ينتشل عمال الإنقاذ نور فهام، البالغ من العمر 12 عاماً، من أنقاض منزله المتهدم، الذي قصفته القوات الجوية التابعة لنظام بشار الأسد في بلدة أريحا بمحافظة إدلب، صباح الإثنين 27 مايو/أيار.
وفيما يحمل أحد العمال نور الغائب عن الوعي، راح آخر يفحص رأسه، ليتبين أنه حيّ، وبعدها بلحظات، انتشلوا صبياً آخر، وهو شقيقه زين البالغ من العمر 9 سنوات. ولكنه كان ساكناً.
وراح العمال يجاهدون لإنعاش زين، فيما يهرعون بالصبيين إلى المستشفى في سيارة إسعاف، وصاح أحدهم: "دافئ، جسده دافئ".
وأرقد مسعفون آخرون زين على فراش في المستشفى، وأخذوا يبذلون ما بوسعهم لإنقاذه. لجأوا إلى الإنعاش القلبي الرئوي ليعود النبض إلى قلبه. وحاولوا إيصال الهواء إلى رئتيه.
ولجأ المسعفون إلى الصدمات الكهربية لإنعاش قلبه. ولكن زين لم يستجب، وبعد أن انتابهم اليأس، حمل المسعفون زين وأرقدوه برفق في أحد أكياس الجثث، بحسب ما ذكرته شبكة CNN الأمريكية، أمس الجمعة 31 مايو/ أيار 2019.
وتسببت الغارة ذاتها في مقتل شقيقتي زين ونور التوأم شام ووسيم، وجدتهما سميحة البالغة من العمر 60 عاماً.
وفي غرفة مجاورة، كان أحد المسعفين يمرر القليل من الماء على وجه نور برفق لتنظيفه من الدماء والغبار.
يسأله أحدهم: هل تتذكر ما حدث؟
فيجيب نور في خفوت: تصورت أنني كنت أحلم.
كارثة إنسانية تتكشف
وكانت هذه الغارة الجوية جزءاً من حملة النظام المكثفة لزعزعة سيطرة المتمردين على آخر معاقل المعارضة في محافظة إدلب السورية.
وقالت أورسولا مولر، مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في مجلس الأمن الدولي يوم الثلاثاء 28 مايو/أيار، إن هذه الحملة أسفرت في الأسابيع الأخيرة عن مقتل 160 مدنياً على الأقل وتشريد حوالي 270 ألف شخص واستهدفت مرافق الرعاية الصحية والمدارس والأسواق.
وقالت: "السؤال اليوم هو ما الذي ستفعلونه لحماية المدنيين في إدلب، التي تعد أحدث مثال لكارثة إنسانية تتكشف أمام أعيننا وهي معروفة جيداً ومتوقَعة ويمكن تجنبها".
ووفقاً لمنظمة الخوذ البيضاء التطوعية، وقع أكثر من 24 هجوماً على منشآت صحية فيما تعرضت مراكز الدفاع المدني لست هجمات ووقع 27 هجوماً على المدارس.
ويقول محللون إن هذه العمليات الحالية جزء من محاولة النظام لاستعادة المناطق القريبة من أحد الطرق الرئيسية المؤدية إلى تركيا، فضلاً عن الطرق التجارية الرئيسية الأخرى، وكذلك لإبعاد قوات المعارضة عن المناطق المحيطة التي يسيطر عليها النظام.
وتعد إدلب بؤرة توتر سياسي وإنساني. إذ إنها المنطقة التي انتقلت إليها قوات المعارضة قادمة من المناطق التي استعادها النظام خلال السنوات السبع الماضية. وتحظى هيئة "تحرير الشام" (التي كانت مرتبطة بالقاعدة) بنفوذ واسع في المنطقة.
ووفقاً لأرقام الأمم المتحدة، تؤوي محافظة إدلب أكثر من 1.1 مليون من النازحين داخلياً في سوريا والبالغ عددهم 6.1 مليون. ولكن مخيمات اللاجئين، التي يقع العديد منها بالقرب من الحدود مع تركيا، مكتظة ولا تحتمل إيواء عشرات الآلاف الذين يبحثون الآن عن مكان أكثر أمناً.
نجاحات محدودة
وقال حايد حايد، المحلل في معهد تشاتام هاوس سوريا، إن العمليات العسكرية الأخيرة للنظام حققت نجاحاً محدوداً حتى الآن، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تردد حليفتي الأسد الرئيسيين، روسيا وإيران في تقديم الدعم.
وتوقع أن "النظام مستعد لتنفيذ هجوم شامل ويحاول ذلك لكن المشكلة هي أن الروس والإيرانيين ليسوا حاضرين".
وقدمت إيران والجماعات المسلحة المتحالفة معها قوات ميدانية مهمة لدعم حملة النظام لطرد قوات المعارضة، وقدمت روسيا دعماً جوياً قوياً.
وتربط كلا البلدين علاقة حساسة بتركيا، التي تدعم العديد من جماعات المعارضة في إدلب والمناطق المحيطة بها.
وتركيا الآن بصدد شراء نظام الدفاع الصاروخي S-400 من روسيا، في تحدٍّ للولايات المتحدة التي وصفت الصفقة بأنها "إشكالية عميقة". وفي الوقت نفسه، سعت إيران إلى تعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع تركيا في الأشهر الأخيرة، في محاولة من طهران للحد من آثار العقوبات الأمريكية القاسية التي فرضتها عليها العام الماضي.
وقال حايد: "الروس يضغطون لطرد قوات المعارضة لكنهم لا يرغبون في الضغط بقوة أكثر من اللازم. إذ إنهم لا يريدون لعلاقتهم بتركيا أن تتضرر. والإيرانيون ليسوا حاضرين لأنهم يريدون الحفاظ على علاقتهم مع تركيا".
ومع ذلك، وسع النظام نطاق أهدافه، ولا يعتبر سكان المنطقة التي تسيطر عليها قوات المعارضة أنها تضم مكاناً آمناً. وقال عدنان أبوالوفا، مدير عام مشافي الشام، إن 19 مشفى عادياً ومشفى ميدانياً تعرضت للهجوم.
وأشار إلى أن فريقه أنشأ "نقاط إجلاء طبي سرية" في محاولة لتجنب من الهجمات، مضيفاً: "لا يعرف هذه المواقع سوى الطواقم الطبية وهذه النقاط تختلف وتتغير بمرور الوقت".
التنقل من مكان إلى آخر
وأصبح النزوح أحد ثوابت الحياة في هذه المنطقة المكتظة بالسكان التي تسيطر عليها قوات المعارضة. وقد ازداد هذا الوضع سوءاً في الأسابيع القليلة الماضية.
وتوقع حايد أن "نشهد حركة مستمرة من منطقة إلى أخرى لأنه لا توجد منطقة آمنة كفاية. وهكذا يكون الحال عندما لا تتوفر معسكرات مجهزة لاستقبال أعداد كبيرة من الناس".
وكان مهند درويش (28 عاماً)، وهو صحفي وأب لطفلين، يقف أمام ملجأه المؤقت. وهو عبارة عن منزل بلا أبواب أو نوافذ في ريف حلب الذي تسيطر عليه قوات المعارضة.
وقال درويش: "نحن في وضع صعب للغاية. ليس من السهل العثور على الطعام بعد النزوح. إذ ترك الناس مزارعهم ووظائفهم ومنازلهم بسبب القصف. بل ويواجه الناس صعوبة في تأمين المياه"، بحسب ما ذكرته CNN.
ويصف طريق نزوحه من محافظة إدلب إلى ريف حلب المجاور بأنه كان مزدحماً بالسيارات التي تحمل أشخاصاً يفرون من القصف. كان هذا المشهد من النوع الذي اعتاد درويش تصويره في الماضي.
وقال درويش إنه اعتاد "تصوير الغارات الجوية والتفجيرات، لكن في الفترة الأخيرة، أصبحت مكثفة. ولذا أخذت طفلاي ورحلت لأبحث عن ملجأ وتركت الكاميرا خلفي".
القصف عند غروب الشمس
ويتزامن الصراع العسكري المتصاعد مع شهر رمضان، الذي يمتنع فيه المسلمون عن تناول الطعام والمياه من شروق الشمس إلى غروبها. ويقول سكان المنطقة التي تسيطر عليها قوات المعارضة إن ساعات الصيام طويلة وحارة. وعندما يحين وقت الإفطار لا يجدون ما يكفي من الطعام لسد جوعهم.
يقول أنس القاسم البالغ من العمر 39 عاماً: "تضربنا الغارات الجوية في وقت الإفطار تماماً. تكرر هذا الأمر ست مرات، عند صلاة المغرب تماماً".
ويضيف القاسم: "عندما تشعر بالتعب والعطش والجوع بعد الصيام، تنتظر الراحة أثناء الإفطار. ولكن تأتي طائرة حربية لتدمر يومك. لا يمكن للكلمات أن تصف هذا الشعور".