هناك في أقصى الشرق من أفغانستان حيث كانت تنتشر الغابات، وجد فلول تنظيم داعش الإرهابي ملاذاً يوفر لهم مصدراً للأرباح، حتى لو كان على حساب مستقبل الأجيال القادمة، فما هي قصة تجارة الأخشاب وتهريبها، وكيف يجني التنظيم أرباحاً من غابات أفغانستان؟
القصة رصدتها مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تقرير ميداني من ولاية كنر شرقي أفغانستان، سلَّطت فيه الضوء على وجود أعداد متزايدة من أعضاء التنظيم الإرهابي، تتخذ من تجارة الأخشاب وسيلةً لجني الأموال.
يبدأ التقرير مع "ضابط الشرطة مطيع الله صافي"، الذي يقف عند نقطة تفتيش نائية في ولاية كنر شرقي أفغانستان، يراقب ويداه ممسكة بإحكام ببندقيته الآلية، ويقول صافي، الذي يرتدي الزي الرسمي ويبلغ من العمر 22 عاماً: "داعش موجود هناك"، مشيراً إلى مُرتَفَع مغطى بالأشجار على بُعد أقل من ميل واحد (1.6 كيلومتراً).
معقل جديد للتنظيم
ضمَّت كنر منذ عام 2015 أعداداً قليلة من مقاتلي تنظيم ولاية خراسان، وهو الفرع الأفغاني لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لكن معقل الجماعة المُتشدِّدة الجديد يقع في غابات كنر، حيث إرث صناعة الأخشاب المزدهرة التي كانت تُسيطر عليها حركة طالبان في السابق، والتي تدرّ الآن دخلاً متزايداً على مقاتلي داعش.
يقع مركز حكومة صافي في مقاطعة تشوكاي، على طول إحدى جبهات القتال الأمامية للحرب ضد تنظيم داعش، لكنها أيضاً نقطة دخول رئيسية للمُهرِّبين الذين يجلبون الأخشاب من الغابات إلى أجزاء أخرى من أفغانستان أو باكستان المجاورة، باستخدام البغال القادرة على المناورة عبر التضاريس الجبلية، أو إخفاء جذوع أشجار الغابات في مخبأ سري داخل الشاحنات، التي تعبر الحدود الرسمية.
مشكلة قطع الأشجار
حظرت حكومة الولاية بيع الأخشاب في عام 2016، خشية تنامي اتجاه إزالة الغابات والتصحر. إذ تُزال 10 هكتارات من الغابات سنوياً، وذلك وفقاً لما قاله إنعام الله صافي، مدير مديرية الزراعة في ولاية كنر.
وقال نائب رئيس شرطة كنر، العقيد محمد يوسف: "يعتبر تهريب الأخشاب ثاني أكبر مشكلة هنا، بعد الإرهاب".
أخرج يوسف هاتفه وتصفَّح ملف الصور، قائلاً: "ها هو"، مشيراً إلى صورة لمئات من جذوع أشجار الغابات العائمة على النهر. وأضاف: "لقد وجدنا تلك الجذوع قبل بضعة أسابيع في طريقها إلى باكستان، لكنَّنا استطعنا إيقاف ذلك. تمتلك ولايتنا بعضاً من أجود أنواع الأخشاب، وذلك الأمر الواقع يدمرنا".
اعتادت كنر أن تغطّيها غابات أشجار البلوط والصنوبر والجوز، لكنَّها فقدت 40% من أشجارها على مدار العقود الثلاثة الماضية، تاركةً الجبال، التي يسهل الوصول إليها، جافةً وقاحلةً في فصول الصيف، حتى إنَّ معظم مناطق الغابات حالياً أصبحت تحتاج عدة ساعات من السير للوصول إلى أعماق الغابة. في مقاطعة تشوكاي، يستلقون على أكوام من ألواح الخشب، إذ يبلغ طول كل لوح حوالي 8 أقدام (2.4 متر). ولا تزال رائحة الخشب المقطوح حديثاً تملأ الهواء، لكن الأشجار ميتة.
لم يتبقّ سوى عددٍ قليل من الأشجار حول مدينة أسد آباد، عاصمة ولاية كنر، مع وجود نهر كنر في وسطها، وتقتصر المناظر الطبيعية حالياً على مجرد تلال وعرة مغطاة بالعشب.
قُطعت معظم الأشجار التي تحيط بالمكان هنا، ويستغرق الأمر عدة ساعات للوصول إلى ما يشير إليه السكان المحليون باسم "الأحراش".
قال محمد كميل (40 عاماً)، وهو أب لخمسة أطفال من منطقة تشوكاي، كان يعمل في مجال صناعة الأخشاب على مدار العقدين الماضيين: "إنَّها تجارة مربحة ضخمة لداعش". ويقدّر كميل كمية الأشجار التي يجري تهريبها بحوالي 20 ألف شجرة إلى باكستان سنوياً.
الفساد يساعد الإرهاب
وأضاف كميل: "العملية مُعقَّدة، وكذلك الأرقام"، موضحاً أنَّ معظم "مناطق الأحراش" قد تبدَّل حالها على مدار العام الماضي. وأوضح قائلاً: "إنَّها معقل داعش. كنت أدفع لحركة طالبان في الماضي، لكن الأموال تذهب الآن إلى داعش".
وأشار كميل إلى أنَّ كل شجرة تتكلف ما بين 3 آلاف و5 آلاف روبية باكستانية -العملة المستخدمة السائدة في المنطقة- وهو مبلغ يتراوح بين 20 إلى 30 دولاراً. وعند قطع الأشجار، ينتج عن كل شجرة حوالي 15 لوحاً خشبياً، يباع كل واحد منها بنحو 12 ألف روبية (حوالي 75 دولاراً).
وقال: "الأشجار رخيصة، لكنني أضطر أيضاً إلى إضافة تكاليف إضافية للضرائب والرشوة والنقل".
على الرغم من جهود الحكومة لإنهاء تلك التجارة، يغضُّ العديد من المسؤولين الطرف عنها. قال صافي من المديرية الزراعية: "إنَّها المصدر المطلق للدخل في منطقة يعيش ما بين 60 إلى 70% من سكانها تحت خط الفقر. يجني داعش أموالاً غير مشروعة منها، لكن الشرطة هي الأخرى تفعل ذلك".
وزارة الدفاع لا تعرف شيئاً
يقدر كميل -فضلاً عن مُهرِّبي الأخشاب الآخرين- أنَّ هناك ما بين 1000 و2000 مقاتل لداعش يعيشون في الولاية، التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة تقريباً، وهو الرقم الذي نفاه نائب المتحدث باسم وزارة الدفاع، زبير عارف، من مكتبه في كابول عندما قال: "انتهى وجود أكثر من 95% من مقاتلي داعش في البلاد".
وتعليقاً على تصريحات عارف، قال بلال أحمد (28 عاماً)، أحد مقاتلي التنظيم من باكستان "هو لا يعلم شيئاً". كان أحمد يعيش سابقاً في كنر، لكنَّه انتقل مؤخراً إلى ولاية ننكرهار المجاورة.
وأوضح أحمد من خلال أحد مترجمي اللغة البشتوية في مطعم على ضفاف النهر بمدينة جلال آباد، عاصمة ولاية ننكرهار، التي شهدت تصاعداً في أعمال العنف والهجمات الإرهابية التي زعم داعش مسؤوليته عنها خلال الأشهر الماضية: "ينضم إلينا العديد من الشباب الذين يريدون الجهاد، لقد قابلت أوزبكيين وصينيين وهنوداً وحتى أوروبيين هنا، ونحصل على التمويل جزئياً من خلال عمليات التهريب والأنشطة الإجرامية".
يسلك الكثير من خشب أشجار الغابات طريقه إلى جلال آباد من كنر. وأشار عبدالنصير، نجار يبلغ من العمر 38 عاماً، إلى أنَّه يقود السيارة بانتظام إلى ما تسمى بأحراش كنر للمتاجرة مع مقاتلي داعش.
وقال: "لا يقتصر الأمر على أنَّ التنظيم كله يبيع خشب الأشجار. قد يكون رجال الأعمال المحليون العاملون في مجال صناعة الأخشاب جزءاً من الجماعة المتمردة، وأنا أدفع لهم أيضاً ضريبة نسبتها 10%".
وأكَّد نصير، الذي جلس بجوار ورشة الأخشاب الخاصة به في حجرة صغيرة مفروشة بالسجاد ومليئة بالوسائد السميكة، وتحتوي على تلفاز صغير في الزاوية، إنَّه لا يخشى مقابلة مقاتلي داعش، قائلاً: "نعمل مع بعضنا بعضاً، لذا يتعيَّن علينا الحفاظ على علاقات جيدة".
يحافظ المهرِّبون على علاقات ودية مع جميع الأطراف: الحكومة المحلية وداعش وطالبان، لكن المقاتلين غير ودودين إلى حدٍّ كبير، حتى مع بعضهم.
كانت غابات كنر الرئيسية في أودية كرنكل ومزار ودواجال تحت سيطرة طالبان قبل أكثر من عام، لكنَّها الآن تخضع لسيطرة داعش. فرَّ آلاف الأشخاص من منازلهم عندما اندلع القتال، ولم يتبق سوى عدد قليل من الشاردين. وبين الغارات الجوية الحكومية، وهجمات المتمردين، وجبهات القتال الأمامية، التي لا حصر لها، لا أحد يفوز بالحرب في كنر.
قال العقيد نوت بيترز، المتحدث باسم بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان: "ما زلنا نرى قتالاً عنيفاً بين طالبان وتنظيم ولاية خراسان في ننكرهار وكنر". إذ يمكن أن تنتقل ملكيات الأراضي وتتغير مناطق النفوذ والسيطرة بين الجماعتين على نحوٍ متكرر.
لكن عندما يتعلَّق الأمر بتجارة الأخشاب، يقول المُهرّبون إنَّهم يتحرّكون بحرية بين جميع المناطق.
وقال نصير، موضحاً أنَّه يحاول تجنب المرور عبر المناطق الحكومية لتوفير النفقات: "إذا مررت عبر منطقة تابعة لطالبان، أدفع ضريبة قيمتها 100 روبية باكستانية (65 سنتاً) مقابل لوحين من الأخشاب.
تريد الشرطة المحلية رشوة قيمتها 2000 روبية (13 دولاراً) لكل جذع شجرة. الجميع هنا -من ضمنهم الحكومة المحلية وأمراء الحرب- جزء من تلك التجارة غير المشروعة، وإلا ما كان سَيُكتب لها النجاح".
كارثة بيئية لا أحد يهتم بها
واعترف نصير بأنَّها تُمثّل عملاً جيداً بالنسبة له -فدخله الشهري يبلغ 600 دولار تقريباً- لكنها تعتبر كارثة بالنسبة للبلاد. وبحسب مديرية كنر الزراعية، جرى نقل 25 مليون قدم مكعبة من الألواح الخشبية وجذوع الأشجار خارج الولاية منذ عام 2002، وتسببت عمليات إزالة الغابات في أضرار بيئية خطيرة مثل ترسبات المياه الثقيلة في نهر كنر.
بالعودة إلى نقطة تفتيش صافي في مقاطعة تشوكاي، قال ضابط الشرطة، إنَّه يصعب تقدير حجم الأرباح التي يحققها تنظيم داعش فعلياً من بيع الأشجار وفرض ضرائب على صناعة الأخشاب.
وقال إنَّ نقطة التفتيش الموجود فيها بُنيت من نفس الألواح الخشبية التي تُهرّب خارج الولاية، على الرغم من أنَّ "تلك التي استخدمناها كانت مقطوعة قبل عدة سنوات".
ومن جانبه، لا يرى نصير أي شخص يعتزم اتّخاذ إجراءات لوقف تلك الممارسة غير المشروعة في وقتٍ قريب، وهو سعيد بذلك على الرغم من قلقه على مستقبل الولاية.
وقال: "إنَّها طريقتنا الوحيدة لكسب دخل، ولا تُتّخذ أية تدابير حقيقية لمنعها. فما دامت الحرب مستمرة، ستستمر عمليات إزالة الغابات".