تحقيق الذات عنصر أساسي من عناصر علم النفس الشعبي. فمعظم الناس على دراية بتسلسل إبراهام ماسلو الهرمي للاحتياجات. يصف هذا النموذج 5 أنواع من الاحتياجات، كل واحدة منها ينبغي تلبيتها قبل الانتقال إلى المستوى التالي من الهرم.
في القاع هناك احتياجات فسيولوجية مثل الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم. فإذا لم تحصل على ما يكفي من الطعام، على سبيل المثال، فمن غير المرجح أن تشعر بالحماس لتلبية الاحتياجات في المستوى التالي من الهرم، وهي احتياجات الأمان.
بحسب موقع Bigthink؛ تشمل هذه الاحتياجات الشعور بالأمان المالي، والأمان من الأذى والتمتع بصحة جيدة. ويركز المستوى التالي على الحاجة إلى الشعور بالانتماء الاجتماعي، مثل الشعور بالحب والصداقة. ثم هناك احتياجات التقدير، مثل الشعور بالتفوق والكفاءة. وأخيراً على قمة الهرم يقبع الهدف النهائي المتمثل في تحقيق الذات.
هذا النموذج منطقي، ويمنحنا الانطباع بأننا طالما عملنا بجد فبمقدورنا إحراز تقدم حتمي إلى قمة الهرم. وقد أصبح هذا النموذج شائعاً إلى درجة أنه -على عكس معظم النظريات الأكاديمية- نزل من البرج العاجي واكتسب حياة جديدة بين المدونات الصحية والمتحدثين التحفيزيين.
لكنَّ هرم احتياجات ماسلو وفكرة التحقق الذاتي على وجه الخصوص ينطويان على بعض العيوب الخطيرة. في الواقع، فإنَّ سعينا الدؤوب لكي نكون أفضل نسخ أنفسنا وأن نعيش حياتنا بأفضل ما يكون له من الضرر أكثر ما له من النفع.
قراءة خاطئة لماسلو
كان عمل ماسلو ثورياً بمعنى أنه قبل نظريته الهرمية للدوافع الإنسانية، كان معظم علماء النفس يسعون إلى شرح الاضطرابات فحسب، أي الطرق التي ينحرف بها البشر عن "الطبيعي". والمشكلة أنه لا أحد كان يعرف على وجه التحديد ماهية هذا الإنسان "الطبيعي". وضع هرم الاحتياجات هذا ماسلو في مجال علم النفس الإنساني الآخذ في التنامي، والذي يسعى إلى شرح الطبيعة الإنسانية على نحو كلي.
لكنَّ نموذج ماسلو الهرمي لا يمثل إلا الخطوات القليلة الأولى في حقل نامٍ، لا صورة نهائية للطبيعة البشرية. ومع انتشار نموذج ماسلو خارج النطاق الأكاديمي، اتخذ هيئة شيء صحيح على نحو واضح وطبيعي، وأصبح خارطة طريق لكي يصبح المرء إنساناً كاملاً سعيداً، لكنَّ ماسلو لم يقصد قط أن يكون التسلسل الهرمي للاحتياجات نموذجاً توجيهياً.
لا يخبرك هذا النموذج بما ينبغي لك فعله، وإنما هو نموذج وصفي يخبرك بطبيعة الأشياء في ظل ظروف بعينها. وكذا فإنَّ السعي لتحقيق الذات بدلاً من السماح للحاجة إلى تحقيق الذات بالظهور بشكل طبيعي قد يؤدي في واقع الأمر إلى ضرر يفوق النفع.
أولاً، لا يعرف الناس على وجه التحديد معنى تحقيق الذات. إذ وصف ماسلو في كتاب "نظرية للدافع الإنساني" "A Theory of Human Motivation"، وهو أحد الأعمال الأولى التي تصف هذا النموذج، تحقيق الذات بالقول: "إنَّ الرغبة في تحقيق الذات، هي ميل [الفرد] لكي يتحقق بما له من إمكانيات. من الممكن صياغة هذا الميل بأنه الرغبة في أن يصبح المرء متحققاً بحقيقته، أن يصل إلى كل ما يستطيع الوصول إليه".
إنَّ الأمر الأساسي ها هنا أنَّ تحقيق الذات هو تحقيق ما يمكن للمرء فعلاً تحقيقه، لا ما يريد المرء أن يكونه. يصبح سوء الفهم هذا خادعاً عندما نفكر في تحقيق الذات بوصفه هدفاً في حد ذاته. وكذا، فبدلاً من السعي وراء الدوافع الطبيعية الفطرية التي من شأنها أن تقود إلى تحقيق الذات، فإننا أحياناً ما نسعى وراء مفهوم تحقيق الذات بحد ذاته.
نقد نظرية تحقيق الذات
وفي كثير من الأحيان يؤدي هذا الأمر إلى طريق غير ذي طائل من الكفاح من أجل أن نصبح شخصاً على خلاف حقيقتنا، نسعى إلى تحويل أنفسنا الحقيقية إلى صورة ذاتية وهمية. وسرعان ما يتحول ذلك إلى السعي للكمال، الذي يعمل ضد تحقيق الذات.
ذلك أنَّ طلب الكمال هذا قد رُبط بمستويات عالية من القلق والاكتئاب والتفكير الانتحاري. إذ كتب ماسلو في عمله اللاحق "نقد نظرية تحقيق الذات" "Critique of Self-Actualization Theory":
"باختصار، عندما يُحكم على الحياة بأنها غير ذات شأن -سواء من خلال تراكم الآلام أو غياب تجارب الذروة "تجارب مصحوبة ببهجة عقلية عادة ما تكون مصاحبة لتحقيق الذات" والأفراح الإيجابية- فإنَّ علم النفس الإنساني يغدو بلا قيمة.
إنَّ هذا العلم يخاطب فحسب أولئك الأشخاص الذين يرغبون في الحياة والنمو وأن يصبحوا أسعد وأكثر فاعلية وأن يحققوا أنفسهم وأن يحبوا أنفسهم بشكل أفضل وأن يتحسنوا في العموم وأن يتقدموا ناحية المثل النموذجي الكامل، حتى وإن لم يتوقعوا قط الوصول إلى هذه النقطة وصولاً كاملاً".
هل يلتقط تحقيق الذات الصورة الكبيرة؟
بالإضافة إلى سوء فهم وصف ماسلو لتحقيق الذات، ينبغي لنا أن نكون واعين أيضاً بأنَّ المفهوم بحد ذاته ينطوي على بعض العيوب الرئيسية. أولاً، صورة ماسلو لتحقيق الذات صورة ذاتية إلى حد بعيد.
ففي كتابه "الحافز والشخصية" "Motivation and Personality" يصف سمات الأشخاص المتحققين ذاتياً بأنهم واقعيون ويقبلون ذواتهم ويقبلون الآخرين، ويمتلكون شعوراً بالاستقلالية، ولديهم تركيز على إتمام المهمات أو إصلاح المشكلات، ويمتلكون وجهة نظر عن العالم متجددة باستمرار، ولديهم عدد قليل من الأصدقاء لكنهم أصدقاء مقربون، ويرتاحون في العزلة والاعتماد على الذات، من بين سمات أخرى.
تبدو هذه الصفات جيدة، وربما تكون صفات يحظى بها أي شخص متحقق ذاتياً، لكنَّ هذا يشبه إلى حد ما الصرامة الأكاديمية التي طبقها ماسلو عندما عرَّف الشخص المتحقق ذاتياً.
افتتان علم النفس الشعبي بتحقيق الذات
ذلك أنَّ ماسلو طور هذه القائمة من خلال دراسته لنسبة 1٪ من "أصح" طلاب الجامعة ودراسة والكثير من الشخصيات التاريخية التي اعتقد أنها تحققت ذاتياً. وبحث ماسلو عن أشخاص لا يعانون من اضطرابات عصبية فضلاً عن أولئك الذين كان يعتقد أنهم أمثلة جيدة للتحقق الذاتي، وذلك بوصفه جزءاً من تعريفه للطلاب الذين يتمتعون بالصحة. لكنَّ هذه، للأسف، منهجية دائرية. إذ كان ماسلو يدرس الأفراد الأحياء والتاريخيين الذين اعتقد أنهم متحققون ذاتياً بهدف تحديد ماهية التحقق الذاتي.
وكذا، فبين سوء الفهم العام للمصطلح، وطبيعته الذاتية، ينبغي لنا أن نتساءل إذا ما كان افتتان علم النفس الشعبي بتحقيق الذات أمراً مفيداً. نعم، هو مفهوم منطقي، إذ نعرف جميعاً أنَّ بإمكاننا أن نتحسن ونعرف أنَّ تحقيق إمكاناتنا بطريقة تسعى للكمال من دون الهوس العبثي به يبدو لنا سلوكاً صحيحاً على نحو طبيعي.
لكنَّ تحقيق الذات ليس سوى وصف لظاهرة، وهو ليس وصفاً دقيقاً تماماً لهذه الظاهرة. ذلك أنَّ القلق حول ما يحتاج المرء إلى فعله لإنجاز تحقيق الذات، وإذا ما كان الشخص يستطيع التحقق ذاتياً، هو أمر ذو نتائج عكسية.
لم يُصمم هرم ماسلو للاحتياجات قط لكي يعيش خارج البرج العاجي للأوساط الأكاديمية. وقد تعرض هذا النموذج للانتقاد داخل هذا البرج العامي وجرى صقله وانتقاده مرة أخرى، لكننا لا نتلقى غالباً فائدة تلك المراجعات خارج الأوساط الأكاديمية، ومن ثم، ففي المرة القادمة التي يخبرك فيها أحد معلمي المساعدة الذاتية بما أنت بحاجة إلى فعله لتحقيق ذاتك، استقبل كلامه بقليل من الشك.