على مدى عقود، أجرى المركز الوطني للطب العدلي في إسرائيل اختبارات على بقايا الهياكل العظمية التي يُعثر عليها عند حدودها الشمالية، للتحقق من مطابقة الحمض النووي لأي جندي إسرائيلي مفقود في أثناء القتال وراء خطوط العدو بلبنان أو سوريا.
قال تشن كوغل، رئيس مركز الطب العدلي، لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "من وقت إلى آخر يُحضرون لنا عينات. إنها رفات بشري. وفي كل مرة نقول: ربما نعثر على شيء هذه المرة". ولم نعثر قط على أي تطابق".
ثم وصلت، في وقت سابق من هذا العام، حقيبة من العظام، ومن لحظة فتحها، بدت واعدة. قرر طاقم العمل بعد قليل، أن العظام تعود إلى الرقيب زكريا بوميل، المفقود في لبنان منذ 37 عاماً.
العثور على رفات جندي إسرائيلي مفقود بمساعدة روسية
وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن جثة بوميل انتُشلت من مقبرة في مخيم للاجئين الفلسطينيين على مشارف العاصمة السورية دمشق، التي لا تزال أرضاً معادية؛ نظراً إلى استمرار حالة الحرب بين إسرائيل وسوريا.
نشأ سكان المخيم وهم يستمعون إلى شائعات عن إخفاء جثث الجنود الإسرائيليين المفقودين بين شواهد القبور. لكن مكان وجود رفاتهم الفعلي ظلَّ سراً.
قال السكان في عدد من المقابلات، إن أعمال الحفر بالمقابر بدأت منذ عام 2013، حيث كانت الجماعات المتمردة وميليشيات "الدولة الإسلامية" تسعى على مر السنوات، للعثور على ورقة مساومة عالية القيمة في سياق الحرب الأهلية الفوضوية بسوريا. وراقبت السلطات الإسرائيلية الظروف المغايرة والتقلبات التي شهدتها الحرب، بانتظار اللحظة المناسبة التي قد يتمكنون فيها من استعادة أي من جنودهم المفقودين.
وفي نهاية المطاف، حصلت القوات الروسية، التي تدخلت في الحرب لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، على رفات بوميل، وأعادته إلى إسرائيل.
لكن البحث لم ينته. قال نشطاء سوريون معارضون خلال مقابلات، إن الجنود الروس والسوريين يواصلون الحفر في المقبرة، باحثين عن جثث جنديَّين آخرين فُقدا مع بوميل.
لكن مسؤولاً قريباً من النظام قال إن الجنود كانوا في المنطقة لحماية المقبرة، وليس لحفرها. ورفضت السفارة الروسية في تل أبيب التعليق على الأمر.
6 جنود مفقودين في معركة السلطان يعقوب
اشتبكت القوات الإسرائيلية والسورية في يونيو/حزيران 1982 خلال معركة السلطان يعقوب في سهل البقاع اللبناني، حيث غزت القوات الإسرائيلية لبنان قبل أيام فقط، مستهدفةً منظمة التحرير الفلسطينية.
وكان بوميل، وهو إسرائيلي أمريكي مولود في بروكلين، يقود دبابة عندما تعرضت وحدته لهجوم من القوات السورية. تعرضت الدبابة للقصف، وقفز بوميل وطاقمه منها، ليجدوا أنفسهم في مرمى النيران. وأُعلن لاحقاً فقدان بوميل، إلى جانب خمسة من رفاقه.
قال دين بريليس، مراسل مجلة Time، وقتها إنه رأى بعدها عديداً من الجنود الإسرائيليين يسيرون تحت الحراسة في دمشق مع دباباتهم المأسورة. وتوقف الموكب أمام المقر الرئيسي لسرايا الدفاع، وهي قوة من النخبة العسكرية كان يرأسها آنذاك رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري. لم تكن الصور الملتقطة للموكب واضحة بما يكفي لتحديد هوية أي من الإسرائيليين.
وأُفرج عن أحد أفراد الطاقم، وهو الرقيب أرئيل ليبرمان، الذي أسرته القوات السورية بعد يوم من المعركة، خلال تبادل للأسرى بعد عامين. وفي عام 1985، أُفرج عن أسيرين إسرائيليين آخرين، من بينهم هيزي شاي، قائد دبابة بوميل، خلال عملية تبادل أخرى للأسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين–القيادة العامة، وهي مجموعة فلسطينية مسلحة مقربة من الحكومة السورية. كما جرى تسليم جثة قائد دبابة أخرى.
حتى إن دبابة بوميل عادت في النهاية، فقد سلّمها السوريون إلى الروس، وعرضوها في متحف موسكو للدبابات إلى أن وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إعادتها لإسرائيل عام 2016.
ولكن لم يكن هناك أي أثر لبوميل ورفيقيه مُذخِّر المدفعية زفي فيلدمان والعريف يهودا كاتز.
مكافآت ورسائل مجهولة للبحث عن القبور المخفية
ربما لا يصدّق الفلسطينيون الذين يعيشون في مخيم اليرموك للاجئين -حيث استبدلت بالخيام منذ وقت طويل المباني الحجرية- الشائعات حول دفن جثث الجنود الإسرائيليين على هذا النحو.
ولكن خلال العقد الماضي، تلقّى المقيمون في المخيم مكالمات ورسائل نصية من جهات مجهولة، يُعتقد بشكل كبير أنها من المخابرات الإسرائيلية، تعرض عليهم مكافآت نظير الإدلاء بمعلومات عن الجثث. وبدأوا يقتنعون بوجود الجثث في مكان ما بالمقبرة.
قال ثائر السهلي، الشاعر والمخرج السينمائي الذي فرَّ من اليرموك إلى هولندا عام 2014: "الجميع يعلم ذلك، الجميع".
لكن المكان الفعلي لدفن الجثث ظل سراً لدى كبار أعضاء الفصائل الفلسطينية المسلحة المسؤولة عن المخيم، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، وحركة فتح.
ومع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، تحولت السيطرة على المخيم إلى الجماعات السورية المتمردة والفصائل الفلسطينية التي تقاتل حكومة الأسد.
وعلى الرغم من تصريح نتنياهو بأنه طلب من روسيا استعادة الجثث في عام 2017، قال عدد من المقيمين بمخيم اليرموك إن الإسرائيليين طلبوا المساعدة من الجماعات السورية المتمردة قبل ذلك.
وضمن ذلك مقاتلو تنظيم الدولة
وقال ثلاثة من المقيمين بالمخيم إنه في عام 2013، حفر أحد الفصائل المتمردة حفرة بالقرب من مدخل المقبرة. وزعم المتمردون أنهم يبحثون عن أسلحة قديمة مخبأة منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولكن لم يقتنع أحد بذلك. وعندما اجتاح مقاتلو تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مخيم اليرموك عام 2015، كانوا يدركون -بلا شك- أن المقبرة تحتوي على جائزة قيّمة.
قال أحد المقيمين بالمخيم، فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية: "كانوا يحفرون بين المقابر مدة طويلة". وقال مقيمٌ آخر إنهم استخدموا ذريعة تحطيم شواهد القبور الوثنية للتفتيش عن الجثث.
وبمرور السنوات، ازداد وجود القوات السورية، وانقلبت دفة الحرب ضد القوات السورية المتمردة؛ وهو ما دفع إسرائيل إلى طلب مساعدة موسكو. وخلال مفاوضات استسلام وانسحاب المتمردين، وبحسب تصريحات شخص مطلع على تلك المحادثات، طلب الروسيون بدورهم من القوات المعارضة في العام الماضي، مساعدتهم على استعادة شيء ما من المقبرة.
وقال ذلك الشخص: "كان سباقاً مع الوقت، منافسة بين داعش، الذي لا يزال يبحث عن تلك الجثث، والروس الذين أرادوا هذه الجثث. ولهذا السبب طلبوا دعم المعارضة، ليتمكنوا من الدخول والخروج".
وكشفت روسيا لاحقاً عن إطلاقها عملية داخل الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش في ذلك الوقت؛ سعياً لاستعادة جثث الجنود الإسرائيليين. وقال وزير الدفاع الروسي إن إسرائيل قدمت إحداثيات محددة للبحث، لكن العملية لم تنجح؛ حيث تعرضت القوات الروسية للهجوم، وأصيب عدد من جنود القوات الخاصة الروسية.
وأخيراً، في جهود أُطلقت عليها عملية "أغنية حلوة ومُرَّة"، نجحت إسرائيل في استعادة رفات بوميل. لم تُصدر إسرائيل وروسيا أي تفاصيل عن العملية ولم يُكشف عن كيفية نقل الرفات إلى إسرائيل. لكن مسؤولاً عسكرياً إسرائيلياً، رفض الكشف عن هويته لعدم صدور تلك المعلومات رسمياً، أكّد أن الجثة انتُشلت من مخيم اليرموك. وقال بوتين إنها انتُشلت بمساعدة "شركاء سوريين".
تبادُل للاتهامات بالخيانة بشأن من دلَّهم على قبر بوميل
تبادل الفلسطينيون في مخيم اليرموك الاتهامات حول من خانهم وأخبر الروس عن موقع جثة بوميل.
وقد رفضت حركة فتح، التي كان لها دور تاريخي في الإشراف على المقبرة، الكشف عن أي معلومات. قال أنور رجا، القيادي الكبير بمخيم اليرموك عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إن الجبهة غير متورطة أيضاً في مسألة الكشف عن الجثث.
وأوضح رجا: "الروس هم من أدخلوا أنفسهم وخرجوا". وأضاف أن الروس أخرجوا نحو 10 جثث.
وقالت إسرائيل إنها لم تعقد أي اتفاق لتبادل الجثث، ولكنها في بادرة لإظهار حسن النية أفرجت عن اثنين من المساجين السوريين.
وبالمركز العدلي في تل أبيب، فحص طاقم العمل كل الرفات، ولكن دون التوصل إلى أي تطابق. بحسب فريق العمل، أخذ الجيش الإسرائيلي معظم الرفات العظمي السوري، على الرغم من بقاء واحد حتى وقت قريب.
وقالت نوريت بوبيل، ممسكة بعظام فخذ كبيرة من مختبر الكشف عن الحمض النووي: "إنها من سوريا، ليست بوميل". وقالت إن الجيش سوف يأتي في وقت لاحق ليأخذها.
وقال الفريق جوناثان كونريكس، وهو متحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن الجثث المجهولة فلسطينية على الأرجح، وسوف تُدفن في "مقابر الإرهابيين" بلا علامات وفي موقع لن يُكشف عنه.
تأتي واقعة حفر ونهب وتخريب مقابر اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك ضمن سلسلة طويلة من المآسي المؤلمة. فقد طالبوا إسرائيل بإعادة الرفات الذي لا يطابق الجنود الإسرائيليين المفقودين.
قال السهلي: "إن مقبرة اليرموك مسألة كرامة بالنسبة لنا. قادتنا وأبناؤنا هناك. لقد أخذوا هذه الجثث بلا أي احترام. يجب أن تبقى تلك الجثث مع عائلاتها، مثل جثث بوميل وغيره من الجنود".