الجيش المصري ينافس "أوبر" و"كريم" بسيارات وطائرات، "دابسي شركة بخلفية عسكرية"، بمثل هذه العناوين تصدرت شركة "دابسي" للنقل الجماعي المواقع الإخبارية والسوشيال الميديا، لكن ما حقيقة علاقة الجيش بدابسي؟ ومن أسس هذه الشركة الغامضة ذات النكهة العسكرية؟
في هذا التقرير نقدم لك التفاصيل لإنشاء شركة دابسي التي أثارت الجدل في مصر، ومن أسسها، وما علاقة الجيش المصري بها.
شركة بنكهة عسكرية واضحة
منذ الإعلان عن تأسيس شركة دابسي في مصر أثارت الجدل والاهتمام بعد أن شعر المصريون بنكهتها العسكرية التي بدت واضحة لهم عبر العديد من المؤشرات التي يعرفونها جيداً مع استمرار توسّع الجيش المصري في أنشطته الاقتصادية منذ 30 يونيو/حزيران 2019.
ومن أبرز مؤشرات علاقة الجيش بدابسي التي تحدثت عنها وسائل الإعلام
- ضم الشركة للمتحدث العسكري السابق للقوات المسلحة العميد محمد سمير وإعلانها أنه "يشغل منصب رئيس قطاع تطوير الموارد البشرية، وسيهتم بالإشراف على تطوير أداء العناصر البشرية وتطوير بيئة العمل بها".
- إعلان دابسي أنها تخطط لإطلاق تطبيق إلكتروني عبر الهواتف الذكية خلال أسابيع يتيح طلب سيارات خاصة وحافلات ويخوت وطائرات ودراجات نارية لتوصيل الركاب مقابل أجر، وهي أمور ليست متاحة للقطاع الخاص في مصر خاصة المروحيات.
- اعتزام الشركة تركيب نظام إلكتروني في سياراتها يتضمن شبكة إنترنت مجاني لقائدي السيارات والعملاء، وكاميرا لمراقبة سلوكيات الجانبين.
ولكن سرعان ما اعتذر المتحدث العسكري وزوجته عن عدم الانضمام للشركة بلهجة غريبة
غير أنه بعد هذه الانطلاقة الاستعراضية، ثم سرعان ما سقطت الشركة في دوَّامة الارتباك بإعلان الإعلامية إيمان أبوطالب، زوجة العميد محمد سمير، المتحدث العسكري السابق، أنَّها قدَّمت اعتذارَها عن عدم تولِّي منصب المستشار الإعلامي، كما اعتذر زوجها محمد سمير عن منصب مدير تطوير الموارد البشرية بالشركة، يوم 7 يوليو/تموز الجاري، بعد الاتفاق على الأمر بداية الشهر.
وأوضحت أن هذه الخطوة جاءت لوجود ظروف خاصة تحول دون قدرتهما على التفرغ للوظائف المشار لها.
لكنَّ اللافت هو قولها: "سنتَّخذ الإجراءات القانونية في حال استخدام اسمينا في أي نشاط أو عمل يخص هذه الشركة".
وهذا التحذير تحديداً لم يفهم الكثيرون مغزاه، ولكن سنكشف في هذا التقرير السر الذي يقف وراءه.
الإخوان هم السبب
الشركة بدورها نفت علاقتها بالجيش المصري، لكن كل بيانات وتصريحات النفي لم تحدد أسماء مُلاك الشركة، الذين وُصفوا برجال أعمال مصريين وطنيين ومدنيين.
وألقت "دابسي" باللائمة في انتشار تلك الشائعات على الشركات المنافسة في السوق المصري (توجد شركتان مختصّتان بخدمات النقل باستخدام التطبيقات الذكية، هما أوبر وكريم).
وأوضحت مواقع إعلامية مصرية أنَّ شركة منافسة أطلقت الشائعة، والإخوان بلعوا الطعم ونشروه في الإعلام، فيما وصفوه بـ "حرب شركات النقل".
الإشارة إلى "قوى الشر" كان بمثابة تأكيد لشكوك النشطاء وقوبل بسخرية واسعة.
لكن النفي أثار جدلاً واسعاً بين النشطاء، إذ ألقت "دابسي" اللوم على: "قوى الشر التي تأبى لمصر أن تتقدم، وتقف تلك القوى ضد أي مشروع واعد قد يضاف إلى الاقتصاد المصري، من خلال بثِّ السموم والشائعات المغرضة".
لأن مصطلح أهل الشر كان أول مَن نشره هو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وردَّدته من بعده وسائل الإعلام المحلية في معرض حديثها عن القوى التي يفترض أنها تتآمر على البلاد، وعلى إنجازات الرئيس.
فقد أدى طبيعة هذا النفي إلى ترسيخ الاعتقاد بأن الشركة تابعة للقوات للمسلحة أو المخابرات أو المؤسسات الأمنية بشكل من الأشكال.
والجيش سبق له محاولة الشراكة مع أوبر والحصول على معلومات منها
ومما رسخ الانطباع بأن الجيش يقف وراء الشركة أن ظهورها يأتي في وقت تتوسع أنشطة الجيش المصري الاقتصادية، كما يبدو أن المؤسسة العسكرية كانت تضع عينها على قطاع النقل الذكي خاصة شركة أوبر لأسباب أمنية واقتصادية.
فقد سبق أن طالبت المخابرات الحربية شركتي أوبر وكريم بكشف البيانات الخاصة بعملائهما، وأيضاً السائقين العاملين لديهما، لكن الشركتين اعتبرتا ذلك انتهاكاً لخصوصية المصريين، حسبما كشفت صحيفة "New York Times" الأمريكية.
الصحيفة نقلت عن مسؤول في الشركة الأمريكية قوله إن اللواء علاء عطوة، من الجيش المصري، عرض في اجتماع بتاريخ 19 من يناير/كانون الثاني 2017 صفقة تشتري بموجبها شركة مملوكة للجيش تسمى MSA دهب 5% من أسهم فرع الشركة في مصر، وتستضيف خوادمه، وبرر هذا التوجه بأن الجيش يريد المعلومات المتوافرة لدى الشركة.
كما سبق أن ذكرت شركة أوبر في نشرة اكتتابها العام بالبورصة عن مصر قبل أشهر، أن اللوائح المقترحة الخاصة بالنقل التشاركي في مصر قد تتطلب منها مشاركة بيانات شخصية معينة مع السلطات الحكومية، من أجل تشغيل تطبيق أوبر في البلاد، وقالت إنَّها قد لا تكون على استعداد للقيام بذلك.
لكن رغم محاولات الجيش السابقة لاختراق هذا المجال الواعد اقتصادياً والمهم أمنياً بالنسبة له، فإن حكاية شركة دابسي تبدو أبسط بكثير، إنها حكاية تعبر عن فهلوة فردية (محاولة لاستغلال الفرص باللهجة المصرية) تستغل الهيبة التي تحيط باسم الجيش المصري، وهي الهيبة الكفيلة بتسهيل عمل أي مشروع.
فقد كشفت مصادر متعددة لـ "عربي بوست" حقيقة علاقة الجيش المصري بشركة دابسي، وأن الأمر مختلف تماماً عما أثير في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام.
من هنا بدأت الحكاية.. مخرج لم يُخرج شيئاً
تبدأ القصة عند شاب مصري من مواليد السيدة زينب بالقاهرة يدعى "طه الحكيم" الذي هو نظرياً مخرج ولكنه عملياً منتج.
فالشاب بالأساس دارس لتكنولوجيا المعلومات بأحد المعاهد الخاصة، ولم يعرف له أي تاريخ فني فلم يشارك أو يخرج أو يعمل في أي عمل معروف، حسبما قالت مصادر مقربة منه لـ "عربي بوست.
ومع ذلك يقدم نفسه على أنه مخرج ومنتج سينمائي. وقد اختفى طه قليلاً ليظهر مؤخراً ويعلن أنه حصل على الماجستير والدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة بورتلاند الأمريكية لكنه قرر التفرغ للفن!
أدرك طه ككثير من المصريين أن الجيش هو مفتاح السحري لجميع الأبواب، فقرر أن يدشن مشروعاً جديداً في مجال النقل الذكي الواعد بمصر.
ولكي يحقق النجاح رأى أن اسم المؤسسة العسكرية كفيل بتحقيق انطلاقة سريعة ويعطي انطباعاً أنه مسنود من جهات عليا، ما يجذب الانتباه ويذلل العقبات.
حقيقة العلاقة مع المتحدث العسكري السابق
وجد طه ضالته في العميد متقاعد محمد سمير، المتحدث العسكري السابق، وذلك حسب ما قالت مصادر مقربة من الشاب لـ "عربي بوست".
وكان العميد محمد سمير الذي تقاعد من الجيش قد شغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة شركة "شيري ميديا" لفترة قبل الإطاحة به، وحالياً لا يعمل.
سمير بالنسبة لطه كان فرصة ذهبية، فضمّه لمجلس الإدارة وفقاً لخطة طه سيعطي انطباعاً بأن تلك الشركة مملوكة للجيش أو على الأقل أحد أذرع المخابرات، وهو ما كان سيفتح جميع الأبواب ويذلل كافة العقبات أمام الشاب الطموح.
وأوضحت المصادر ذاتها أن طموح الشاب تقاطع مع طموح العميد سمير، لذا وافق المتحدث العسكري السابق على تولى منصب مدير الموارد البشرية في الشركة على أن تتولى زوجته المذيعة السابقة إيمان أبوطالب منصب المستشارة الإعلامية للشركة. وهذا كان أكبر أخطاء طه كما سيتضح لاحقاً.
كما ضم المخرج الشاب لمجلس إدارة الشركة وليد السكري، مدير إدارة التسويق بوكالة أنباء الشرق الأوسط.
وسِجل وليد السكري لا يختلف كثيراً عن سجل العميد العميد سمير.
فمرة يقرر إطلاق موقع باسم "فيسبوك مصر" باعتباره بديلاً عن موقع فيسبوك، ليفشل تماماً، وتارة أخرى يقرر تأسيس شركة باسم "مجموعة المصريين للاستثمار" تهدف لكسر احتكار تجارة السيارات أثناء حملة "خليها تصدي" ويفشل أيضاً.
اختيارات ذكية تعطي إيحاء بأنها شركة ذات خلفية عسكرية
لا يمكن إنكار ذكاء مؤسس الشركة، فقد بدأت الحملة الإعلانية التي حرص طه على أن يجعلها موحية بأن شركته "مدعومة" من قبل المؤسسات السيادية في مصر.
فمن ناحية هي أول شركة تقدم خدمة الطائرات، ومن ناحية أخرى عمل على تسريب خبر أن المتحدث العسكري السابق العميد محمد سمير يشغل منصب عضو مجلس إدارة الشركة.
وهو ما جعل الجميع يربط بين الشركة وبين الجيش المصري، خصوصاً بعد أن أشار إعلان الشركة إلى أن الرحلات ستكون مراقبة بالكاميرات، وما هو ما أضفى جواً أمنياً ما على المشروع برمته.
وعندما انتشرت القصة -كما أرادها طه بالضبط- وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تتهكم على قرب استحواذ الجيش على سوق النقل الذكي في مصر.
أصدرت الشركة بياناً تنفي علاقتها بجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة كما أشيع.
لكن حرص طه على أن يختتم البيان بعبارات شبيهة بالتي يستخدمها الجيش في بياناته قائلاً: "ونهاية نؤكد أن قوى الشر التي تأبى لمصر أن تتقدم، وتقف تلك القوى ضد أي مشروع واعد قد يضيف إلى الاقتصاد المصري من خلال بث السموم والإشاعات المغرضة"، جعل الأمر يبدو أكثر وكأن الشركة تابعة للجيش حقاً وأن النفي مجرد تمويه.
ثم انقلب السحر على الساحر.. تحذير شديد اللهجة
لكن الذي لم يحسبه طه أن خطته هذه ستسبب مشكلة بالنسبة له.
إذ أدى انتشار فكرة أن الشركة تابعة للجيش خصوصاً مع وجود المتحدث العسكري السابق ضمن مجلس إدارتها، إلى فتح نيران تهكم وسائل التواصل الاجتماعي على القوات المسلحة.
وبدأت السخرية تطال الجيش من كل حدب وصوب، وانتقلت الحملة من صفحات التواصل، إلى وسائل الإعلام في وقت ليس للجيش علاقة بالأمر.
وهو ما دفع المخابرات الحربية للاتصال بالعميد محمد سمير وإبلاغه بأن وجوده في هذه الشركة يسبب حرجاً للجيش لا طائل منه، وأن انسحابه من هذا المشروع أفضل للجميع، طبقاً لمصدر أمني مطلع رفض ذكر اسمه.
وهو ما حدث بالفعل حيث استجاب سمير وزوجته للمكالمة، ونفذ ما طلب منه حرفياً معلناً إنهاء علاقته هو وزوجته بالشركة ومتنصلاً من أي التزام معها.
ولذا يمكن تفهّم وعيد زوجته إيمان بالملاحقة القانونية لأي محاولة للربط بين اسمها واسم زوجها وبين الشركة.
لقد جاء هذا الوعيد بناءً على التحذير الذي ورد في المكالمة.
"فنكوش" دابسي الذي كشف أزمات متعددة
مصادر أمنية أكدت لـ "عربي بوست" أن الجيش المصري ليست له أدنى علاقة بشركة "دابسي" للنقل الذكي، وأن الأمر مجرد محاولة لاستغلال الجيش بطريقة ذكية.
وربما تكون هذه من المرات القلائل التي قرر أحدهم أن يستغل الجيش ويستخدم اسمه دون إرادة المؤسسة العسكرية، في حركة يحتار المرء في وصفها، فهل توصف بالفهلوة أم الجرأة أم العبقرية التجارية أم الحماقة التي ستورط صاحبها مع المؤسسة العسكرية؟!
القصة مضحكة ومبكية في الوقت ذاته، وتذكر المصريين بمصطلح الفنكوش الشهير في الثقافة المصرية، الذي يرمز للمشروعات الوهمية التي يصاحبها دعاية واسعة، لكن الأهم أن القصة كاشفة للكثير من الأمور المؤسفة.
فمن ناحية تكشف "حكاية دابسي" عن ذهنية السوق المصري وكيف أصبح الجميع يدرك أن كلمة الجيش هي المفتاح السحري للنجاح، حتى لو دون أساس.
ومن ناحية أخرى تكشف تطورات الحكاية كيف أصبح هناك توجس في نفوس قطاع ليس بالقليل من المصريين تجاه المؤسسة الأكثر انضباطاً التي كانت منذ سنوات قلائل محل ثقتهم بلا منازع، وأن هناك تذمراً واسع النطاق من توسع دور الجيش في الاقتصاد، وخلطه بين الأمن والاقتصاد، ودخوله في منافسة غير عادلة مع الشركات الأخرى.
كما أن قصة دابسي أظهرت كيف يتعاطى الإعلام المصري والعربي أحياناً مع ما ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي دون تحقق.