يوضح تقرير صادر عن أغنيس كالامارد، مقرّرة الأمم المتحدة المعنيّة بالتحقيق في حالات القتل خارج نطاق القانون، تفاصيل أدلة جنائية متعلّقة بسلوك المملكة العربية السعودية قبل مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي وبعده.
ويورد التقرير أيضاً تفاصيل التهديدات المحتملة التي يتعرّض لها الصحفيون والأكاديميون نتيجة استخدام المملكة السعودية برامج التجسس المُتطفّلة ضدهم.
هذا تهديد كان يتعيّن على صحيفة The Guardian البريطانية تقييمه بشيءٍ من الجدية في الشهور الأخيرة.
مساعدُ بنِ سلمان متهم باختراق الصحيفة البريطانية
حُذّرت الصحيفة البريطانية، في وقتٍ سابق من هذا العام، من أنَّها مستهدَفة من وحدة متخصّصة في الأمن السيبراني بالسعودية، أُمرت بـ "اختراق" حسابات البريد الإلكتروني للصحفيين الذين يحقِّقون في مختلف توترات البلاط الملكي السعودي.
أُثير هذا التهديد المحتمل في البداية، من خلال أحد مصادر الصحيفة في الرياض، ودعمت روايتَه لاحقاً نسخةٌ مما يبدو أنَّه أمر داخلي سري. كلَّف هذا الأمر فريقاً تقنياً تنفيذ عمليات "اختراق" لخوادم أجهزة الحاسوب الخاصة بصحيفة The Guardian، "في سرية تامة".
كانت الوثيقة موقَّعة باسم سعود القحطاني، أحد المساعدين المُقربين لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان. وكان القحطاني قد اتُّهم بالإشراف على عملية قتل خاشقجي.
في الأسابيع التي تلت الكشف عن هذه الوثيقة، طلبت الصحيفة البريطانية من السلطات السعودية مراراً وتكراراً، التعليق على هذا التهديد المزعوم لها، وإصدار بيان علني يؤكد تأكيداً قطعياً توقُّف أي عملية من هذا النوع. لكنَّهم رفضوا حتى الآن فعل ذلك.
وبدلاً من ذلك، أقرَّ دبلوماسيون سعوديون بمدى خطورة تلك الادعاءات، لكنهم أثاروا تساؤلات بشأن صحة الوثيقة.
وطالب الدبلوماسيون السعوديون الصحيفة بإطِّلاعهم على الوثيقة، حتى يتمكّنوا من "التحقيق في الأمر على أكمل وجه".
المتهم أيضاً بالإشراف على اغتيال خاشقجي
وبينما يقول خبراء إنَّه ليس بالأمر الاستثنائي أن تستخدم أنظمة استبدادية مثل السعودية، تكتيكات "القرصنة" الإلكترونية ضد صحفيين وكُتّاب، فإنَّ المملكة تتعرّض لضغوط متزايدة.
لم يمض سوى 8 أشهر فقط على تنفيذ فرقة اغتيال سعودية عملية قتل جمال خاشقجي، كاتب العمود الصحفي لدى صحيفة The Washington Post الأمريكية، في مؤامرة يُعتقد على نطاقٍ واسع أنَّها جرت تحت إشراف القحطاني.
وورد اسم القحطاني في الوثيقة المكوّنة من صفحة واحدة، والتي تشير إلى أنَّ الصحيفة ربما أصبحت هدفاً لفريق مُتخصّص في الأمن السيبراني، مقره السعودية، يُدار بشكلٍ مفهوم من المكتب الخاص لولي العهد السعودي.
أصبحت الصحيفة على دراية باحتمالية تعرُّضها لتهديدٍ بعد نشرها تقريراً في شهر مارس/آذار 2019، يتحدث عن توترات بين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ووريثه الشاب المثير للجدل.
وهو ما جعل الصحيفة البريطانية تعمل بحذر في السعودية
أثار هذا التقرير جدلاً واسعاً في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتكهنات بأنَّ الملك كان يحاول تأدية دور أكثر محورية، للمساعدة في توجيه المملكة خلال فترة مضطربة ناجمة جزئياً عن إجراءات نجله الخاطئة أو مَن حوله.
وقد حُثَّ مراسلو صحيفة The Guardian على "اتّخاذ جميع الاحتياطات اللازمة"، لأنَّ عناصر داخل البلاط الملكي السعودي كانت تحاول التعرف على الأفراد الذين ربما كانوا قد أدلوا بتصريحات للصحيفة.
وأُبلغت الصحيفة أيضاً أنَّه ينبغي لها إخطار السلطات المعنيَّة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وقال مصدر الصحيفة البريطانية: "يجب عليكم حماية أنفسكم".
تلقت الصحيفة، في وقتٍ لاحق، نسخة من وثيقة مكتوبة باللغة العربية، يبدو أنَّها تؤكد صحة ما حذَّر منه مصدرها في البداية.
لم يتسنَّ للصحيفة التحقّق بشكلٍ مستقل من صحة الوثيقة، رغم أنَّ جميع تفاصيل الوثيقة أُرسلت إلى السلطات السعودية.
كانت الوثيقة، المؤرخة في 7 مارس/آذار 2019، موجهة إلى "رؤساء الإدارات التكنولوجية والتقنية" لما تُسمَّى إدارة الأمن السيبراني داخل المكتب الخاص لولي العهد.
خاصة أن الرياض كانت تسعى لمعرفة مصادرها
وتشير الوثيقة إلى "المعلومات الحساسة" الواردة في تقرير الصحيفة، وضرورة تتبُّع مصادرها.
تقول الوثيقة: "استناداً إلى ما نُشر بصحيفة The Guardian البريطانية، في عددها الصادر بتاريخ 28-6-1440هـ (6 مارس/آذار 2019)، والذي يتضمن معلومات حساسة عن العلاقة بين خادم الحرمين الشريفين وصاحب السمو ولي العهد حفظه الله، وبسبب ما يُشكّله ذلك من تهديدات أمنية جسيمة وما عرفناه مسبقاً عن وجود بعض التحركات ضد منصب سمو ولي العهد".
وتضيف الوثيقة: "لقد أجرينا عملية تتبُّع أولية لتسريبات الصحيفة، وحدَّدنا أنَّ لديهم مصدرين رئيسيَّين في لندن بالمملكة المتحدة، وفي واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية. ويتّضح لنا أنَّ ثمة علاقة قوية بين الأفراد المشار إليهم أدناه ومصدر (أو مصادر) التسريبات".
وتتابع الوثيقة: "بناءً على ذلك، نأمر بتنفيذ عملية اختراق لخوادم اجهزة الحاسوب الخاصة بالصحيفة وأولئك الذين عملوا على إعداد هذا التقرير المنشور، والتعامل مع المسألة بسرية تامة، ثم إرسال جميع البيانات إلينا في أقرب وقت ممكن".
تُسمي الوثيقة اثنين من صحفيي The Guardian على وجه التحديد: المواطن البريطاني نيك هوبكنز، والأمريكية ستيفاني كيرشغسنر. يبدو أنَّ اسمي كلا الصحفيَّين كانا مكتوبين في خانة الموضوع لمرفقَين يُشار إليهما في الوثيقة.
ورغم كل ذلك فإن القحطاني لا يزال مقرباً من ولي العهد
وقالت مصادر داخل المملكة وخارجها للصحيفة، إنَّ القحطاني لا يزال ضمن أعضاء الزمرة المقرّبة رغم أنَّ ولي العهد كان من المفترض أن يستبعده بعد موجة الغضب العارمة بشأن مقتل خاشقجي.
وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد أدرجت اسم القحطاني على قائمة العقوبات في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018، قائلة إنَّه كان "جزءاً لا يتجزأ من تخطيط وتنفيذ العملية التي قادت إلى مقتل خاشقجي".
وأفادت وزارة الخزانة الأمريكية بأنَّ القحطاني كان أحد المسؤولين السعوديين المتورطين في "القتل الشنيع" للصحفي السعودي في عملية مُتعمّدة ووحشية.
كذلك، أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية اسم القحطاني على قائمة تضم 16 شخصية ممنوعة من دخول الولايات المتحدة، بسبب دورهم المزعوم في قتل خاشقجي.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنَّ الإشعار قد صدر، لأنَّ "لديها معلومات موثوقة تفيد بأنَّ مسؤولي حكومات أجنبية تورطوا في عمليات فساد كبيرة أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان".
قدَّمت صحيفة The Guardian للسفارة السعودية في لندن وواشنطن كل التفاصيل ذات الصلة الموجودة بالوثيقة، ومن بينها تاريخ توقيعها ورقمها المرجعي.
الرياض وصفت اتهامات الصحيفة لها بـ "الخطيرة"
وردَّت السفارة السعودية في واشنطن ولندن في بيانٍ، قائلة إنَّ التلميح بأنَّ المملكة العربية السعودية كانت تسعى إلى اختراق نظام البريد الإلكتروني الخاص بصحيفة The Guardian يُعد مسألة بالغة الخطورة.
وقال البيان إنَّ المملكة العربية السعودية "تشعر بقلق بالغ إزاء مصدر تلك الوثائق، وتطلب نسخاً، حتى يتسنى لنا التحقيق في هذا الأمر على أكمل وجه".
وأضاف البيان: "تمتلك المملكة العربية السعودية قوانين صارمة على نحوٍ استثنائي، لمكافحة الجرائم السيبرانية، وتتعامل مع تلك النوعية من الادعاءات بجدية شديدة. وقد كانت المملكة نفسها ضحية لمحاولات قرصنة خطيرة في الماضي".
وقد أُبلغت الصحيفة البريطانية أنَّ السعودية أعربت عن قلقها بشأن تعرّضها للاستهداف، من خلال حملات تضليل تهدف إلى إلحاق الضرر بالمملكة.
ومع ذلك، رفضت السفارة السعودية في واشنطن ولندن تقديم بيان ينفي أن تكون أي عملية قرصنة قد بدأت أو مستمرة، رغم طلبات الصحيفة المتكررة على مدار عدة أسابيع.