وثيقة تكشف مذبحة قرية صفصف
منذ أربع سنوات، عثرت المؤرخة تامار نوفيك على وثيقة في ملف يوسف فاشيتز من القسم العربي في الحزب اليساري مبام، في أرشيف ياد ياري في جيفات هافيفا. الوثيقة التي أصابت نوفيك بالذهول بدا أنها تصف أحداثاً وقعت أثناء حرب 1948، وقرأت فيها:
"صفصف (قرية فلسطينية قرب صفد) – الإمساك بـ52 رجلاً وتقييدهم معاً وحفر حفرة وإلقاؤهم فيها وإطلاق الرصاص عليهم، 10 منهم كانوا ما زالوا يتحركون. جاءت النساء وتوسلن من أجل الرحمة. العثور على جثث 6 رجال عجائز. كانت هناك 63 جثة وثلاث حالات اغتصاب، واحدة للشرق من صفد لفتاة في الرابعة عشرة وأربع رجال مقتولين رمياً بالرصاص. أحدهم تم تقطيع أصابع يده بسكين لأخذ الخاتم".
يواصل الكاتب وصف مجازر وعمليات سلب ونهب واغتصاب قامت بها القوات الإسرائيلية فيما يطلق عليه الإسرائيليون "حرب الاستقلال". نوفيك قالت لهاآرتس: "لا يوجد اسم على الوثيقة، وليس واضحاً من الذي يقف وراء ما حدث فيها، كما أنها مبتورة في المنتصف. وجدت الوثيقة مزعجة للغاية وأدركت أن العثور على وثيقة كهذه جعلني مسئولة عن تفسير ما حدث وقتها".
تم احتلال قرية صفصف الواقعة في الجليل الأعلى من جانب القوات الإسرائيلية في نهاية 1948 في "عملية هيرام" وتم إنشاء مستوطنة موشاف صفصوفة على أنقاض القرية الفلسطينية، وعلى مدى سنوات كان يتردد أن الكتيبة السابعة ارتكبت جرائم حرب في القرية، والوثيقة التي عثرت عليها نوفيك للمرة الأولى حيث لم تكن معروفة للباحثين من قبل تؤكد تلك الاتهامات، كما أنها يمكن أن تمثل دليلاً إضافياً على أن القيادة العليا في إسرائيل كانت على دراية بما حدث وقتها.
قتل جماعي واغتصاب
لذلك قررت نوفيك التشاور مع مؤرخين آخرين بشأن الوثيقة. بيني موريس المؤرخ الذي تعد كتبه أساس دراسة تاريخ النكبة والتهجير الجماعي للفلسطينيين من أراضيهم عام 1948، أخبر نوفيك أنه أيضاً عثر على مستندات مشابهة في الماضي، وكان يشير لملاحظات لعضو لجنة مابام المركزية أهارون كوهين على أساس تقرير قدمه إسرائيل جاليلي رئيس الأركان السابق لميليشيات الهجانة التي أصبحت الجيش الإسرائيلي بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948. ملاحظات كوهين بشأن تلك المجزرة والتي نشرها موريس جاء فيها: "صفصف – 25 رجلاً تم ربطهم بحبل. تم إلقاؤهم في حفرة وأطلق عليهم الرصاص. 10 تم قتلهم. توسلت النساء من أجل الرحمة. (كان هناك) ثلاث حالات اغتصاب. تم الإمساك بهم ثم أطلق سراحهم. فتاة في الرابعة عشرة تم اغتصابها. أربعة آخرون قتلوا. خواتم السكاكين."
ملاحظة موريس (في بحثه الهام "ميلاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947-1949") تقول إن هذه الوثيقة تم العثور عليها في أرشيف ياد ياري. لكن عندما عادت نوفيك لفحص الوثيقة مرة أخرى، اندهشت عندما اكتشفت أنها لم تعد موجودة.
الوثيقة تم دفنها
"ظننت في البداية أن موريس ربما لم يكن دقيقاً في ملاحظته التي دونها أو ربما يكون قد ارتكب خطأً،" قالت نوفيك للصحيفة الإسرائيلية. "استغرقت وقتاً كي أنتبه لحقيقة أن الوثيقة ربما تكون قد اختفت ببساطة".
وعندما سألت المسئولين أين الوثيقة أخبروها أنها تم إخفاؤها في مكان سري في ياد ياري بأوامر من وزارة الدفاع.
منذ بداية الألفية الجديدة، بدأت فرق من وزارة الدفاع الإسرائيلية في التنقيب في الأرشيف وإبعاد الوثائق التاريخية، ولكن ما نتحدث عنها ليست أوراقاً تخص مشروع إسرائيل النووي أو علاقات الدولة الخارجية التي يتم إخفاؤها، حيث تم إخفاء مئات الوثائق التي تخص جرائم الحرب والتهجير أثناء النكبة في إطار جهد منظم لإخفاء الأدلة.
عملية إخفاء منظمة ومستمرة
معهد أكيفوت لأبحاث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كان أول جهة تكتشف الظاهرة، وبحسب تقرير أعده المعهد، يتولى الإشراف على العملية جهاز مالماب أو جهاز الأمن السري لوزارة الدفاع (مصطلح عبري يعني مدير أمن مؤسسة الدفاع) والجهاز تتسم ميزانيته وعملياته بالسرية. وأكد التقرير أن مالماب أخفى بشكل غير قانوني وبدون سلطة مستندات تاريخية وعلى الأقل في بعض الحالات مستندات كانت الرقابة العسكرية قد صرحت بنشرها بالفعل في أوقات سابقة وبعض المستندات التي تم إخفاؤها كانت قد تم نشر محتوياتها بالفعل.
قامت هاارتس بتحقيق استقصائي في هذا الشأن كشف أن مالماب أخفى شهادات من جنرالات في الجيش الإسرائيلي حول قتل المدنيين وهدم القرى إضافة إلى طرد البدو العرب أثناء العقد الأول من تأسيس إسرائيل. وكشفت اللقاءات التي أجرتها الصحيفة مع مديري هيئات الأرشيف العامة والخاصة في إسرائيل عن أن العاملين في القسم الأمني لوزارة الدفاع كانوا يتعاملون مع هيئات الأرشيف على أنها ملكيتهم الخاصة وقاموا في بعض الحالات بتهديد المديرين أنفسهم.
تقويض مصداقية الأبحاث
يهيل هوريف الذي ترأس مالماب لمدة عقدين من الزمان (حتى عام 2007) اعترف للصحيفة بأنه هو من أطلق مشروع دفن مستندات النكبة مؤكداً أن المشروع لا يزال مستمراً. وما زال مقتنعاً بأنه من المنطقي إخفاء أحداث 1948 على أساس أن الكشف عنها قد يتسبب في عدم الاستقرار في صفوف عرب 1948 الذين هم الآن جزء من سكان إسرائيل.
وعند سؤاله عن مغزى إخفاء مستندات تم نشرها بالفعل، كان تفسيره أن الهدف هو "تقويض مصداقية الدراسات حول تاريخ مشكلة اللاجئين"، فمن وجهة نظر هوريف، أي ادعاء يطلقه باحث ويدعمه مستند أصلي لن يكون مشابهاً لادعاء لا يمكن إثباته أو تفنيده.
الوثيقة التي عثرت عليها نوفيك كانت ستضيف مزيد من المصداقية لعمل موريس. أثناء التحقيق الاستقصائي تمكنت هاآرتس من الوصول لمذكرة أهارون كوهين التي تلخص اجتماعاً للجنة السياسية لحزب مابام حول المجازر والتهجير عام 1948، وقد نادى المشاركون في الاجتماع بالتعاون مع لجنة تقصي حقائق للتحقيق في الأحداث. وكانت إحدى الحوادث التي ناقشتها اللجنة "أفعالاً خطيرة" تم ارتكابها في قرية الدوايمة شرق كريات جات، وقد ذكر أحد الحاضرين ميليشيات ليهي السرية التي كان قد تم حلها وقتها وكيف كانت مرتبطة تلك الأحداث وتم الإبلاغ عن أحداث سلب ونهب: "لم يكن هناك متجر يملكه عربي إلا وتعرض للنهب. الكتيبة التاسعة ألقت باللوم على السابعة والسابعة ادعت أن الكتيبة الثامنة هي من ارتكبت الجرائم."
وقرب نهاية الوثيقة، جاء فيها: "الحزب يرفض التهجير طالما لا توجد ضرورة عسكرية. هناك أساليب مختلفة بشأن تقييم الضرورة وأفضل حل وجود تفسيرات أدق. ما حدث في الجليل – أعمال نازية! فرض على كل عضو منا أن يبلغ عما يعرفه."
النسخة الإسرائيلية من التهجير
أحد المستندات بشأن أصل مشكلة اللاجئين كتبها ضابط في جهاز الأمن الداخلي "شاي" وهو الاسم الذي تغير للشين بيت حاليا، وهي وثيقة تناقش لماذا تم إفراغ البلاد من هذا العدد الضخم من سكانها العرب مع التوقف عند ظروف كل قرية وتمت كتابتها في أواخر يونيو/حزيران 1948 تحت عنوان "تهجير عرب فلسطين". (يمكن الاطلاع على ترجمة الوثيقة من العبرية من هذا الرابط)
كتب موريس بيني مقالاً على أساس تلك الوثيقة ونشره عام 1986 وبعد نشر المقال تم إخفاء الوثيقة من الأرشيف وأصبحت غير متاحة للباحثين، وبعد مرور سنوات أعاد فريق من مالماب فحص الوثيقة وأمروا بأن تظل مغلفة بالسرية. لم يكن بمقدورهم أن يعرفوا أنه بعد بضع سنوات سيعثر باحثون من أكيفوت على نسخة من النص ويقدموها للرقابة العسكرية التي صرحت بنشرها دون شروط. الآن وبعد سنوات من الإخفاء والتعتيم، فحوى الوثيقة متاح من خلال هذا التحقيق.
تبدأ الوثيقة المكونة من 25 صفحة بمقدمة توافق دون مواربة على تهجير العرب من قراهم، وبحسب المؤلف شهد شهر أبريل/نيسان (1948) "امتيازاً في زيادة التهجير" بينما كان مايو/أيار "مباركاً من حيث تهجير أكبر عدد من الأماكن في شهر واحد". ثم يتعامل التقرير مع "أسباب تهجير العرب". الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تم نشرها وترسيخها على مدار السنين بشأن تهجير العرب من فلسطين تلقي باللوم على السياسيين العرب بدعوى أنهم هم من شجعوا السكان على النزوح. لكن بحسب هذه الوثيقة، أكثر من 70% من العرب اضطروا لترك قراهم بسبب العمليات العسكرية اليهودية.
مؤلف الوثيقة قام بترتيب أسباب رحيل العرب بحسب الأهمية: السبب الأول "الأعمال العدائية المباشرة التي قامت بها القوات اليهودية ضد أماكن تجمعات العرب"، السبب الثاني "تأثير تلك الأعمال العدوانية على القرى المجاورة، "السبب الثالث من حيث الأهمية "عمليات عسكرية قامت بها جماعات يهودية سرية وهي الإيجون وليهي"، السبب الرابع "أوامر أصدرتها المؤسسات العربية والجماعات العربية المسلحة (الوثيقة تسميها العصابات العربية المسلحة)، السبب الخامس كان "عمليات نشر الشائعات من جانب السكان اليهود لتخويف العرب كي يهربوا" والسبب السادس تمثل في "إنذارات الإخلاء".
يؤكد مؤلف الوثيقة أنه "بدون شك كانت العمليات العدائية هي السبب الرئيسي في تهجير السكان"، مضيفاً أن "مكبرات الصوت باللغة العربية أثبتت فعاليتها عندما تم استخدامها بصورة مناسبة". بالنسبة لعمليات الإيجون وليهي، لاحظت الوثيقة أن "الكثيرين في قرى الجليل الأوسط بدأوا في الفرار بعد اختطاف شيوخ قرية الشيخ مؤنس (شمال تل أبيب)، حيث أدرك العرب أنه ليس كافياً توقيع اتفاقات مع الهجانة (حيث أن هناك جماعات يهودية أخرى مسلحة) عليهم أن يخافوا منها".
معلومات عن أسباب التهجير
ولاحظ المؤلف أن إنذارات الإخلاء تم توظيفها بشكل خاص في الجليل الأوسط وبدرجة أقل في منطقة جبل جيلبوا. "بطبيعة الحال كان الإنذار يتم توجيهه بعد تجهيز الأرض بعدد من العمليات العدائية للتخويف في المنطقة، وتأثيره هنا يشبه تأثير "نصيحة الأصدقاء" من الجيران اليهود."
فهرس الوثيقة يذكر كل قرية وسبب هروب سكانها من العرب. (قرية عين زيتون.. "تدمير القرية")، (قيطية.. المضايقات و"التهديد بالهجمات")، (المنيعة.. "عمل عسكري من جانبنا – قتل الكثيرين")، (طيره.. "نصيحة ودودة من اليهود")، (العمارير.. "قتل وسرقة من جانب جماعات الإيجون وليهي")، (سمسم.. "إنذار بالإخلاء")، (بير سالم.. "هجوم على دار أيتام")، (زارنوقة.. "الغزو والطرد")
شهادات إسرائيلية توثق جرائم الحرب
في بدايات عام 2000، قام مركز إسحاق رابين بإجراء سلسلة من المقابلات مع شخصيات عامة وسياسية سابقة كجزء من مشروع توثيق نشاطهم في خدمة الدولة، لكن الذراع الطويلة لمالماب استولت على تلك المقابلات أيضاً. هاآرتس حصلت على النصوص الأصلية للعديد من تلك المقابلات وقارنتها بالنسخ المتاحة للعامة حالياً بعد إخفاء أجزاء كبيرة منها بداعي السرية.
على سبيل المثال، شهادة الفريق أري شاليف حول طرد المقيمين في قرية سماها "صبرا" ليعبروا الحدود، وخلال المقابلة تم حذف الجمل التالية: "كانت هناك مشكلة كبيرة في الوادي. كان هناك لاجئون أرادوا العودة للوادي، للمثلث (منطقة عربية خالصة من المدن والقرى شرق إسرائيل). كنا قد قمنا بطردهم. قابلتهم محاولاً إقناعهم بألا يرغبوا في العودة. لدي أوراق بهذا الخصوص."
في مثال آخر، قررت مالماب إخفاء الفقرة التالية من مقابلة أجراها المؤرخ بواز ليف توف مع الميجور جنرال إيلاد بيليد:
ليف توف: "نحن نتحدث هنا عن سكان بينهم نساء وأطفال؟"
بيليد: "كلهم. كلهم. نعم."
ليف توف: "ألا يمكنك أن تفرق بينهم؟"
بيليد: "المشكلة بسيطة جداً. الحرب بين شعبين. لابد من خروجهم من منازلهم."
ليف توف: "لو أن لهم بيتاً، ألا يعني ذلك أن لديهم مكاناً يرجعون إليه؟"
بيليد: "لم تكن هناك جيوش بعد. كانت عصابات. نحن أيضاً كنا عصابات في الواقع. نخرج من المنزل ونعود للمنزل. وهم يخرجون من المنزل ويعودون للمنزل. إما منزلهم أو منزلنا."
ليف توف: والشكوك التي يعاني منها الجيل الأصغر؟"
بيليد: "نعم اليوم وأنا جالس في مقعدي هنا أفكر بشأن ما حدث تعصف برأسي كل الأفكار."
ليف توف: "ألم تكن تلك حالتك وقتها؟"
بيليد: "اسمع، دعني أخبرك شيئاً قاسياً وأقل لطفاً بشأن الغارة الكبيرة على ساسا (قرية فلسطينية في الجليل الأعلى). كان الهدف في الواقع هو إرهابهم وأن نخبرهم "أصدقاءنا الأعزاء، الهجانة يمكنها أن تصل أي مكان. أنتم لستم محصنين. كان ذلك هو مركز التواجد العربي ولكن ماذا فعلنا نحن؟ قامت فصيلتي بتفجير 20 منزلاً بكل ما ومن كانوا فيها."
ليف توف: "ليلاً والسكان نائمون في البيوت؟"
بيليد: "أعتقد هذا. الذي حدث أننا جئنا ودخلنا القرية وزرعنا قنبلة بجوار كل منزل وبعدها قام هوميش بإطلاق نفير حيث لم يكن معنا جهاز لاسلكي وكانت تلك الإشارة لقواتنا كي تنسحب من المكان. كنا نجري بشكل منعكس والمفجرون ينتظرون لأن العملية كلها بدائية، يشعلون الفتيل ويركضون وتختفي المنازل."
تدمير القرى العربية
مثال آخر لفقرات أخفتها وزارة الدفاع عن العامة من مقابلة ليف توف مع الميجور جنرال أفراهام تامير:
تامير: "كنت تحت قيادة تشيرا (الجنرال تزيفي تزور الذي تولى فيما بعد قيادة أركان جيش إسرائيل) وكانت تجمعني به علاقة عمل ممتازة. أعطاني حرية التصرف (لا تسأل) وكنت أتولى مسئولية عمليات وفريق أثناء تطورين مشتقين من سياسة (رئيس الوزراء ديفيد) بن غوريون. التطور الأول كان وصول تقارير عن مسيرات للاجئين قادمين من الأردن تجاه القرى المهجرة (في فلسطين – إسرائيل حالياً). وكانت سياسة بن غوريون أن نقوم بهدم قراهم فلا يجدون بيوتاً يعودون إليها وهذا يعني جميع القرى العربية في المنطقة التي تغطيها القيادة المركزية، أو معظمها."
ليف توف: "البيوت التي كانت لا تزال قائمة؟"
تامير: "تلك التي لم يكن قد سكن فيها إسرائيليون بعد، كانت هناك أماكن قمنا بتسكينها بالفعل مثل زاكاريا وغيرها ولكن معظمها كانت لا تزال قرى مهجورة."
ليف توف: "البيوت كانت قائمة؟"
تامير: "قائمة. كان من الضروري ألا يوجد مكان لهم كي يعودوا إليه لذلك جمعت كل سرايا المهندسين التابعة للقيادة المركزية وخلال 48 ساعة سويت كل تلك القرى بالأرض. نقطة. لا يوجد مكان لهم ليعودوا إليه."
ليف توف: "أتخيل أنك فعلت ذلك دون تردد."
تامير: "دون تردد. كانت تلك هي السياسة. جمعت التجهيزات ونفذت السياسة بحذافيرها."