أوشكت الحرب الأهلية في سوريا على نهايتها، وبدا أن التحالف الروسي الإيراني مع نظام بشار الأسد في طريقه لحسم الأمور تماماً بعد أن سيطرت ميليشياته على معظم الأراضي السورية ولم يتبقَّ سوى محافظة إدلب، حيث تجمعت فصائل المعارضة، لكن الهجوم الشرس على إدلب من جانب قوات النظام وحلفائها تحوّل إلى كابوس يهدد بكارثة إنسانية، فما سر توقيت هذا الهجوم؟ وكيف تداخلت الملفات وتغيرت التحالفات واشتبكت المصالح؟
معركة مختلفة عن كل المعارك
معركة إدلب مختلفة تماماً عن كل معارك قوات النظام السابقة، حيث تميزت المعارك بسرعة حسمها بعد أن ألقت روسيا بكل ثقلها دعماً لقوات بشار الأسد ولبقائه في السلطة، مستغلة التخبط في استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها والذين كانوا يواجهون تنظيم داعش، فكانت قوات النظام تتقدم على الأرض مدعومة بقوات إيرانية من الحرس الثوري أو حزب الله وبغطاء جوي روسي، مما يجبر فصائل المعارضة المسلحة إما على أن تستسلم أو تتعرض للقتل، وفي معظم الأحيان كان يتم السماح للمقاتلين بالمغادرة في اتجاه واحد، وهو إدلب في الشمال الغربي.
لكن الآن وبعد مرور أكثر من شهرين من الاشتباكات والهجمات بين الطرفين، لم يتمكن جيش النظام من تحقيق تقدم كبير على الأرض، على الرغم من التقارير التي تتحدث عن مشاركة قوات خاصة روسية في القتال للمرة الأولى، رغم النفي الروسي.
عدة أشهر من الهدوء
اللافت هنا هو أن محافظة إدلب ومحيطها كانت تتمتع بهدوء نسبي في أعقاب توقيع اتفاق تركي روسي في سبتمبر/أيلول الماضي، نص على إقامة منطقة منزوعة السلاح بين القوات الحكومية والفصائل المعارضة، لكن قوات النظام المدعومة روسيا بدأت من أكثر من شهرين هجوماً مفاجئاً بغرض الاستيلاء على إدلب التي يقطنها أكثر من ثلاثة ملايين مواطن.
أسباب هذا الهجوم وتوقيته تكمن في عدة نقاط، تتعلق معظمها بالموقف الروسي في سوريا، أولها رغبة موسكو في حسم الأمور لصالح حليفها بشار الأسد قبل الدخول في المفاوضات السياسية لترتيب مستقبل سوريا، لذلك ألقت روسيا بثقلها في معركة إدلب بحثاً عن انتصار سريع، لكنها اصطدمت بالمعطيات على الأرض وتضارب المصالح حتى بين الحلفاء، وأبرزهم إيران.
خلافات إيران وروسيا
سبب آخر وهو صورة روسيا وهيبتها العسكرية، حيث يريد الرئيس فلاديمير بوتين – من خلال دعمه المطلق لبشار الأسد – أن يرسل رسالة لا لبس فيها للأنظمة العربية الأخرى في المنطقة أن الدب الروسي – عكس الأمريكان – يفي بوعوده حتى النهاية ويحمي من يلجأ إليه بشكل لا يحتمل التردد، وبالتالي فإن فشل حسم معركة إدلب أو حتى إطالة أمد المعركة يضر كثيراً بصورة الدب الروسي في المنطقة، وربما يفسر هذا المخاطرة بوجود قوات خاصة روسية على الأرض في معركة إدلب.
ومع اقتراب الحرب من نهايتها وتسليم جميع الأطراف بوجود بشار الأسد رئيساً لسورياً، بدأ مبكراً ترتيب كل طرف لأوراقه فيما يتعلق بالمستقبل، وهو ما أدى لبروز الخلافات الروسية الإيرانية على السطح، وتجلى ذلك في عدم مشاركة إيران في معركة إدلب، وأيضاً في التغييرات التي أجراها بشار في قيادات الجيش، والتي شهدت إبعاد القادة المحسوبين على إيران أو المعارضين للوجود الروسي وتعيين آخرين معروف عنهم الولاء لموسكو، إضافة لاستبعاد القادة المتهمين بارتكاب جرائم حرب سعياً لتحسين صورة النظام خارجياً.
مفاوضات أستانا
النقطة الأخرى التي تفسر أمر التوقيت هي الجهود الدبلوماسية المبذولة لاستئناف المفاوضات بين النظام وقوى المعارضة، والمتوقع إجراؤها في أستانا كازاخستان مطلع أغسطس\آب المقبل، والتي من المفترض فيها مناقشة تعديل الدستور السوري، وهو أمر لا يرغب فيه النظام بالطبع، إضافة لملفات أخرى تتعلق بحقوق الإنسان والمهجّرين وغيرها.
معركة إدلب إذاً ربما يكون الهدف منها إجهاض الجهود الدبلوماسية من الأساس، أو على أقل تقدير حسم المعركة عسكرياً، مما يقوي موقف النظام وروسيا بالطبع، ويفرض على المعارضة القبول بتسوية قائمة على فرض الأمر الواقع.
نقطة أخرى هنا تتمثل في طريق التجارة من حدود سوريا مع الأردن وصولاً للحدود التركية، وهو طريق حيوي بالنسبة لنظام بشار ولروسيا، وحالياً تسيطر المعارضة في إدلب على ثلث ذلك الطريق، ما يعني عدم قدرة النظام على استخدامه بشكل كامل، وبالتالي تكتسب معركة إدلب بُعداً استراتيجياً جديداً.
الموقف الأمريكي المتردد والمرتبك يشجع النظام المدعوم روسياً على المضي قدماً في محاولة حسم معركة إدلب عسكرياً، حيث إنه لا توجد سياسة أمريكية واضحة أو حاسمة، وهو ما يميز سياسة الرئيس دونالد ترامب الخارجية بشكل عام، وفي الشرق الأوسط بشكل خاص.
هذه العوامل وغيرها جعلت من إدلب معركة استثنائية بكل المقاييس، وحسمها عسكرياً لصالح النظام يبدو أصعب كثيراً مما تصوَّر رجاله، مما يرجح إما لجوء النظام لأسلحة غير تقليدية كما فعل من قبل، واستخدم أسلحة محرمة دولياً في محاولة لسحق المقاومة المسلحة، وهو خيار محفوف بالمخاطر ومن غير المرجح اللجوء إليه، أو محاولة التوصل لاتفاق سياسي ربما يضطر معه لتقديم تنازلات لا يرغب حالياً في تقديمها.