ي عام 1979 فاز العالم الباكستاني محمد عبدالسلام Mohammad Abdus Salam ِبجائزة نوبل للفيزياء، وكان العمل الذي كرّس له حياته حيوياً لإرساء قواعد نظرية فيزياء الجسيمات، التي لا يزال معمولاً بها حتى اليوم، ووضع الأساس لاكتشاف بوزون هيغز، وهو الجسيم المسؤول عن إعطاء كل الجزيئات الأخرى كتلتها.
كان عبدالسلام أول باكستاني يفوز بجائزة نوبل، وكان من المفترض أن يكون فوزه لحظة تاريخية للبلاد. ولكن، بعد مرور 40 عاماً، نسي البلد الذي ولد فيه قصته إلى حد كبير، ويعزى ذلك جزئياً إلى هويته الدينية.
والآن ثمة فيلم وثائقي جديد تعرضه شبكة Netflix، ويسمى The First ****** Nobel Laureate، يضع عبدالسلام وإنجازاته في دائرة الضوء، بحسب التقرير الذي نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC
كرّس عبدالسلام حياته لثلاثة أشياء: الفيزياء، ودينه، وجنسيته.
يقول ذاكر ظافر، أحد منتجي الفيلم: "لقد كان عبدالسلام أول "مسلم" يفوز بجائزة نوبل للعلوم. وكان شديد الالتزام بجذوره وبتطوير بلاده، حتى إنه ارتدى عمامة في ستوكهولم عند تسلمه الجائزة من ملك السويد". وخلال خطاب تسلمه الجائزة، اقتبس عبدالسلام بعض الآيات من القرآن.
ظهر نبوغ عبدالسلام منذ اللحظة التي ولد فيها عام 1926 في مدينة جهنك، التي كانت آنذاك جزءاً من الهند البريطانية. وكرّس وقته لتنمية مهاراته المذهلة في الرياضيات، ولكن طفولته لم تكن مرفهة بتلك الدرجة.
فحين غادر مدينته للالتحاق بجامعة الكلية الحكومية في لاهور، كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها مصابيح كهربية.
وهناك، لم تميز مهارات عبدالسلام في الرياضيات والفيزياء إياه عن زملائه، وحصل على منحة دراسية للالتحاق بجامعة كامبريدج، حيث أصبح أحد الوجوه القليلة من جنوب آسيا في ذلك الوقت في كلية سانت جون، لكن حنينه إلى وطنه كان قوياً: فبعد انتهائه من تحضير رسالة الدكتوراه في كامبريدج، عاد إلى لاهور ليعمل أستاذاً للرياضيات.
الطائفة الأحمدية وعدم الاعتراف الباكستاني
بحسب صناع الفيلم كان عبدالسلام "مسلماً" ملتزماً طيلة حياته، وكان يستمع إلى القرآن طوال الوقت أثناء عمله في مكتبه في منزله في لندن، ولم يرَ أن دينه يمثل عقبة في طريق علمه، بل رأى أنهما متوافقان في الواقع، وقال لزملائه إن الله هو من ألهمه العديد من أفكاره.
وكان يسعى جاهداً للتوصل إلى نظرية موحدة من شأنها أن تفسر جميع جوانب فيزياء الجسيمات، وتتفق مع معتقداته الدينية. وقال ذات مرة: "نحن علماء الفيزياء النظرية نرغب في أن نفهم التركيب الكامل للمادة غير الحية، من حيث أقل عدد ممكن من المفاهيم الأساسية". ولكن ثمة جوانب في العلم تتعارض تعارضاً مباشراً مع معتقداته، وهي جوانب لم يقبلها، مثل نظرية الانفجار الكبير.
وكانت عقيدة عبدالسلام بالغة الأهمية له، إلا أنه كان أيضاً مصدر ألم كبير، وذلك بسبب الطريقة التي عوملت بها الطائفة التي ينتمي إليها، وهي الجماعة الأحمدية في باكستان.
ما هي الطائفة الأحمدية؟
تشكلت الجماعة الأحمدية عام 1889 في قاديان إحدى قرى مقاطعة البنجاب الهندية التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الإنجليزي في الهند.
ويؤمن المسلمون المنتمون لهذه الطائفة أن مؤسسها: "ميرزا غلام أحمد القادياني" هو النبي عيسى المسيح أو (المهدي المنتظر) -الذي يأتي في آخر الزمان بحسب اعتقاد عموم المسلمين-، لكن طوائف المسلمين الأخرى لا يتفقون معهم في الاعتقاد نفسه، وإنما يعتقدون أنهم ما زالوا بانتظار عودة النبي عيسى الحقيقي في نهاية الزمان.
وبحسب كتاب "هذه هى الأحمدية القاديانية فاحذروها" الذي كتبه سيف النصر على عيسى الطرفاوى فقد نشأت حركة القاديانية أو المعروفة بالأحمدية في الأساس سنة 1876 حين ادّعى ميرزا غلام أحمد القادياني بنزول الوحي عليه، وكانت تلك الحركة بتخطيط من الاستعمار الإنجليزى فى القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص، حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام، وكان لسان حال هذه الحركة هو مجلة الأديان التي تصدر باللغة الإنجليزية".
ويقول الكتاب:
"كان ميرزا غلام أحمد القاديانى أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية، وخاصة وهو ينتمى إلى أسرة اشتهرت بخيانة الدين والوطن، وهكذا نشأ غلام أحمد وفيا للاستعمار مطيعا له فى كل حال، فاختير لدور المتنبئ حتى يلتف حوله المسلمون وينشغلون به عن جهادهم للاستعمار الإنجليزي. وكان للحكومة البريطانية إحسانات كثيرة عليهم، فأظهروا الولاء لها، وكان غلام أحمد معروفا عند أتباعه باختلال المزاج وكثرة الأمراض وإدمان المخدرات".
يقول عديل شاه، أحد أئمة الجماعة الأحمدية والمقيم في لندن: "إن جماعة الأحمدية الإسلامية طائفة مسالمة وتحترم القانون، ومع ذلك فقد تعرضت لأشكال مختلفة من الاضطهاد والتمييز، خاصة في باكستان".
في عام 1953، بدأت المشاكل الحقيقية تواجه جماعة الأحمدية بسلسلة من أعمال الشغب العنيفة في لاهور ضد الحركة. وتوصل تحقيق أجرته حكومة البنجاب إلى أن عدد القتلى الرسمي الناتج عن أعمال الشغب هذه هو 20 شخصاً، لكن تقديرات أخرى أشارت إلى أعداد أعلى بكثير، وصل بعضها إلى الآلاف.
وعام 1974 صدر قانون يُعلن أن الأحمديين ليسوا مسلمين، وحرمهم من حقوقهم. وفي عام 2010، تعرض مسجدان تابعان للطائفة الأحمدية في باكستان لهجوم، قُتل فيه 94 شخصاً وجُرح أكثر من 120 شخصاً.
يقول شاه: "وحتى في الوقت الحالي إذا استخدم مسلم ينتمي للجماعة الأحمدية التحية الإسلامية في باكستان، فقد يُسجن لمدة ثلاث سنوات، وسيعد هذا قانونياً. لقد لحق الضرر بمساجد الطائفة الأحمدية، ودُنست قبور الأحمديين، ونُهبت متاجرهم، وتتجاهل الدولة ما يجري في معظم الأوقات".
من دعم الحكومة في مشروعها النووي إلى معاداة التسلح النووي
وبعد أعمال الشغب التي اندلعت عام 1953، قرر عبد السلام مغادرة باكستان. وعاد إلى كامبريدج ليستقر فيها لبضع سنوات، قبل أن ينتقل إلى كلية إمبريال في لندن، حيث ساعد في إنشاء قسم الفيزياء النظرية. ورغم رفض وطنه له، لم ينسَ باكستان، واستمرّ في المشاركة في أبرز المشاريع العلمية في البلاد.
وفي عام 1961، أسس عبدالسلام برنامج الفضاء الباكستاني، فيما شارك خلال أوائل سبعينيات القرن العشرين، في مساعي باكستان لصنع سلاح نووي، وكانت مشاركته مثار جدل. ولكن بعد أن أصدر رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو هذا القانون تجاه الأحمديين عام 1974، تراجع تعاون عبدالسلام مع إدارة البلاد في النهاية، بل وأصبح يتحدث ضد الأسلحة النووية.
في عام 1979، بعد مرور خمس سنوات فقط على صدور القانون في باكستان الذي يعلن أن أتباع الطائفة الأحمدية لا يعتبروا مسلمين، أصبح عبدالسلام أول باكستاني يفوز بجائزة نوبل. وفي عيون العالم، هو أول "مسلم" يفوز بجائزة نوبل في الفيزياء، ولكن في عيون بلاده هو ليس ذلك.
وعلى شاهد قبر عبدالسلام، في مدينة الربوة الباكستانية، كُتب أنه أول مسلم حاصل على جائزة نوبل، إلا أن السلطات المحلية كشطت كلمة "مسلم" لاحقاً. ويقول ظافر إنهم قرروا محاكاة هذا التشويه على شاهد القبر في اسم الفيلم الوثائقي.
نبش ذكرى عبد السلام
يقول ظافر إنه والمنتج عمر فاندال علِما بقصة عبدالسلام عندما انتقلا من باكستان إلى الولايات المتحدة للدراسة في الجامعة، في منتصف تسعينات القرن الماضي. وقال: "قرأنا نعي عبدالسلام في صحيفة New York Times، بينما في بلاده دُفنت قصته تماماً".
وبعد قراءة المزيد عن عبدالسلام، اكتشف الثنائي أن قصته دُفنت بسبب دينه. وقال ظافر: "أدركنا أن البدايات المتواضعة في قصة عبدالسلام المذهلة يجب أن تلهم الناس في سعيها إلى العلم، وقد علمنا أن هناك العديد من الأشخاص استمدوا إلهامهم من وحي قصته بالفعل".
كانت إسهامات عبدالسلام في علم الفيزياء هائلة، لقد طوَّر نظرية "النيوترينو"، جسيم دون ذري أشار إليه العالم باولي عام 1930، كما عمل على نظرية "التآثر الكهروضعيف"، التي حاز بسببها جائزة نوبل.
وتعد نظرية "التآثر الكهروضعيف" من الركائز الأساسية للنموذج المعياري، وتصف أصغر وأهم وحدات البناء التي تشكّل جميع المواد، وتُعرف بـ "الجسيمات الأولية"، وكيف تتفاعل من خلال ثلاث قوى مختلفة؛ الكهرومغناطيسية، وما يُعرف بـ "التآثرات" القوية والضعيفة. وعمل عبدالسلام على دمج نظريات التآثر الكهرومغناطيسي والتآثر الضعيف في تآثر واحد.
بالرغم من تعرضه للاضطهاد، لم يتوانَ عبدالسلام في خدمة بلاده وشعب باكستان، عُرضت عليه الجنسية البريطانية والإيطالية، ولكنه ظلَّ مواطناً باكستانياً حتى مات.
ويقول إمام عادل، المولود في باكستان أيضاً، ولكنه انتقل إلى لندن بسبب عدم الاعتراف بطائفته، إن انتماء عبدالسلام إلى الطائفة الأحمدية هو ما جعله متمسكاً بالجنسية الباكستانية. ويقول: "أتباع الطائفة الأحمدية، بما في ذلك أنا، لا يزالون يحملون حباً كبيراً لباكستان، وسوف يكونون في طليعة من يخدمون أمتهم إذا دعتهم".
وإلى جانب دعمه لبلاده، كان عبدالسلام شغوفاً، في نفس الوقت، بالترويج للعلماء في الدول النامية. ولهذه الغاية، أسّس عام 1964 المركز الدولي للفيزياء النظرية، في تريستا، إيطاليا، من أجل توفير مكان للطلاب من البلدان النامية للتواصل مع الأكاديميين من جميع أنحاء العالم.