إفراط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح لفرض أجندة واشنطن في السياسة الخارجية على الجميع أعداء وأصدقاء دفع بحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين للسعي بصورة أكثر جدية لإيجاد بديل لرمز الهيمنة الأمريكية وهو الدولار.
مجلة فورين بوليسي أعدت تقريراً عن جهود أوروبا لإيجاد بديلٍ للهيمنة المالية للولايات المتحدة الأمريكية والسيادة العالمية للدولار الأمريكي والتي ازدادت بعد دعوة قادة فرنسيين وألمان لأول مرة إلى الحاجة لاستعادة سيادتهم الاقتصادية في الصيف الماضي.
لكنَّ الحكومات الأوروبية تجد أنَّ الدعوة إلى التوصل إلى خطة عمل قابلة للتطبيق هي أمرٌ الحديث عنه أسهل من تنفيذه، مما بتسبب في إثارة غضبها، بينما لا تزال عرضةً لتكتيكات لي الذراع المستخدمة من جانب واشنطن، لكن هذا لا يعني أنَّ الأوروبيين سيتخلّون عن المحاولة، وهذا يُشكّل خطراً على القوة والهيمنة الأمريكية على المدى البعيد.
الانسحاب من الاتفاق النووي
شعرت بلدان مثل فرنسا وألمانيا بالغضب حيال قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب أحادي الجانب من الصفقة النووية الإيرانية لعام 2015، وإعادة فرض عقوباتٍ تعجيزية على إيران، مما وضع شركاتٍ أوروبية في مرمى نيران العقوبات الأمريكية مباشرةً. لا تزال السياسة الأمريكية تجاه إيران مثيرةً للغضب، وتتواصل الجهود الأوروبية لإنشاء ما يُسمى بـ"الآلية الخاصة" لإتاحة المجال لبعض التبادل التجاري مع إيران، مع عقدٍ اجتماعات هذا الأسبوع حتى مع اشتعال ناقلتي النفط خارج الخليج العربي.
لكن منذ استئناف فرض العقوبات على إيران العام الماضي، كثَّفت إدارة ترامب بشدة استخدامها لأداة العقوبات وغيرها من الأسلحة الاقتصادية، لإجبار كلٍ من الأصدقاء والأعداء على الانصياع لرغبات سياساتها الخارجية.
بالإضافة إلى تبني نهجٍ أكثر تشدداً تجاه إيران، فُرضت هناك عقوبات تعجيزية متزايدة على فنزويلا، من بينها حظرٌ شامل على أي دولة تُقدِّم مساعدةً لصناعة النفط في فنزويلا، وكذلك فُرضت مزيدٌ من العقوبات الأمريكية ضد بنوكٍ روسية وأفراد؛ وتهديدات متكررة بإمكانية فرض عقوبات على الشركات الأوروبية العاملة على إنشاء خط أنابيب الغاز الروسي في ألمانيا، فضلاً عن تهديداتٍ بفرض عقوبات على تركيا، حليفة الناتو، لقراراتها المتعلِّقة بالمشتريات الدفاعية، وحتى استعمالٍ غير مسبوق لقانون مُعلَّق خاص بكوبا يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، من شأنه أن يُمثّل تهديداً مباشراً للشركات في أوروبا وأماكن أخرى.
تأتي هذه العقوبات على رأس مجموعة كبيرة من الإجراءات التجارية ثقيلة الوطأة، بدءاً من رسومٍ جمركية ضخمة على واردات الصين، تهدف إلى إجبار بكين على تغيير نظامها الاقتصادي بأكمله، إلى تهديدٍ بفرض رسوم جمركية على المكسيك، لإجبار البلاد بالقوة على تغيير سياسات الهجرة الخاصة بها، ناهيك عن حملة إدارة ترامب لحشد الدول في جميع أنحاء العالم لإدراج شركة هواوي الصينية، وهي أكبر مُصنِّع لأجهزة الاتصالات في العالم، على القائمة السوداء.
فتش عن الدولار
تمكَّنت واشنطن من ممارسة كل هذا التنمُّر لأنَّ الدولار الأمريكي لا يزال عملة الاحتياط الرئيسية في العالم، والأكثر استخداماً في المعاملات التجارية عبر الحدود، ومع ذلك، تخاطر إدارة ترامب باللجوء إلى هذا السلاح المالي بلا مبالاة غير مسبوقة، وفقاً لما قاله جون سميث، الذي استقال من منصب رئيس قسم العقوبات في وزارة الخزانة الأمريكية العام الماضي.
وأضاف سميث، الرئيس المشارك حالياً لمجموعة الأمن القومي بمؤسسة موريسون آند فورستر: "ما يدعو للقلق الشديد أنَّه كلما دفعت الولايات المتحدة أوروبا بعيداً عنها ولم تُشركها في وضع السياسات، فهي تدفعها في الوقت نفسه إلى وضع الصيغة النهائية لبدائل حقيقية للنظام المالي الأمريكي، مما سيُضعف في نهاية المطاف القوة الاقتصادية للولايات المتحدة وقدرتها على استخدام سلاح العقوبات بفاعلية".
حتى الآن، يُعزِّز رد الفعل المعاكس على الإجراءات المالية الأمريكية إلى حدٍ ما آفاق اليورو، إذ خلص البنك المركزي الأوروبي يوم الخميس 13 يونيو/حزيران في تقريره السنوي عن استخدام اليورو إلى أنَّ "المخاوف المتزايدة بشأن تأثير التوترات التجارية الدولية والتحدّيات التي تواجه مبدأ التعددية، من بينها الفرض أحادي الجانب للعقوبات، يبدو أنَّه عزَّز المكانة العالمية لليورو على مدار العام الماضي".
وفي حين بقيت حصة اليورو في المعاملات عبر الحدود دون تغييرٍ تقريباً؛ أقل قليلاً من ثلث جميع المعاملات، نمت حصة اليورو في الاحتياطي النقدي العالمي من العملات الأجنبية خلال العام الماضي. وفي المقابل، انخفضت حصة الدولار إلى أدنى مستوى لها منذ 20 عاماً تقريباً. وقال البنك المركزي الأوروبي إنَّ بعض البنوك المركزية تقلّل من التعامل بالدولار بسبب خطر الإجراءات أحادية الجانب.
المقاومة تزداد
في السياق ذاته، رفض وزير المالية الفرنسي برونو لومير هذا الأسبوع الضغط الأمريكي لحظر شركة هواوي، مشيراً إلى ضرورة حماية السيادة الفرنسية. ودعا أيضاً هذا الشهر محافظ البنك المركزي الفرنسي، الذي ينافس على منصب الرئيس القادم للبنك المركزي الأوروبي، إلى دورٍ أكبر لليورو لاستعادة السيادة المالية لأوروبا. في الوقت نفسه، يحتج كبار المشرِّعين الفرنسيين ضد العقوبات الأمريكية التي تتجاوز الحدود الإقليمية للولايات المتحدة، ويعربون عن قلقهم حيال مستقبل التحالف عبر الأطلسي. حتى إسبانيا قاومت بحدة ضد إحياء الولايات المتحدة لعقوبات كوبا، التي تُهدِّد أنشطتها التجارية الرئيسية.
وأوضح سميث إنَّه في حين استخدمت الولايات المتحدة بعدوانية مكانتها المركزية في النظام المالي العالمي لفرض عقوباتٍ على الجهات المارقة منذ التسعينيات، فإنَّ ما يفعله الرئيس ترامب يُعد أمراً هائلاً غير مسبوق.
وأضاف: "إدارة ترامب لديها استعدادٌ كبير لمواجهة الجميع، حتى الحلفاء، والسعي لفرض تغييراتٍ على مواقفهم في مجال السياسة الخارجية باستخدام التهديد بفرض العقوبات، فضلاً عن التهديدات التجارية. نحن نسمع الآن من فرنسا وألمانيا ما اعتدنا سماعه من الصين وروسيا".
صعوبة إيجاد البديل المناسب
تكمن مشكلة حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا وأماكن أخرى، الذين يبحثون عن وسيلةٍ للتملّص من القوة المالية الأمريكية، في أنَّ الانشقاق عن أكثر من سبعة عقود من هيمنة الدولار يبدو صعباً للغاية. إذ يظل النظام المالي الأمريكي الجهاز العصبي المركزي لمعظم المعاملات المالية. وهذا يمنح صانعي السياسة في الولايات المتحدة القدرة على الضغط على دولٍ أخرى بطريقةٍ لا مثيل لها في أي مكانٍ آخر، على الرغم من عقودٍ من الجهود المُتفرّقة التي تبذلها دولٌ مثل اليابان والصين ودول أخرى لاستبدال عملاتها الوطنية و أنظمتها المصرفية بالدولار.
ويتضح ذلك بشكلٍ خاص في الجهود الأوروبية للحفاظ على استمرار التجارة مع إيران من خلال الآلية الخاصة لدعم التبادل التجاري، وهي آلية مالية خاصة مُصمّمة للسماح بتجارةٍ محدودة في المنتجات الإنسانية والطبية على الرغم من العقوبات الأمريكية. ومع ذلك، لا تزال أوروبا وإيران بعد عامٍ من المحاولة لا يملكان نظاماً فعالاً قائماً للتبادل التجاري. والأهم من كل ذلك، على الرغم من أنَّ الكثير من الحكومات الأوروبية والاتحاد الأروبي سترغب في الوفاء بالتزاماتها تجاه إيران بموجب اتفاقية عام 2015، فإنَّ الشركات الأوروبية لديها أجندتها الخاصة، والتي لا تشتمل على الدخول في خصومةٍ مع وزارة الخزانة الأمريكية.
ويقول باري آيكنغرين، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، إنَّ "الشركات تفعل ما يخدم مصالحها على النحو الأفضل، حتى الشركات الروسية والصينية. ولا تضع رغبات الحكومات فوق مصالحها الذاتية بصورة تلقائية. وفي الوقت الراهن، ما زال استخدام الدولار ملائماً وذا فائدةٍ اقتصادية من وجهة نظر الشركات".
هل يكون اليورو هو الملك الجديد؟
هذا أحد الأسباب التي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى مضاعفة الجهود منذ العام الماضي للاضطلاع بدورٍ دولي أكبر لليورو، ثاني أهم عملة في العالم.
ودعا رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في الخريف الماضي إلى تنفيذ إصلاحاتٍ اقتصادية ونقدية أعمق لتعزيز دور اليورو في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي سيساعد على حماية أوروبا من النزعة "الفردية الأنانية" للآخرين. وقال يونكر: "يجب أن يصبح اليورو وجه وأداة أوروبا الجديدة التي تتمتَّع بسيادةٍ أكبر".
وقد أعلنت المفوضية الأوروبية في أواخر العام الماضي خارطة طريق لتعزيز الدور الدولي لليورو، من بينها استكمال خطوات إنشاء اتحاد نقدي أوروبي حقيقي بعد 20 عاماً من إطلاق العملة الأوروبية، من خلال إنشاء مؤسسات مصرفية وأسواق رأس مال على مستوى عموم أوروبا، إذ لا تزال هذه المؤسسات والأسواق مُجزّأةً حسب الحدود الوطنية. وثمة مبدأ رئيسي آخر يتمثَّل في استخدام اليورو أكثر في قطاع الطاقة، وتقليل استخدام الدولار. إذ تدفع معظم دول أوروبا بالدولار لشراء النفط والفحم والغاز الطبيعي، على الرغم من كونها أكبر مستورد للطاقة في العالم.
وأفادت المفوضية الأوروبية هذا الأسبوع بأنَّ المشاورات مع مجموعةٍ واسعة من الصناعات أظهرت "دعماً واسعاً لتقليل الاعتماد على عملةٍ عالمية مهيمنة واحدة، واعترافاً بأنَّ الاتحاد الأوروبي يستطيع تعزيز سيادته الاقتصادية من خلال اليورو". ووجدت المفوضية أنَّ اليورو هو العملة الوحيدة التي يمكنها التنافس فعلياً مع الدولار.
لكنَّ أوروبا لا تزال تكافح من أجل التعامل بعملتها المفضلة لأسبابٍ تبدو منطقية، منها الثلاثمائة مليار يورو التي تنفقها القارة سنوياً لاستيراد الطاقة، والتي يُدفع معظمها فعلياً بالدولار الأمريكي، الذي يمر عبر البنوك الأمريكية تحت إشراف السلطات الأمريكية. ويؤكد مسؤولو المفوضية الأوروبية أنَّه يجب إحراز مزيدٍ من التقدم في إنشاء الاتحاد النقدي والمصرفي الأوروبي، ولا سيما تأسيس سوق رأس مال أوروبية حقيقية، لتكون أوروبا قادرةً على التنافس على نحوٍ أفضل مع الدولار والقوة المالية الأمريكية.
وقال آيكنغرين: "ما الذي يعوق اليورو؟ لا تزال الأسواق المالية الوطنية في أوروبا تفتقر إلى اتساع وسيولة الأسواق المالية الأمريكية لأنَّها مُجزّأة حسب حدودٍ وطنية". ومع ذلك، أكَّد أنَّ "هذه المشاريع التجريبية تُبشِّر بما سيأتي لاحقاً. سيستغرق الأمر فقط بعض الوقت لبلوغ الهدف"، مشيراً إلى المثل الشهير: "روما لم تُبنَ في يومٍ واحد".
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا كثيراً من المشاحنات الاقتصادية الحادة عبر السنوات، بدءاً من النزاعات حول التجارة والسياسة النقدية في سبعينيات القرن الماضي، إلى معارك دامت لعقود حول الزراعة والإعانات الصناعية والرسوم الجمركية. لكن يقول سميث إنَّ إصرار أمريكا مؤخراً على استخدام قوتها المالية لإجبار حتى أقرب حلفائها على تنفيذ رغباتها يعتبر مبدأً جديداً كلياً، وقد تنجم عنه عواقب مستمرة.
وأضاف: "ساهمت الولايات المتحدة في دفع أوروبا بشأن هذه المسألة إلى حافة الهاوية، حيث تبحث العواصم في جميع أنحاء أوروبا عن بدائل، وعند مرحلةٍ ما، ستؤتي بعض تلك البدائل ثمارها".