صدر مؤخراً كتاب "قواعد موسكو" لأنطونيو وجوانا منديز، وهما عميلان لوكالة المخابرات الأمريكية في سبعينات القرن الماضي، كشفا فيه عن بعض عمليات التجسس التي نفذاها في موسكو على غرار أفلام الجاسوس البريطاني الأشهر جيمس بوند، حيث كشف الكتاب توظيف بعض الحركات التي يستخدمها السحرة وأهمها "التنكر أثناء الحركة"، فما هي القصة؟
يتناول هذا الجزء من الكتاب قصة عملية تقنية شاقة قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في موسكو، بدعم من مكتبنا أو مكتب الخدمات التقنية، وهي مجموعة تشبه إلى حد بعيد مكتب "البحث والتطوير" في روايات جيمس بوند، بحسب التقرير الذي نشره موقع ذا ديلي بيست الأمريكي.
وكانت العملية تستهدف خط اتصالات، تم تركيبه تحت الأرض مُؤخَّراً، يربط بين معهد كراسنايا باخرا لأبحاث الأسلحة النووية ووزارة الدفاع السوفيتية في قلب موسكو، وكانت تُوجد سلسلةٌ من الحفر، التي تسمح بالوصول إلى خط الاتصالات الجديد، بجوار طريقٍ شديد الازدحام حول موسكو، وكانت المشكلة تكمُن في كيفية إدخال أحد ضباطنا إلى إحدى تلك الحفر، رغم المراقبة اللصيقة التي كنا نتعرض لها جميعاً.
وجاء الحل من قسم التنكر لدينا في صورة تقنية جديدة أطلقنا عليها "التنكر أثناء الحركة"، وهي التقنية التي تحوَّلت إلى أداةٍ استخدمناها في أكثر من مناسبة. وكما هو مُعتادٌ في مجال عملنا؛ فإنَّنا نخرج بأفضل الحلول حين يتملَّك منا اليأس. إذ كُنَّا بحاجةٍ إلى تقنيةٍ تُمكِّنُنا من تأمين أول رجالنا، فضلاً عن القدرة على إعادة استخدامها باستمرار، لذا شغَّل الفنيون في مكتبنا أجهزة التنصت بمجرد تثبيتها.
وإليكم كيف بدأ الأمر على لسان أنطونيو منديز
لا يزال مكتب الخدمات التقنية في المبنى رقم 2430 بشارع إي عنواناً سيئ السمعة في عالم الاستخبارات. وهُناك تقع مجموعة من المباني فوق التل خلف مكتب الطب البحري في مواجهة الشارع الثالث والعشرين المُتفرِّع من وزارة الخارجية، حيث أطلق وايلد بيل دونوفان العنان للقدرات الاستخباراتية الوليدة في الولايات المتحدة من خلال مكتب الخدمات الاستراتيجية، وهو المكان الذي أقام فيه بوب غيتس مع عددٍ من الجنرالات حين كان وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس أوباما، على بعد ثلاث بنايات فقط من البيت الأبيض.
وكان الطابق العلوي من المبنى الجنوبي عبارةً عن قاعةٍ طويلة مظلمة، لذا استخدمنا هذه المساحة في الطابق الرابع باعتبارها قاعدةً لاختبارات التصوير الفوتوغرافي، وحقلاً خالياً من العوائق لقياسات فقدان المسار الخاصة بأحدث أجهزة الاتصال الراديوية لدينا، لكنها استخدمت في ذلك اليوم بصفتها ثغرة، أو فاصل زمني مُدته 45 ثانية في سيناريو المراقبة بموسكو، حين أكون بعيداً عن أنظار فريق المراقبة التابع للاستخبارات السوفيتية. إذ كان أمامي 45 ثانية و45 خطوة لتغيير مظهري تماماً. وكانت هذه هي فرصتي لأشرح أمام مديري عملياً ماهية تقنية "التنكُّر أثناء الحركة".
كنت أرتدي معطف مطر وبنطالاً داكن اللون وحذاءً أسود، وأحمل حقيبة مستندات صغيرة فقط. نظرت إلى الضوء الخافت ورأيت بالكاد مديري ديفيد براندوين، مدير مكتب الخدمات التقنية، في الطرف الآخر من القاعة. كان براندوين جالساً، أو على وجه التحديد، مُمدَّداً على كرسيٍ يبعد عني حوالي 36 متراً. وبجانبه مساعدته جونا غويسر، التي كانت تُدوِّن الملاحظات عن هذا التدريب.
نظرت إلى ساعتي، لأجِدَ أنَّ عقرب الثواني تجاوز الثانية عشرة للتو، فبدأت التحرُّك. خطوةٌ في كل ثانية، و45 ثانية لإنجاز عملية التحوُّل بالكامل. تدرَّبت على هذا التنكر عدة مرات في شوارع واشنطن العاصمة، تحت أنظار فريقنا الأمني الخاص، لكن الأدرينالين اندفع في عروقي بجنونٍ رغم ذلك. وتسارعت أنفاسي، وكأن قلبي على وشك القفز خارج صدري.
التحول من رجل إلى سيدة عجوز
توقفت ووضعت حقيبة المستندات على الأرض. وقُلت في عقلي، "خُذ وقتك، وتمهَّل، وتصرَّف بوتيرةٍ طبيعية". لمست زراً على الحقيبة لأفتحها، فتحوَّلت إلى عربة بقالة على عجلات. وأصبحت يد الحقيبة مقبضاً للعربة، وانتفخ كيسٌ ورقي بني اللون أيضاً وتضخَّمت محتوياته -رغيف خبز وبعض الخضروات- لتملأ المساحة الشاغرة الجديدة.
تقدمت للأمام بضع خطوات، وأوقفت العربة وبدأت في خلع معطف المطر. وكنت مُضطراً لأُمسك أطراف الأكمام بإحكام حتى أقلب المعطف، لأجعل بطانته هي الظاهرة بينما أخرج ذراعي. كان التحول دراماتيكياً، إذ تحوَّل المعطف الرجالي الأسود إلى معطفٍ نسائي وردي اللون مع شال متصل حول الكتفين. ثم أدخلت ذراعي داخل الكمين ومددتهما أمامي.
وتقدمت نحو براندوين وأنا أدفع العربة. ثُم انحنيت إلى الأمام، وسحبت ساقي البنطال، اليسرى أولاً ثم أتبعتها باليمنى. حينها أمسكت مادةٌ تشبه اللاصقة القماشية بساقي السروال وأبقتهما مرتفعين، لتكشف عن جوارب نسائية سوداء. وبعد خطوات قليلة، مددت يدي إلى أسفل وخلعت الحذاء المطاطي، فردةً تلو الأخرى، مدخلاً إياها في ثوبي، لتتحوَّل كل فردةٍ إلى ثدي امرأة. وظهر بدلاً منهما حذاءٌ نسائي أسود من طراز ماري جين، مقاس 11، ليضفي المزيد من التفاصيل الأنثوية على الإطلالة.
ثم نظرت في ساعتي، لأجد أنني استغرقت 20 ثانية في التغيير. وهذا أمرٌ رائع لأنَّني لم أتأخر عن الموعد المُحدَّد. كان براندوين آنذاك في حالةٍ هي أبعد ما يكون عن الوقوع فريسة لاضطرابات النوم، إذ جلس مُعتدلاً وبدا عليه الاهتمام والإعجاب بذلك الأداء.
إخفاء الشارب
وأثناء تقدُّمي داخل الممر المُعتم في اتجاهه، جذبت من جيب المعطف الوردي قناعاً قضيت الكثير من عطلات نهاية الأسبوع في صناعته، وارتديته بيدٍ واحدة على وجهي لأخفي شاربي البارز. وجذبت باليد الأخرى الشال المتصل بالمعطف فوق شعري، فانبثق شعر نسائي مستعار رمادي اللون أسفل الشال وتدلَّى قليلاً على وجهي.
وحين اقتربت من براندوين آنذاك، وأنا أمشي ببطء دافعاً عربة البقالة وكأنني بائعةٌ متجولة، رأيت لمعة التقدير في عينيه وهو يومئ برأسه إلى جونا. وكان يعلم أنَّني عملت مع تُجار فريدين من نوعهم؛ إذ خاط المعطف ذو الوجهين خياطٌ مميَّزٌ للغاية في ولاية بنسيلفانيا، وكان يعمل أيضاً في مجال صناعة السحر. في حين طوَّر أحد مستشاري الحيل السحرية لدينا، ويُدعى ويل من لوس أنجلوس، عربة البقالة المنبثقة.
أنجزنا المهمة في 45 ثانية. وحظي عرضنا لبرنامج "التنكر أثناء الحركة" أمام ديف براندوين بالنجَّاح. إذ اختفى رجل الأعمال الذي يرتدي معطف المطر ويحمل حقيبة مستندات، وتحوَّل إلى سيدةٍ عجوز ضئيلة الحجم ترتدي معطفاً وردياً قذراً وشالاً وتدفع عربة بقالة ممتلئة. هل ستتشكك في أمر سيدةٍ عجوز ضئيلة الحجم؟
ثُم عرضت التقنية في المقر الرئيسي أمام جاك، الذي انبهر بها أيضاً، بعد أن حصلت على موافقة براندوين. واصطحبنا جيم أولسون إلى مختبرات التنكر، إثر اختياره لتنفيذ مهمته، وبدأنا في تجربة بعض السيناريوهات.
دبلوماسي يتحول إلى أستاذ جامعي
وكلَّفت خياطنا في نيو إنجلاند بتفصيل بدلة سريعة التغيير من ثلاث قطع لأولسون. فصنع الخياط بدلةً يمكُن قلبها تماماً، من الرأس وحتى أخمص القدمين. وشملت البدلة سترةً بها عدة جيوب وسروالاً يمكن أن ينسدل من السترة عند فك اللاصق القماشي. وكان أولسون يستطيع تغيير سرواله بسهولةٍ أثناء المشي. وكان يحمل كتاباً كبيراً مصنوعاً من رغوةٍ مضغوطة، وهي في الواقع جهاز إخفاء لبعض المواد التي سيحتاج إلى إنزالها في الحفرة.
ويستطيع أولسون بفضل تلك الأمور أن يتحوَّل من دبلوماسيٍ أمريكي يرتدي بدلةً من ثلاث قطع إلى أستاذٍ جامعي روسي مُلتحٍ يرتدي سروالاً واسعاً وسُترة، ويحمل كتاباً، خلال أقل من 45 ثانية رغم وجود مراقبةٍ لصيقة. وحدث الأمر بسرعةٍ بالغة، لدرجة أنَّ المارة الاعتياديين لن يُلاحظوا الأمر بالمرة. إذ يخرج القناع من جيب سرواله ليرتديه ببساطةٍ وكأنَّه قبعةٌ شتوية. وحدث الأمر خلال مشيه، أثناء الحركة، وهو يتجوَّل داخل حديقةٍ في موسكو وبطول الشارع الذي تقع فيه الحفر.
وعلمت في وقتٍ لاحق أنَّ عملية التنكر نجحت، وأنَّ أولسون استطاع التسلل إلى الحفرة دون أن يُكشف أمره. وكانت مهمته تتضمن تصوير الموقع وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، بصفته أول رجلٍ في العملية. ونجاح أولسون في العودة بصور ومخططات خاصة لغرفة صغيرة تتقاطع فيها أكثر من 10 كابلات مُغلفة بالرصاص، ومملوءة بالغاز لمنع العبث بها. ويضغط الغاز على الكابلات، التي ترسل إشارات إلى جهاز استشعار في حال اختراقها، نتيجة انخفاض الضغط.
وتمكنت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من الانتقال إلى المرحلة التالية من العملية، مع وجود هذه المعلومات في متناول يدها. وخلال تلك المرحلة، ذهب أحد تقنيينا إلى الحفرة نفسها لإجراء اختبارات على الأسلاك وتحديد الكابلات المتصلة بمنشأة التجارب النووية. وكانت المهمة الشاقة تتضمن ربط جهازٍ يحتوي على مجسّين حول كل كابل لاختبار الإشارات. وشملت المرحلة الثالثة والأخيرة وضع جهاز التنصت. إذ صمم مكتب الخدمات التقنية نوعاً من الأطواق التي يمكن وضعها حول الكابل الخارجي حتى لا تعمل أجهزة الاستشعار بالضغط. ونجحت أجهزة التنصت نجاحاً باهراً بمجرد تثبيتها، إذ كانت تنقل الإشارات المعترضة إلى جهاز تسجيلٍ مخفي في مكانٍ قريب.
ومثَّلت العملية إنجازاً هائلاً؛ إذ اجتمعت التكنولوجيا والتقنيات لإنجاز واحدةٍ من أكثر المهام جرأةً داخل موسكو. وهذا هو الدليل الكافي لإقناع أي شخصٍ لا يزال يُشكِّك في أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أعادت تشكيل القواعد بالكامل في ما يتعلَّق بتنفيذ العمليات داخل العاصمة السوفييتية. ويسترجع البعض ذكريات عملية تولكاتشيف، وعملية "CKTAW" للتنصُّت على المكالمات الهاتفية، معتبرين تلك الفترة عصراً ذهبياً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. ومثَّلت العمليتان قصص نجاح هائلة، ونُفِّذتا أيضاً داخل أكثر بيئة مُعادية لتنفيذ عملية استخباراتية. ومن المؤكد أنَّه يبدو وكأن جهاز الاستخبارات السوفييتية كان عاجزاً عن إيقافنا. ولكن ذلك الشعور لم يَدُم سوء الحظ.