يوشك النظام السوري على حسم الانتصار في الحرب المستمرة في سوريا منذ حوالي 9 سنوات، ويرجع الفضل الأكبر في ذلك إلى الدعم الإيراني والروسي القوي للنظام السوري. لكن مع انتهاء الحرب، سرعان ما تبرز تساؤلاتٌ حول كيفية ضمان استمرار السلام في البلاد، وتأثير ذلك في نفوذ الحلفاء الذين ساعدوا النظام في تحقيق الانتصار.
وعلى وجه الخصوص، هناك غموضٌ كبير بشأن النفوذ الإيراني العميق في سوريا، في ظل سعي دمشق إلى وضع سبل استراتيجية للخروج من عزلتها الاقتصادية، واستعادة سيادتها على شؤونها الداخلية، وتقليل تعرُّضها للهجمات الإسرائيلية المتكررة. غير أنَّ هذه الضرورات تتعارض مع بعض جوانب الاستراتيجية الإيرانية في سوريا، ما يخلق وضعاً قد لا يكون أمام دمشق فيه أيُّ خيارٍ سوى تقليص نفوذ طهران إلى الدرجة التي كان عليها قبل الحرب إذا أرادت إيجاد طريقة لإعادة إعمار نفسها، كما يقول مركز Stratfor الأمريكي للدراسات الاستراتيجية.
الصورة العامة
مع اقتراب تحقيق الاستقرار في سوريا، تتغير قيمة حلفائها. فحين كان الصراع في ذروته، تمكنت إيران من تحويل سوريا إلى جبهةٍ هجومية أمامية ضد إسرائيل، وطريق إمداد قوي إلى حزب الله، وساحة حربٍ بالوكالة ضد خصومها العرب في الخليج. ولكن الآن في ظل حاجة دمشق إلى الخروج من عزلتها الاقتصادية وتأكيد سيادتها على شؤونها الداخلية، تواجه ضغوطاً للتصدِّي لجوانب الاستراتيجية الإيرانية التي تعزلها عن أصدقاء جدد محتملين، وتُعرِّضُها لهجمات إسرائيلية متكررة.
تناقُص قيمة إيران
على مرِّ العقود الماضية، حافظت طهران ودمشق على علاقاتٍ وثيقة بينهما، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى شعورهما المشترك بانعدام الثقة تجاه إسرائيل، وتفرُّدهما باعتبارهما نظامين غير سُنِّيين في الشرق الأوسط. وطوال الحرب نجحت إيران في كسب نفوذ أكبر في سوريا لأنَّ تدخُّلها جاء في وقتٍ كانت دمشق في أمسِّ الحاجة إليه.
إذ قدَّمت طهران أسلحة وميليشيات عزَّزت قوة جيش النظام السوري الذي كان هشَّاً وممزقاً بسبب الانشقاقات وعاجزاً بسبب انعدام الثقة. وفي الواقع، قدمت القوات الإيرانية والقوات المرتبطة بإيران الكثير من الموارد التي سمحت لدمشق باستعادة المدن الرئيسية في سوريا، ودفع قوات المعارضة نحو الحدود الشمالية مع تركيا.
لكن مع خضوع المدن الكبرى مثل دمشق واللاذقية وحلب وغيرها لسيطرة النظام السوري، يتوق سكان هذه المناطق، لا سيما الموالون للنظام، إلى استعادة الحياة الطبيعية والانتعاش الاقتصادي. غير أنَّ الأمم المتحدة قدَّرت أنَّ تكلفة إعادة الإعمار تصل إلى 400 مليار دولار، ما يعني أن جهود إعادة الإعمار ستتطلب مساعدة العديد من الدول، بما في ذلك بعض الدول المعادية للنظام السوري الحالي. ونظراً إلى ذلك، ومع مرور إيران بمعاناة اقتصادية بسبب العقوبات المفروضة عليها، فليس لديها الكثير لتُسهِم به في إعادة الإعمار.
سوريا أمام أكبر عزلة اقتصادية
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ النظام السوري يسيطر حالياً على معظم المدن الرئيسية في البلاد، التي كانت تضم 77% من سكان سوريا قبل الحرب (جديرٌ بالذكر أنَّ موجات النزوح وضعف إدارة السجلات أثناء الحرب أسفرت عن عدم توافر رقم محدد لسكان سوريا في الوقت الراهن). وفي ظل الأمن النسبي المتوافر في المناطق التي يسيطر عليها النظام، كان سكان تلك المناطق، حتى وقتٍ قريب، يشهدون انتعاشة اقتصادية، حتى أنَّ مصرف سوريا المركزي أعلن نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.9% في عام 2017، الذي كان آخر عامٍ ينشر فيه المصرف مثل هذه البيانات (غير أنَّ البنك الدولي ما زال يعتقد أنَّ الناتج المحلي الإجمالي في سوريا قد تراجع في الفترة نفسها).
لكن هناك سلسلة من المشكلات تعيق التقدم الاقتصادي حالياً، ما يجبر البلاد على إعادة التفكير في استراتيجياتها للتغلُّب على العزلة الاقتصادية. إذ ألحقت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، التي تعد أكبر حليف اقتصادي لسوريا، ضرراً بقدرة طهران على تمويل مشروعات البنية التحتية وتوفير خطوط ائتمان للسلع الأساسية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ إيران كانت تمنح سوريا حوالي 8 مليارات دولار سنوياً قبل العقوبات الأمريكية، لكن يبدو أنها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها السابقة، إذ خفَّضت طهران أجور الميليشيات المتحالفة معها وأجَّلت إتمام بعض المشروعات في سوريا، أو سلَّمتها إلى شركاتٍ روسية.
أمَّا بالنسبة للتجارة وتدفُّقات الطاقة، فلم تعُد هي الأخرى إلى مستوياتها الطبيعية. فما زالت طرق التجارة القديمة في سوريا مُعطَّلة إلى حدٍّ كبير، نظراً إلى أنَّ حدودها الرئيسية مع تركيا ما زالت مغلقة، بينما فشلت الطرق التجارية التي تمر عبر العراق والأردن في حل محل الطرق القديمة. وفي الوقت نفسه، ما زالت حقول موارد الطاقة الصغيرة في سوريا خاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية المدعومة من الولايات المتحدة. فضلاً عن أنَّ الفساد الداخلي القائم منذ فترةٍ طويلة ما زال يستنزف الموارد، فيما تتفاقم معاناة سوريا الاقتصادية بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان، التي تعد آخر شريك تجاري رئيسي لسوريا، وأحد متنفَّساتها الاقتصادية الرئيسية نحو العالم.
حان الوقت لاكتساب "أصدقاء جدد"
ومع أنَّ دمشق تقترب من حسم معركتها بالكامل، فإنَّ سخط الموالين للنظام السوري من الأوضاع الحالية يثير تساؤلاتٍ حول مستقبل سوريا. إذ ظهرت حالةٌ من الاستياء في دمشق بسبب النقص المستمر في موارد الطاقة الذي أدى إلى وجود طوابير انتظار طويلة لشراء الوقود. فيما أسفر نقص الأموال الواردة من الحدود اللبنانية حالياً عن إلحاق ضررٍ بالأعمال التجارية في سوريا، ما فاقم حالة الاستياء بشأن عزلة البلاد.
وحتى النظام السوري ما زال ممزقاً بسبب التحزُّبات الداخلية والنفوذ العسكري الذي حازه بعض أطرافه بسبب الحرب والأغراض السياسية الشخصية. إذ تهيمن عائلة الرئيس بشار الأسد على الدولة، لكنَّ بعض العشائر الطائفية ورواد الأعمال وقادة الميليشيات والضباط العسكريين والبرلمانيين يتنافسون جميعاً للحصول على حصةٍ من الغنائم التي يمنحهم إيَّاها ولاؤهم للدولة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ إيجاد توازن بين هذه الفصائل الداخلية يمثل أولويةً منذ فترةٍ طويلة لعائلة الأسد، وسيظل كذلك في العام المقبل 2020.
ونظراً إلى وضع النظام السوري، يجب عليه إيجاد موارد اقتصادية جديدة لتوزيعها على تلك الفصائل. ولأنَّ الإسهامات التي يُمكن لطهران تقديمها محدودة، وفي ظل تردُّد موسكو وبكين حتى الآن في تقديم مساعدات مالية، تتطلَّع سوريا إلى أبعد من ذلك، وتحديداً إلى بعض دول الخليج، إذ حققت بعض التقدم الدبلوماسي مع الإمارات العربية المتحدة و البحرين.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الإمارات، على وجه الخصوص، ثريةٌ بما يكفي للاستثمار في إعادة إعمار سوريا. وهي تُعد كذلك شريكاً دبلوماسياً مفيداً يمكن أن يقنع الرياض بالانضمام إلى جهود إعادة الإعمار بدرجةٍ ما. ولكن في الوقت الحالي، فالعقوبات الثانوية الوشيكة التي ستفرضها الولايات المتحدة على سوريا ستمنع جميع الشركات من مساعدة سوريا والتخفيف من قيودها باستثناء الشركات ذات القدرة العالية على تحمُّل المخاطر.
ثمن المساعدة
وبطبيعة الحال، فهذه الدول الخليجية العربية تريد ثمناً خاصاً مقابل المساعدة: وهو تقليص نفوذ إيران في سوريا. وفي ظل عودة الوضع الأمني في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام إلى طبيعته نسبياً، يُمكن أن تتقبل سوريا دفع هذا الثمن، لأنها لم تعد بحاجةٍ إلى نفس مستوى التدخل الإيراني الذي كانت تحتاج إليه في السنوات الماضية، بل إنَّ الضرر الذي تسببه القوات الإيرانية الموجودة في سوريا لدمشق حالياً ربما يكون أكبر من نفعها على بعض الأصعدة.
وهذا ينطبق بالأخص على تعامل إسرائيل مع سوريا، إذ تواصل القوات الإسرائيلية ضرب القوات الإيرانية الموجودة داخل سوريا، ما أدى إلى إتلاف بعض منشآت البنية التحتية السورية الحيوية مثل مطار العاصمة. لذا يُمكن القول إن العمل على تقليص النفوذ الإيراني إلى الدرجة التي كان عليها قبل الحرب الأهلية لن يُقرِّب سوريا إلى دول الخليج فحسب، بل سيقلل كذلك من دوافع إسرائيل لمواصلة حملتها المستمرة منذ فترة طويلة ضد القوات الإيرانية الموجودة في سوريا.
وكذلك ففي الوقت الحالي، لا يرغب النظام السوري نفسه في السماح باستمرار "النفوذ الأجنبي" في السياسة الداخلية السورية. ولكن إذ سعت سوريا إلى استعادة بعض استقلالية التصرُّف وتقليص نفوذ إيران في البلاد، فطهران ستحاول بطبيعة الحال الحفاظ على نفوذها، ولكنَّها أثناء فعل ذلك، قد ينتهي بها المطاف عدوةً للنظام السوري أو روسيا أو كلاهما، لا سيما إذا فعلت ذلك بأسلوبٍ أشد أو أسرع ممَّا تستطيع سوريا تحمُّله.
في النهاية، يخلص مركز Stratfor، إلى أنه بينما تحاول سوريا إعادة الاندماج في المجتمع الدولي والعثور على طرفٍ يُموِّل بعض عمليات إعادة إعمارها، قد يقترب عهد الهيمنة الإيرانية في دمشق من نهايته. وإذا حدث ذلك، فقد تجد إيران نفسها في الوضع الذي كانت فيه في عام 2011، حين كانت حليفةً رئيسية لسوريا، لكنَّها لم تكن راعية رئيسية قادرة على استخدام سوريا حسب رغبتها.