أخيراً فعلتها. حصلت على الترقية، أو زيادة في المُرتّب، أو ربما أنهيت مشروعاً أو شيئاً آخر يعزز مسارك المهني. إنَّه شعورٌ رائع بالإنجاز، عليك أن تكون فخوراً.
ولكنك لاحقاً تنزل عن ذروة سعادتك، وتبدأ الحقيقة في التجلّي؛ أين ستذهب من هذه النقطة؟
بحسب ما نشرته صحيفة New York Times الأميركية؛ يقول تال بن شاهار، خبير علم النفس الإيجابي الذي تدرّب في جامعة هارفارد، والذي يُنسب إليه وضع هذا المُصطلح: "مّغالطة الوصول هي هذا الوهم الذي نصنعه بالظن أننا بمجرّد اقتناص هدفنا أو الوصول إلى وجهتنا، فنحن وقد وصلنا إلى السعادة الباقية".
الشعور بالإشباع لفترة وجيزة
وأضاف تال أنَّ مُغالطة الوصول هي السبب الذي يجعل بعض نجوم هوليوود يُعانون من مُشكلات صحّية نفسية، ويتعاطون المُخدّرات في مراحل مُتقدّمة من العُمر.
ويبدأ هؤلاء المسار وهم ليسوا سُعداء، ولكنّهم يقولون لأنفسهم "حسناً، حين أحقق كذا سأكون سعيداً"، ولكنّهم يُحققون ما رغبوا فيه لاحقاً، وفي حين أنّهم يشعرون بالإشباع لفترة وجيزة، لا يستمر هذا الشعور. ويشرح الأمر قائلاً:
"في هذه المرة هم ليسوا سُعداء، بل الأكثر هو أنَّهم ليسوا سُعداء وبلا أمل، لأنَّهم عاشوا من قبل تحت مظلّة الوهم -الأمل الزائف- بأنَّهم حين يُحققون هدفهم سيكونون سُعداء".
والمُشكلة هي أن تحقيق الإنجاز لا يُساوي السعادة، أو على الأقل لا يضمن السعادة طويلة الأجل. ولكنّ هذه الرسالة لا يألفها مُعظمنا، في الحقيقة إنَّها نقيض للحلم الأمريكي الذي يقول لنا إنَّ العمل الشاق والإنجاز يُؤدّيان إلى حياة سعيدة.
ومن ثم، ندفع أبناءنا ليصيروا قادة فرق كرة قدم تجوب العالم، أو عازفين أساسيين في أوركسترا، أو رؤساء لكيانات طلّابية، هذا لأننا نريدهم أن يكونوا ناجحين. نُريدهم أن يكونوا سُعداء.
ولاحقاً، حين يبلغوا سن الرابعة والثلاثين، فور تحقيق إنجاز كبير وهم مغمورون بشعور عميق بعدم السعادة يجدون أنفسهم يجلسون في سيّاراتهم كثيراً للبكاء في ساحة توقف السيارات الخاصة بمتجر قائلين: "أهلاً من جديد.. هذا أنا". وقد ينتهي بهم المطاف شاعرين بأنَّ شيئاً مُتأصِلاً مُحطّمٌ بداخلهم.
الأمان الوظيفي
وقد ألّف الطبيب تال مُصطلح "مُغالطة الوصول" بعد التعرّض لآثاره حين كان لاعب إسكواش بارزاً صغير السن.
يقول: "كنت أظنّ أنني إذا فزت بالمباراة سأكون سعيداً بعدها، وأفوز، وأصير سعيداً، ويعود من جديد نفس الضغط النفسي والخواء الداخلي".
وتُرجّح دراسة أنَّ مغالطة الوصول تلك لا تقتصر على فئة قليلة، فقد أشار تال إلى دراسة نُشِرت في عام 1998 في دورية Journal of Personality and Social Psychology، طُلب خلالها من الأساتذة الجامعيين الذين تقلّدوا منصب التدريس الجامعي أو حرِّموا منها خلال السنوات الخمس التالية تقييم سعادتهم. ويُعتبر تقلُّد هذا المنصب هو زهو الأوساط الأكاديمية.
فهو يضمن الأمان الوظيفي والمكانة الاجتماعية المرموقة، وعادة، عثرات بشأن الأجر، لذا فإنك تتوقّع أن الأساتذة الجامعيين الذين يتقلّدون مناصب أكاديمية راضون بقدرٍ أكبر عن وظائفهم، ولكن المشاركين ضمن كلا المجموعتين قالوا إنَّ لديهم مُستويات مماثلة من السعادة.
وسألت هذه الدراسة أيضاً الأساتذة المُساعدين، الذين لم يجر تقليدهم بعد مناصب التدريس الأكاديمي، عن مدى السعادة التي يعتقدون أن تحقيق الأهداف يجلبها لهم.
وكان هؤلاء يبالغون باستمرار في تقدير مدى البهجة التي تصاحب مسارهم، وبحسب جيمي غرومان، الأستاذ وكبير الباحثين في جامعة غويلف في كندا، كانت هذه المبالغة في التقدير على الأرجح نتيجة لشيء يُدعى التنبّؤ العاطفي.
ويقول غرومان:
"التنبّؤ العاطفي هو قدرتنا على التنبؤ بمدى السعادة التي ستجعلنا أحداث بعينها نشعر بها"، مشيراً إلى دراسة من عام 2000 تُظهر أن مُشجّعي الرياضات في الجامعات يُبالغون في تقدير مدى السعادة التي يشعرون بها بعد أيام قليلة من فوز فريقهم المُفضّل في مباراة مهمّة.
الخطوة الناجحة لا تعني حقاً تحقيق السعادة
وبضيف: "نحن نميل إلى أن نكون جيدين للغاية في معرفة الأشياء التي تجعلنا نشعر بالسعادة وبعدم السعادة، ولكننا لسنا بهذا القدر من الكفاءة في التنبّؤ بزَخم ومدّة تأثير أحداث علينا"، وهذا قد يتسبب في شعورنا بالإحباط بعد حدوث الأمر المُنتظر.
تأتي الإنجازات أيضاً مصحوبة بتبعات قد لا نراها دائماً آتية. ويقول غرومان إنَّ الميل للتركيز على الجانب المُشرق فقط يُدعي "الارتساء" (الانحياز المعرفي للاعتماد على جانب واحد من المعلومات). وكما يقول للطلّاب في دوراته الدراسية لإدارة الأعمال:
"أنتم يا رفاق تريدون للغاية أن تصيروا مُديرين، ولكن أتعلمون؟ يُحتمل أن يكون الأمر مُختلفاً للغاية عمّا تعتقدون أنّه سيكون عليه. وتعرفون أيضاً؟ ربما حتّى لا تُحبونه حينها"، والأمر ينطبق على الأشخاص الذين تكون لديهم توقّعات في مُعظم المجالات.
يقول تال إنَّ تحقيق شيء ما، سواء كان هذا الشيء جائزة أو ترقية أو حوض استحمام مليء بالنقود، لا يضمن حقاً تحقيق السعادة، مضيفاً:
"أوّل ما ينبئ بالسعادة هو الوقت الجيد الذي نقضيه مع الناس الذين نهتم لأمرهم ويهتمّون لأمرنا، بعبارة أخرى، العلاقات".
ومع ذلك، فإن الدخل المادي مهم أيضاً، إذ يقول غرومان: "ليس هناك بهجة في العيش في ظروف سيئة"، لكن بعد تلبية الاحتياجات الأساسية؛ مثل الطعام، والأمن، والسكن النظيف.
يتوقّع ارتباط الدخل بالسعادة. وفي عام 2012، قال تقرير السعادة العالمي، الصادر عن شبكة حلول التنمية المُستدامة التابعة للأمم المُتحدة إنَّ التعاون والمجتمع المُحيط قد يُساهما في السعادة في المُجتمعات الثريّة أكثر من الدخل والمقاييس الأخرى.
وإذا كانت العلاقات تجعلنا سعداء، فحقيقة أنَّ كثيراً منّا يهمل علاقاته في السعي لتحقيق النجاح الوظيفي قد يزيد من إفساد سعادتنا. والتركيز على المسار المِهني على حساب الزواج، على سبيل المثال، قد يجعلنا في النهاية نشعر بالوحدة وعدم الأمان.
التفكير في المستقبل
لكي نكون واضحين، لا يعني الاعتراف بقوة "مغالطة الوصول" أننا يجب أن نقبل بحياة ليست جيّدة.
ويقول تال: "نحتاج إلى أهداف"، مضيفاً:
"نحن بحاجة إلى التفكير في المستقبل". وأشار إلى أننا أيضاً جنسٌ "موجه نحو المستقبل". وفي الواقع، أظهرت الدراسات أنَّ معدل الوفيات يرتفع بنسبة 2% بين الرجال الذين يتقاعدون فوراً عندما يصبحون مؤهلين للحصول على الضمان الاجتماعي.
وأن التقاعد المبكر قد يؤدي إلى الوفاة المبكرة، حتى بين أولئك الذين يتمتعون بصحة جيدة عندما يفعلون ذلك. وقال غرومان إنَّ وجود هدف ومعنى لحياتنا يمكن أن يولِّدا الرضا، والذي هو جزء من معادلة السعادة.
لذا انتظر. يمكن للوصول إلى هدف أن يجعلنا غير سعداء، ولكن هل يجعلنا تحديد الأهداف سعداء؟ يقول تال إنَّ الأمر يبدو وكأنه لغزٌ مُحيّرٌ، لكن الأمر ليس كذلك إذا كنت تخطط بشكل صحيح. ونصيحته هي وضع أهداف متعددة متزامنة، داخل وخارج حياتك العملية.
وربما كانت هذه إحدى مشكلاتي؛ فقد ركزت بشدة على الانتهاء من مشروع واحد لدرجة أنني محوت من أجندتي أي شيء آخر يُشتت انتباهي.
ويمكن استخدام مصطلح "الهدف" بشكل فضفاض، فحتى مجرد السعي لقضاء المزيد من الوقت الجيد مع أطفالك أو تكوين صداقات جديدة من خلال العمل التطوعي هي أمور مُهمّة.
أيضاّ، يجب عليك حذف أي جمل مثل:
"سأكون سعيداً إذا تمكنت من تحقيق كذا"، وقد أجرى الدكتور غرومان مؤخراً دراسة طلب فيها من المشاركين تقييم رغبتهم في السعادة، وتبيّن أنَّهم كلما كانوا يفكرون في كيفية جعل أنفسهم أكثر سعادة، أو ينتابهم القلق بشأن مستويات سعادتهم مقارنةً بأقرانهم، صاروا أقل سعادة في الواقع.
ومع ذلك، توصّلت دراسة غرومان أيضاً إلى أنَّ المشاركين الذين ينخرطون في أنشطة تجعلهم سعداء يقتربون من السعادة الكلية. بمعنى آخر، لا تفكر، فقط افعل بالأشياء التي تجعلك تشعر بالرضا.
إذا كان الاجتهاد في العمل يجعلك تشعر بأنك بخير، فهذا عظيم، أغرق نفسك في العمل. ولكن فحسب لا تتوقع أن الحصول على هذه الترقية أو الفوز بجائزة بوليتزر هي تذكرتك للوصول إلى السعادة.