها يكون لها رد ترى فيه أنه يضمد جراح كبريائها بقتل الحاج قاسم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.