بالرغم من أن الشمس هي أقرب النجوم إلينا فإن هذه الكرة الغازية الضخمة المكونة من الهيدروجين والهيليوم لا تزال تخبئ العديد من الأسرار التي لم يكتشفها البشر بعد، لذلك قررت وكالة ناسا إطلاق مسبار باركر الشمسي ليكون أول مركبة فضائية تستكشف الشمس عن كثب.
فما هو هذا المسبار؟ وما الألغاز التي ساعدنا على كشفها؟
ما هو مسبار باركر؟
بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية، أطلقت وكالة ناسا في 12 أغسطس/آب 2018 مركبة فضائية روبوتية أطلقت عليها اسم "مسبار باركر الشمسي"، بهدف اكتشاف الغلاف الجوي الشمسي ودراسته عن قرب.
وهو أول مسبار فضائي يقترب من الشمس لهذا الحد، حيث إن المسافة الفاصلة بينه وبين سطح الشمس تقارب حوالي 15 مليون ميل فقط، كما وصل إلى أعلى سرعة مسجلة وصلت إليها أي مركبة فضائية أخرى.
وسمي المسبار بهذا الاسم تيمناً بعالم الفيزياء الكونية المتقاعد "يوجين باركر" الذي سبق وتنبأ بوجود الرياح الشمسية منذ عام 1958.
وحتى الآن قدم المسبار العديد من البيانات التي كشفت العديد من الألغاز حول الشمس، وبحسب ما يقول العلماء فإن المعلومات التي يزودنا بها باركر سوف تساعدنا في تطوير طرق لتوفير نظام إنذار استباقي من العواصف الشمسية التي يمكنها إسقاط أقمارنا الصناعية وشبكات الكهرباء أو التي من الممكن أن تهدد صحة رواد الفضاء في المدار.
اللغز الأول.. الرياح الشمسية
إذا حاولنا تبسيط الموضوع نستطيع أن نعرف الرياح الشمسية بأنها عبارة عن جزيئات مشحونة (تحتوي على إلكترونات وبروتونات) تتدفق من الطبقة الخارجية للشمس.
لكن هناك تساؤل بسيط يطرح نفسه، كيف يمكن لهذه الجزيئات أن تهرب من جاذبية الشمس وتسافر بعيداً في الفضاء لتصل إلى الأرض؟
الجواب يكمن بدرجة الحرارة الشديدة للغلاف الخارجي للشمس والطاقة الحركية العالية التي تمتلكها هذه الجزيئات.
إذاً أين اللغز تحديداً؟
لطالما درس العلماء الرياح الشمسية من الأرض، لكن ذلك يشبه دراسة شلال ماء وأنت واقف في منتصفه غير قادر على تحديد مصدره تماماً ولا تدري إلى أين ينتهي.
ولكن بعد وصول مسبار باركر إلى الشمس أصبح من السهولة بمكان أن ندرس الرياح الشمسية عن كثب.
باركر يحل لغز منشأ الرياح الشمسية
بعد أن أصبح باستطاعتنا النظر إلى الشمس عن قرب، أصبح لدى العلماء الآن فكرة أفضل عن منشأ الرياح الشمسية.
فقد كان العلماء في السابق يدرسون الرياح الشمسية من الأرض أي على بعد أكثر من 90 مليون ميل من الشمس.
وقبل أن تصل الرياح الشمسية إلى الأرض ستكون الأدلة المتعلقة بمنشئها قد تلاشت وأصبح من الصعب تمييزها.
لكن جاءت البيانات التي زودنا بها المسبار الشمسي باركر لتطلعنا على تفاصيل أكثر حول منشأ هذه الرياح وطبيعتها.
إذ أوضحت البيانات القادمة من المسبار أن ما نسميه الرياح الشمسية البطيئة (التي تسير بسرعة أقل من مليون ميل في الساعة) تأتي من ثقوب سوداء تعرف باسم "الثقوب السوداء التاجية" وهي ثقوب قريبة من خط استواء الشمس.
أما الرياح الشمسية الأسرع (تنتقل بسرعة أكبر من مليون ميل في الساعة) فهي تنشأ عن الثقوب السوداء القريبة من أقطاب الشمس.
وبالرغم من أن منشأ الرياح الشمسية بات معروفاً الآن إلا أنه لا يزال هنالك الكثير من الألغاز المتعلقة بتلك الرياح والتي من الممكن الكشف عنها بمزيد من الدراسة والتحليل للبيانات المرسلة من المسبار باركر.
اللغز الثاني.. سخونة الغلاف الجوي الشمسي
الغلاف الجوي الشمسي واحد من الألغاز التي لم يتسن للعلماء من قبل دراستها عن كثب.
يحيط هذا الغلاف بالشمس من الأعلى ويعرف باسم الهالة ويتميز بدرجة حرارة شديدة جداً مقارنة بدرجة حرارة الشمس نفسها، وهو الأمر الذي لم يجد العلماء له تفسيراً مناسباً.
إذ تصل درجة حرارة قرص الشمس إلى ما يقارب 5500 درجة مئوية والتي تعتبر ساخنة جداً بالنسبة لنا، لكن باردة جداً مقارنة بدرجة حرارة الغلاف الجوي المحيط بالشمس، إذ تزيد هناك درجات الحرارة إلى ما يقارب 300 ضعف درجة حرارة الشمس نفسها.
وبالرغم من أن العلماء وضعوا العديد من النظريات لتفسير هذه الحرارة الزائدة في منطقة بعيدة عن الشمس إلا أنهم لم يملكوا دليلاً مادياً يدعم أياً من نظرياتهم.
المجال المغناطيسي هو السبب
إحدى النظريات التي فسرت السخونة الشديدة للغلاف الجوي الشمسي كانت "اهتزاز المجال المغناطيسي ".
فبحسب أستاذ علوم وهندسة الفضاء بجامعة ميشيغن جاستن كاسبر فإن للشمس مجال مغناطيسي يهتز حولها بصورة تشبه اهتزازات أوتار الغيتار عند الضرب عليها، وهذا المجال المغناطيسي هو الذي يسهم بشكل كبير في تسخين الغلاف الجوي الشمسي ورفع درجة حرارته لتتجاوز درجة حرارة الشمس ذاتها.
ولطالما كان لدى العلماء فضول لمعرفة شكل تلك الاهتزازات عن قرب ومعرفة دورها الحقيقي في تسخين الغلاف الجوي الشمسي، وهنا تحديداً برز دور مسبار الفضاء باركر.
فقد رصد المسبار تلك الاهتزازات عن كثب كما التقط موجات إضافية قوية جداً شبهها الدكتور كاسبر بأنها "نوع من الأشعة التي تشبه الأمواج العاتية في المحيط".
أمواج مليئة بالطاقة
استطاع مسبار باركر الشمسي اكتشاف طبيعة هذه الأمواج عن كثب، فقد اجتاحت واحدة من هذه الأمواج طريق المسبار مما أدى إلى تزايد سرعة الرياح الشمسية حوله بمقدار 300 ألف ميل في الساعة وذلك خلال ثوان معدودات فقط.
بعد ذلك اختفت الموجة لتعود الرياح الشمسية إلى طبيعتها وسرعتها العادية.
وبحسب بيانات المسبار فقد كانت الموجات قوية للغاية لدرجة أنها يمكنها قلب اتجاه المجال المغناطيسي، كما نتج عنها التفافات على شكل حرف S، أطلق العلماء عليها تسمية "التعرجات".
وأوضح الدكتور كاسبر: "لقد كانت موجات كبيرة جداً ومليئة بالطاقة".
وأضاف: "إننا متحمسون حقاً بشأنها، لأننا نعتقد أنها ستمكننا من فهم كيفية انتقال الطاقة من الشمس إلى الغلاف الجوي وتسخينه".
اكتشاف غبار نجمي حول الشمس
اعتقد العلماء منذ عهد طويل أن الغبار النجمي يكون أقل كثافة حول النجم نفسه، وهذا ما أكدته البيانات الصادرة عن المسبار الشمسي باركر.
إذ جمع مسبار باركر صوراً لسحابة من الغبار المحيط بالغلاف الجوي الشمسي، وهو عبارة عن فتات تساقط من المذنبات والكويكبات التي مرت بالقرب من الشمس.
وقد كانت كثافة الغبار أقل كثافة بشكل واضح بالقرب من الشمس كما سبق وتوقع العلماء من قبل.
وبالرغم من أن المعلومات الأولية التي زودنا بها المسبار باركر تعد مفيدة جداً، إلا أن العلماء مازالوا يعملون على استقبال وتحليل المزيد من البيانات القادمة من المسبار لحل المزيد من الألغاز.