غاز الهيليوم هو ثاني أكثر العناصر الكيميائية وفرة في الكون، حيث يُشكِّل 23% من مجمل كتلة عناصره. وعلى الرغم من توافر الهيليوم بكثرة في جميع أنحاء الكون، يندر وجوده إلى حدٍّ كبير على كوكب الأرض.
إذ تبلغ نسبة الهيليوم 5.2 جزء لكل مليون جزء من هواء غلافنا الجوي.
عندما تُطلق بالونات الهيليوم في حفلات أعياد ميلاد الأطفال، فإنَّ ذلك الهيليوم يرتفع إلى طبقات الجو العليا من الغلاف الجوي للأرض.
ونظراً إلى أنَّه عنصر خفيف الوزن للغاية، يتصاعد إلى أعلى طبقات الغلاف الجوي، حيث الطبقة الأقل كثافة.
قد يظن المرء أنَّ غازاً خفيفاً مثل الهيليوم سيبقى عالقاً في تلك المنطقة، حيث الهواء الأكثر كثافة أسفله يدفعه لأعلى، في حين تدفعه جاذبية الأرض لأسفل.
لكن جزيئات الهيليوم المتصاعدة في الغلاف الجوي قد تتعرض بسهولة للرياح الشمسية -وهي تدفق جزيئات عالية الطاقة من شمسنا– وهو ما يؤدي إلى تطاير الهيليوم من الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي بصورة نهائية.
هذا هو مصير 6.2 مليار قدم مكعبة من غاز الهيليوم نستخدمها سنوياً، وفق ما نشره موقع Big Think الأمريكي.
بكل بساطة، يعتبر الهيليوم مورداً محدوداً على كوكب الأرض، ونفاده يعني الاستغناء عن أشياء أهم كثيراً من مجرد بالونات وأصوات حادة مضحكة.
ماذا يُميِّز الهيليوم؟
يتميَّز الهيليوم ببعض الخصائص الفريدة، التي تجعله مادة أساسية لكثير من الباحثين والعلماء.
الأهم من ذلك أنَّه يمكن تبريد الهيليوم إلى درجات حرارة منخفضة للغاية دون أن يتجمّد، وهي خاصية غير متوافرة في أي عنصر كيميائي آخر.
في الواقع، الهيليوم لا يتجمّد إطلاقاً تحت أي ظروف.
يصبح غاز الهيليوم سائلاً بمجرد تبريده عند نحو 4 درجات كلفن.
و "الكلفن" هو وحدة قياس درجة الحرارة المقاسة على أساس الصفر المطلق استناداً إلى درجة نشاط الجزيئات في المادة، أي إنَّ درجة صفر كلفن تعني توقف حركة الجزيئات تماماً ويكون الجو أبرد ما يمكن. ولتصوّر مدى برودة 4 درجات كلفن، فهي تعادل تقريباً سالب 269.15 درجة مئوية.
هذا مهم بسبب اكتشاف آخَر للعلماء يفيد بأنَّ بعض المواد تفقد جميع المقاومات الكهربائية عند تبريدها بدرجة كافية.
تُسمى تلك المواد الموصلات الفائقة، وتُستخدم في صنع مجموعة واسعة من الأجهزة عالية التقنية مثل مسرّعات الجسيمات، وبعض المفاعلات النووية، ومطيافيات الكتلة، وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي.
لذا، من دون الهيليوم السائل، تصبح هذه التقنيات غير قابلة للتنفيذ، ولا توجد مادة بديلة صالحة لتحل محله.
من أين نحصل على الهيليوم بالأساس؟
معظم الهيليوم الموجود على كوكب الأرض هو نتاج عمليات تحلّل إشعاعي.
إذ تُطلق المعادن المُشعّة المكوّنة من عنصر اليورانيوم والثوريوم جزيئات أشعة ألفا، التي تتكون من نواةٍ ذرتُها من اثنين من البروتونات واثنين من النيترونات.
تجذب جزيئات ألفا الإلكترونات سريعاً وتحوّلها إلى ذرات الهيليوم.
وبهذه الطريقة، يتولّد ما يقدَّر بنحو 3 آلاف طن من الهيليوم سنوياً. ومع ذلك، يُحدث هذا بالكاد تأثيراً في استهلاكنا السنوي.
يتحول إجمالي 6.2 مليار قدم مكعبة من الهيليوم المذكور أعلاه، الذي نستهلكه في العام الواحد، إلى نحو 32 ألف طن (بافتراض أنَّ القدم المكعبة تقاس عند درجة حرارة 70 درجة فهرنهايت "21 درجة مئوية" وتحت ظروف الجو العادية للأرض).
وتعتبر الغالبية العظمى من احتياطيات الهيليوم، التي نعتمد عليها لدعم هذا الاستهلاك المعتاد، حصيلة التراكم التدريجي عبر ملايين السنين.
ومع ذلك، لا يُمكن الوصول بسهولة إلى كل الهيليوم المتولّد في الأرض، وحتى عندما يَسهُل الوصول إليه، غالباً ما يكون جمعه غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية.
يوجد غاز الهيليوم مصاحباً لرواسب الغاز الطبيعي بعد أن يتكوّن من خلال تحلّل عناصر مُشعّة في عمق الأرض.
نتيجة لذلك، يُجمع غالبية الهيليوم من خلال شركات الغاز الطبيعي باعتباره منفعة اقتصادية إضافية.
لكن لسوء الحظ، حدود التكنولوجيا الحالية لا تجعل جمع الهيليوم أمراً مجدياً بالنسبة لشركات الغاز، إلا إذا كان هناك تركيز أكبر من 0.3%.
ومن ثمَّ، تتطاير كمية كبيرة نسبياً من الهيليوم.
لماذا يُباع بسعرٍ زهيد جداً؟
في الماضي، عندما بدت المناطيد وغيرها من السفن الهوائية القائمة على الهيليوم أنَّها ستكون معدات استراتيجية حيوية بالنسبة للدفاع الوطني، جمعت الحكومة الأمريكية أكبر قدر ممكن من الهيليوم وخزَّنته في مدينة أماريلو بولاية تكساس في مخزون الاحتياطي الفيدرالي للهيليوم.
اليوم، يوفّر مخزون الاحتياطي الفيدرالي للهيليوم نحو 40% من استهلاك الهيليوم في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، كانت الحكومة الأمريكية قد أقرَّت تشريعاً يسمح ببيع المخزون الفيدرالي الأمريكي من الهيليوم وأوقفته في عام 2021، في محاولة لاسترداد الديون التي التزمها الاحتياطي وخصخصة السوق.
ونتيجة لذلك، ظلَّت أسعار الهيليوم منخفضة إلى حدٍ ما، منخفضة لدرجة كافية تجعلنا لا نشعر بالسوء الشديد حيال ترك هذا العنصر الثمين يُهدر في بالونات حفلات أعياد الميلاد.
تراجع نسبته يؤثر في التقنية كما نعرفها
ومع ذلك، لا يُعد الهيليوم رخيصاً حقاً لهذه الدرجة، لا سيما بالنسبة للباحثين الذين يعتمدون عليه لإجراء التجارب.
فوفقاً لتقرير صدر عام 2016، ارتفعت أسعار الهيليوم بنسبة 250% في السنوات الخمس السابقة لعام 2016.
في الواقع، اضطر بعض الباحثين إلى إنفاق أكثر من ربع أموال المنح المُقدّمة لهم على شراء الهيليوم السائل.
لن يؤذي نقص مخزون الهيليوم العالمي الباحثين فحسب، بل سيتسبب عدم توافره للاستخدام بالتطبيقات فائقة التقنية في جعل الحياة أكثر صعوبة على الجميع.
قال ويليام هالبرين، أستاذ الفيزياء بجامعة Northwestern الأمريكية، في مقابلة مع صحيفة USA Today، إنَّ "نقص إمدادات الهيليوم الموجودة حالياً -والذي يمكننا توقُّع زيادتها- سوف تؤثر على الجميع بوجهٍ عام".