أثبتت ثورة الشعب السوداني على الحكم العسكري الديكتاتوري أن السودانيين يتميزون بالصلابة والوعي والتماسك وهو ما جعلهم يصمدون حتى الآن في وجه نظام عسكري متمسك بالسلطة بأي ثمن، السؤال الآن بعد تأجيل التوقيع على الوثيقة الدستورية وظهور بوادر انشقاق في صفوف القوى المدنية هو هل تكتمل التجربة أم تلحق بباقي دول الربيع العربي؟
كان المجلس العسكري الحاكم وقوى الحرية والتغيير المكون الأبرز للقوى المدنية قد توصلا لمشروع اتفاق لتفاقم السلطة بوساطة إثيوبية إفريقية وتم التوقيع بالأحرف الأولى على "الوثيقة السياسية" يوم الأربعاء الماضي 17 يوليو/تموز الجاري.
توقيع الاتفاق تم في العاصمة الخرطوم بحضور وسطاء من الاتحاد الإفريقي بعد محادثات طويلة بين الطرفين، كما تم الإعلان عن اجتماع اليوم الجمعة 19 يوليو/تموز كان من المفترض أن يشهد التوقيع على الوثيقة الدستورية وهي الخطوة الأهم في تشكيل الفترة الانتقالية، ولكن حدث تأجيل أعلنت عنه القوى المدنية "لمزيد من التشاور فيما بينها"، وهنا مكمن الخطورة.
ما هي الوثيقة السياسية التي تم توقيعها؟
نصت الوثيقة السياسية على تنصيب "هيئة حكم انتقالية جديدة من أجل إنهاء الأزمة السياسية في البلاد"، تتشكل من 6 مدنيين و5 عسكريين، وينتمي "5 من المدنيين إلى تحالف قوى الحرية والتغيير الذي يقود الاحتجاجات"، ويرأس عميد في الجيش الهيئة الحاكمة خلال 21 شهراً من الفترة الانتقالية، ثم تنتقل الرئاسة إلى مدني خلال الـ18 شهراً الباقية.
الاتفاق في حد ذاته مثَّل نقطة مضيئة في مشوار الثورة الذي يهدف إلى انتقال كامل من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، خصوصاً أن تمسك العسكر بالسلطة "دونه الرقاب" كما يقول المثل العربي، وهم مَن يتولون مقاليد الأمور في البلاد بالفعل وبينهم طامح في تولِّي إرث رئيسه المعزول عمر حسن البشير الذي تمت تنحيته في أبريل/نيسان الماضي، والمقصود هنا نائب رئيس المجلس العسكري وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير ب "حميدتي".
ومن الطبيعي أيضاً أن تكون هناك أجنحة داخل القوى المدنية غير راضية عن الاتفاق وأبرزها ممثلو الحركات المعارضة المسلحة في مناطق النزاع دارفور وكردفان والنيل والأزرق، حيث كانوا يريدون تضمين مطالبهم في الاتفاق وأبرزها وضع البدء في محادثات سلام في مناطق النزاع المسلح على رأس أولويات السلطة الانتقالية وطرد المسؤولين عن جرائم الحرب في تلك المناطق وعلى رأسهم البشير خارج السودان ورفض أي نوع من الحصانة لأعضاء المجلس العسكري الحالي.
في هذا السياق، قال أحد قادة قوى الحرية والتغيير عمر الدغير أنه سيسافر إلى أديس أبابا للاجتماع مع قادة الجبهة الثورية (الجماعات المسلحة التي تتخذ من أديس أبابا مقراً لها) لاستطلاع رأيهم في الوثيقة السياسية.
البعض الآخر داخل القوى المدنية يرفض وجود العسكريون في السلطة حتى الآن، رغم تسببهم في قتل وتعذيب المئات من المحتجين السلميين على مدى الأشهر الماضية، ويعترضون بالطبع على أن يقود هؤلاء الحكومة المؤقتة في بداية المرحلة لمدة 21 شهرا، ربما تكون كافية للواءات العسكر أن يضمنوا لأنفسهم الحصانة من مقاضاتهم، وهو احتمال وارد بقوة.
ما الذي تأجَّل التوقيع عليه؟
الوثيقة الدستورية التي كان من المفترض التوقيع عليها اليوم تحمل التفاصيل الدقيقة للاتفاق وعناصره الدستورية، ومازال هناك "مجلس سيادة" سيعين لقيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وتتمثل أبرز النقاط الخلافية في مسألة الحصانة المطلقة للواءات العسكر وهو المطلب الذي ترفضه القوى المدنية بشكل تام.
هناك أيضا مسألة تشكيل مجلس السيادة وصلاحياته خلال المرحلة الانتقالية، ولكن أهم نقاط الخلاف تكمن في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية عموما وجهاز المخابرات بشكل خاص، حيث إن الجهاز هو الحلقة المفصلية في إدارة البلاد أو كما يشير إليه كثير من رموز القوى المدنية بأنه يمثل "الدولة العميقة"، وبالتالي إصرار القوى المدنية على أن يكون الإشراف على إعادة هيكلته من المهام الرئيسية للفترة الانتقالية، بينما يصر العسكر على أن يتولوا ذلك منفردين.
ما هو البديل إذاً؟
الواقع العملي يؤكد أن ما تم التوقيع عليه، الأربعاء، يعتبر انتصاراً هائلاً لشارع ثائر في وجه سلطة غاشمة لم تتمكن من إسكاته رغم مجزرة فض اعتصام القيادة في السابع والعشرين من شهر رمضان الماضي والتي يعتبر محاكمة المسئولين عنها أحد أبرز مطالب القوى المدنية.
ولأن التماسك الشعبي في وجه محاولات العسكر هو الضمانة الوحيدة لاستمرار النضال من أجل انتزاع السلطة من بين أنياب العسكر، فقد جاء خروج الآلاف من السودانيين إلى الشوارع مرددين هتاف وحيد "مدنية" بمثابة إعادة التأكيد على أن الشعب السوداني مصمم على أن يسلك المشوار المحفوف بالمخاطر إلى نهايته المحتومة وهي إقامة نظام مدني ديمقراطي بعد عقود ممتدة من الحكم العسكري الفاشي أدى لتقسيم البلاد بين شمال وجنوب، وكاد أن يكرر الأمر في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
تمسك القوى المدنية في السودان بمطلب فترة انتقالية لا تقل عن ثلاث سنوات يتم خلالها إعادة هيكلة أجهزة ومؤسسات الدولة، تحت إشراف سلطة مدنية بالكامل، ثم الموافقة على مشاركة السلطة في تلك المرحلة مع العسكريين ربما يبدو تراجعاً، ولكن حسابات الواقع العملي تفرض نفسها، وبالتالي تعتبر خطوة إيجابية وانتصار لحراك الشارع الثائر.
صحيح أن بوادر الانشقاق في صفوف القوى المدنية ليست مؤشراً جيداً، لكن الخبرات المتراكمة لدى تلك القوى التي بدأت حراكها ضد البشير منذ ديسمبر الماضي يصب في الاتجاه الإيجابي، خصوصاً مع الوعي الذي أظهره الشارع السوداني وكذلك الحركات المسلحة التي اتضح حتى الآن أنها تقدم المصلحة العليا على الوطن، فلم تستغل الموقف مثلاً للقيام بهجمات في مناطق النزاع.
على الجانب الآخر، وجود قوات الدعم السريع التي يرأسها حميدتي في العاصمة وقيامها بارتكاب مجزرة فض اعتصام القيادة يمثل حتى الآن نقطة سلبية في سجل الرجل الذي لا يخفى على أحد طموحاته السياسية وسعيه لتمسك العسكر بالسلطة وإن تحدث بغير ذلك، حيث أدت المجزرة إلى تسليط الضوء على ما يجري في السودان وتوالت الإدانات الدولية والمطالبات بنقل السلطة للمدنيين ومن ثَمَّ الوساطة الإفريقية وتوقيع الاتفاق السياسي.