قبل أقل من عامين أعلن رئيس وزراء لبنان سعد الحريري استقالته من مقر إقامته أو "احتجازه" في العاصمة السعودية الرياض، ووقتها أعلنت الرياض أن الحكومة اللبنانية التي يهيمن عليها حزب الله أعلنت الحرب عليها، فما الذي دفع السعودية لتغيير موقفها تماماً وإعلانها هذا الأسبوع دعمها للبنان وما علاقة الأزمة المشتعلة في الخليج بين إيران والولايات المتحدة بما يحدث في بيروت؟
القصة بدأت في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 بإعلان الحريري استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، وذلك من الرياض حيث كان موجوداً وقتها بعد استدعائه للقاء الملك سلمان بن عبدالعزيز وتحدثت تقارير إعلامية وقتها عن أن الحريري كان محتجزاً ومجبراً على إعلان استقالته من جانب ولي العهد محمد بن سلمان، وهو ما أكدته الأحداث بعد عودته إلى بيروت، حيث تراجع عن تلك الاستقالة.
تحولت السعودية في لبنان إلى عدو يهاجمه الجميع، وردت السعودية على لسان وزيرها لشئون الخليج ثامر السبهان بأنه "سيتمّ التعامل مع الحكومة اللبنانية، التي يهيمن عليها الحزب السياسي وميليشياته المدعومة من إيران – "حزب الله" – كما لو أنها "أعلنت الحرب" على الرياض" .
سياسة عدائية تجاه لبنان
تلك الأحداث كانت مقدمة لتبني السعودية سياسة عدائية معلنة تجاه لبنان تمثلت في حرب اقتصادية، استهدفت الوقوف في وجه النفوذ الإيراني المتنامي من خلال حزب الله، وذلك بعد عقد تقريباً من المساعي السعودية الفاشلة لدعم "تيار المستقبل" الموجّه من السعودية والموالي للغرب برئاسة الحريري وحلفائه ضد "حزب الله".
المعضلة هنا أن سياسة الحرب على لبنان التي انتهجها ولي العهد لم تميّز بين الحلفاء المحليين والأعداء، حيث بدا أن الرياض المستاءة بسبب تنامي نفوذ "حزب الله" في بيروت قد قررت استهداف لبنان بأسره.
هذه البصمة الاستراتيجية تحديداً يقف وراءها ولي العهد محمد بن سلمان الذي اتخذ عدة قرارات استراتيجية تتسم بالاندفاع، منها القبض على معظم أمراء الأسرة المالكة وإيداعهم قيد الاحتجاز في "سجن الريتز كارلتون" في إشارة إلى الفندق الذي تحول لمعتقل، وتزامنت تلك الخطوة مع إعلان الحريري استقالته، وهو في ضيافة المملكة أو رهن الاحتجاز بها كما قيل وقتها.
اقتصاد على شفا الانهيار
ليس خافياً على أحد وضع الاقتصاد اللبناني الهش لأسباب عديدة أبرزها الحرب الأهلية (التي اندلعت بين 1975 – 1990) وحملة إعادة الإعمار التي أعقبتها أثراً كبيراً ودائماً على اقتصاد البلاد، فمنذ عام 1990، أسهمت الديون المتراكمة، والاختلالات الهيكلية، والإيرادات غير الكافية، والفساد المستشري، والحروب الدورية في إنشاء اقتصاد يعتقد الكثير من المحللين أنه على شفير الانهيار.
في هذا السياق، بدا أن الاستراتيجية السعودية التي تبناها ولي العهد كانت تستهدف اقتصاد لبنان المليء أساساً بالتحديات، وتقوم بذلك من خلال السعي إلى إضعاف 3 مجالات هشة على نحو أكبر، وهي: العمالة الوافدة، والقطاع المالي، والسياحة، فتم تقييد منح التأشيرات للبنانيين وإصدار حظر على سفر السعوديين للبنان.
ما الذي حدث فجأة؟
أعلنت السعودية في فبراير/شباط الماضي، رفع الحظر عن سفر مواطنيها إلى لبنان كما أعلنت عن فك تجميد المساعدات وتشكيل لجنة من المسؤولين الاقتصاديين في البلدين لبحث سبل دعم الاقتصاد اللبناني، وأعادت تلك الخطوات العلاقات بين الرياض وبيروت إلى سابق عهدها، حيث يهاجم حزب الله ورجاله السعودية بينما يدافع عنها تيار المستقبل.
واستقبل الملك سلمان الإثنين 15 يوليو/تموز ثلاثة من رؤساء لبنان السابقين وذلك في مكتبه بقصر السلام في مدينة جدة، ونشرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية صوراً من اللقاء الذي جمع الملك سلمان بكل من نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام.
وذكرت الوكالة السعودية أنه "جرى خلال الاستقبال استعراض العلاقات الأخوية بين المملكة ولبنان، والتأكيد على حرص المملكة على أمن لبنان واستقراره، وأهمية الحفاظ على لبنان ضمن محيطها العربي، إضافة إلى بحث آخر المستجدات على الساحة اللبنانية" .
غياب ولي العهد عن المشهد
اللافت في هذه التطورات والتغيير الاستراتيجي في التعامل السعودي مع الملف اللبناني هو غياب ولي العهد عن الصورة، وهو ما يفسره المراقبون بأنه محاولات من الملك والمحيطين به لإصلاح ما أفسدته السياسات المتهورة التي ينتهجها بن سلمان، سواء في اليمن أو لبنان أو غيرها من الملفات التي كلفت المملكة الكثير مالياً وسياسياً وأساءت لصورة الرياض على المستوى الدولي.
السعودية لاعب أساسي في لبنان منذ توقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1990 ولم يكن منطقياً أن تتبنى السعودية استراتيجية عدائية تجاه لبنان كما فعل ولي العهد، لأن ذلك يعني ببساطة ترك الساحة خالية أمام حزب الله المدعوم إيرانياً ليكتسب أرضاً جديدة، خصوصاً أن الحرب الاقتصادية السعودية جعلتها تخسر الكثير شعبياً داخل لبنان، حتى وإن كانت مشكلات الاقتصاد اللبناني لا علاقة لها بالإجراءات السعودية العدائية.
النقطة الأخرى في توقيت التراجع السعودي عن السياسات العدائية ترتبط بملف الأزمة الإيرانية الأمريكية ومحاولات الرياض التصدي للنفوذ الإيراني في ساحات الحرب بالوكالة، ومنها لبنان بالطبع، فمن المؤكد أن انسحاب الرياض من لبنان يقوي موقف عدوها هناك حزب الله ويضعف موقف حليفها تيار المستقبل، وهو ما يفسر ذلك التغيير في الاستراتيجية وإعادة الحديث عن ضرورة الالتزام ببنود اتفاق الطائف وإبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية.