يتلوى وجه محمد رزاق تسليم، الراقد على سرير مستشفى، ألماً بعد إصابته في هجمات سريلانكا الإرهابية. النصف الأيسر من جسده مشلولٌ بالكامل، لكنَّه يمد يده اليمنى محاولاً التشبُّث بزوجته وأخيها الواقفَين في توتُّر على سريره.
وقالت شبكة BBC البريطانية، في تقرير لها نشرته الجمعة 31 مايو/أيار 2019، إن زوجته فاطمة تضغط بمنديلٍ على رأسه، وقد غار جانبٌ من جمجمته للداخل. كان ذلك الموضع حيث أُصيب بطلقٍ ناري خلال هجمات سريلانكا في مارس/آذار 2019. ومن وقتها، صار عاجزاً عن الكلام أو المشي.
تعتقد الشرطة أنَّ تسليم كان واحداً من أوَّل ضحايا الشبكة السريلانكية المتطرفة، والمنسوبة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتي مضت بعدها لتقتل أكثر من 250 شخصاً في سلسلةٍ من التفجيرات الانتحارية في كنائس وفنادق يوم أحد الفصح من شهر أبريل/نيسان 2019.
ووفقاً للمسؤولين، ضُرِب تسليم بالرصاص بناءً على أوامر الزعيم المدبِّر للهجمات، زهران هاشم.
سياسي مسلم حاول التصدي للعناصر المتطرفة
قبل شهورٍ من تنفيذهجمات سريلانكا كان تسليم، وهو سياسي جاد يبلغ من العمر 37 عاماً ببلدةٍ ذات أغلبيةٍ مسلمة في وسط سريلانكا، يتصدَّر الجهود المبذولة للتحقيق بالمتطرفين.
تُجسِّد قصة تسليم كيف حاول المجتمع المسلم السريلانكي بشكلٍ فعالٍ التصدي لظهور عناصر متطرفة بين صفوفهم، وكيف فشلت السلطات في إدراك إشارات التحذير المتكرّرة قبل هجمات عيد الفصح.
تبعد بلدة ماوانيلا مسافة بضع ساعاتٍ بالسيارة شرق العاصمة كولومبو. يحوِّط البلدة مشهدٌ أخضر خصب، وتغلب على المنطقة مجتمعاتٌ بوذية ومسلمة.
في شهر ديسمبر/كانون الثاني 2018، خُرِّبَ عددٌ من التماثيل البوذية في البلدة، وهو فعلٌ يعتقد المسؤولون الآن أنَّه كان محاولةً لإشعال التوتُّر والتحريض على اندلاع أعمال شغبٍ طائفي.
كان تسليم، عضواً في مجلس البلدة، وكذلك عمل سكرتيراً منسقاً لدى وزيرٍ من مجلس الوزراء الوطني.
يعطي صورة جيدة عن المسلمين في بلده
قالت فاطمة إنَّ تسليم كثيراً ما تطوَّع لمساعدة الغير في المجتمع. وقد لعب دوراً بارزاً في تنظيم الدعم المقدَّم للسكَّان المتضرِّرين بالفيضانات والانهيارات الأرضية في العام الذي سبق ذاك. لذلك عندما انتُهِكت قدسية التماثيل البوذية، كان من الطبيعي أن يتقدَّم متطوعاً للمساعدة في التحقيقات.
وقالت: "دائماً ما كان يقول إنَّه على الناس من ذوي الأعراق والأديان المختلفة أن يعيشوا معاً متَّحدين". وأضافت: "قال لي: ما فعلوه خطأ، ديننا لا يقبل مثل هذه الأفعال… علينا القبض على المذنبين".
اعتقلت الشرطة عدداً من الأشخاص، لكَّن المتهمين الرئيسيَّين، الأخوين صديق وشهيد عبدالحق، قد اختفا.
وُضِع الرجلان لاحقاً على قائمةٍ لـ "أخطر المطلوبين" بعد تفجيرات أحد الفصح واعتُقِلا. ليس واضحاً بعد، ماهية دورهما المزعوم في الهجمات وما زال يُنتظَر مثولهما للمحاكمة، لكنَّ المحققين يعتقدون أنَّ صديق عبدالحق ربما كان قد سافر إلى سوريا عام 2014، والتقى عناصر على صلةٍ بتنظيم داعش.
شاب في قرية قريبة من ماناويلا كان من بَين دائرة المقرَّبين من الأخوين، أراد أن تظل هويته مجهولة، لكنَّه زعم أنَّهم كانوا يعظونهم قائلين إنَّ سريلانكا "هي أرض الله، وليس بإمكان أحد غيره أن يُعبَد فيها… على غير المسلمين أن يعتنقوا الإسلام أو يدفعوا الجزية".
نشأ الشقيقان في عائلةٍ شديدة التديُّن، وقال صديقهما إنَّهما تحدَّثا بانتظامٍ عن واجب الجهاد: جهاد النفس والجهاد العسكري على حدٍّ سواء.
ومساعدة السلطات على تعقب المتطرفين وتوقيفهم
نسيبٌ للشقيقين، كان بدوره عضواً بارزاً في منظمةٍ طلَّابية إسلامية كانا هُما جزءاً منها، قال إنَّه اعتاد أن يجادلهما قائلاً إنَّ "العنف والسلوك العدواني غير مقبولين في الإسلام". وفي عام 2015 طُرِد كلا الأخوين من المنظمة.
قال النسيب إنَّ الرجلين تأثَّرا بشدةٍ باندلاع أعمال شغبٍ طائفي في مدينة كاندي المجاورة عام 2018، عندما استهدفت جموعٌ بوذية تجاراتٍ وسكَّاناً مسلمين.
زعم نسيب الشقيقين أنَّ صديق عبدالحق قال وقتها: "إنَّهم يسلبوننا أرواحنا، وممتلكاتنا… علينا أن نفعل شيئاً".
بعد هروب الأخوين عبدالحق، شارك تسليم في جهود تعقُّبهما والعثور عليهما، وظلَّ على تواصلٍ مع الشرطة المسؤولة عن التحقيق في القضية. وفي إحدى المرات سار تسليم معهم إلى عُمق الأدغال، حيث كان يُعتقَد أنَّ الأخوين يختبئان.
وفي شهر يناير/كانون الثاني قبل هجمات سريلانكا الإرهابية أخبره المحققون بأنَّهم تلقوا معلوماتٍ جديدة وصادمة في أثناء استجوابهم بعض المتَّهمين بتخريب التماثيل البوذية، عن خبيئةٍ من المواد المتفجِّرة مخبَّأة في أرضٍ زراعيةٍ نائية على بعد 100 ميل (161 كيلومتراً).
ذهب سليم بصحبة المحققين إلى الموقع المذكور، وهو بستان لأشجار جوز الهند يقع في الشمال الغربي من البلاد. هناك اكتشفت الشرطة 100 كيلوغرام من المتفجرات، والأجهزة المفجّرة، والخيام، وكاميرا.
قالت زوجة تسليم إنَّه كان قلقاً عند عودته للمنزل. وقد أخبرها: "لا بد أنَّ هناك مزيداً من هذه المتفجرات. علينا التكاتف معاً كمجتمع، وأن نجد المسؤولين ونتعامل معهم".
كان حرياً بحجم المتفجرات المُكتشَفة أن ينبه السلطات بخطر تنفيذ هجومٍ إرهابي. لكن وفيما اعتُقِل أربعة أشخاص، في دولةٍ طالما ركَّزت قوَّتها الأمنية على الأخطار التي يمثَّلها الانفصاليون من جماعة تاميل العرقية، بدا كأنَّ احتمال اندلاع عنفٍ إسلاموي لم يُعَد أولويةً قصوى.
وأيضاً في اكتشاف متفجرات قبل هجمات سريلانكا
الآن كُشِف أنَّ المتفجرات التي وُجِدَت في أرض المزرعة تِلك متَّصلة ببعضٍ من المتورطين بشكلٍ مباشر في التفجيرات الانتحارية، ومن بينهم قائدهم زهران هاشم.
كان هاشم داعيةً قادماً من شرق سريلانكا. وقد عُرِفَ رسمياً بالتطرُّف قبل حدوث الهجمات بوقتٍ طويل.
على مدار الأعوام، دخل هاشم مراراً في خلافاتٍ مع المجموعات الإسلامية السائدة، سواء في بلدته الأم، أو في الأماكن التي حلَّ بها، ومن بينها قريةٌ قريبة من ماوانيلا.
أصبح هاشم معروفاً برفعه فيديوهات محرضة على الشبكات الاجتماعية. وفي أحد هذه الفيديوهات، كانت الخلفية وراءه صورةً من هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
قال حلمي أحمد، وهو نائب رئيس المجلس الإسلامي في سريلانكا، إنَّه وأعضاءً آخرين من المجلس صُدِموا مِن مدى الكراهية التي حملتها خُطبه على الإنترنت وإنَّهم طرحوا هذه المخاوف على الأجهزة الاستخباراتية.
لكنَّ السلطات لم تتمكَّن من معرفة مكان هاشم وملاحقته قضائياً. اعترف أحمد بأنَّه "لم يتخيل قط" أن "يصبح هاشم تهديداً للبلاد بأكملها".
لكنَّا الآن نعرف أنَّ هاشم كان يخطِّط لتنفيذ هجمةٍ دامية في سريلانكا، وبعد اكتشاف المتفجِّرات، يبدو أنَّه كان قلقاً أن يكون تسليم عائقاً في طريق خططه.
وهو ما عرّضه لمحاولة القتل من طرف مدبر هجمات سريلانكا
مصدرٌ بارز من الشرطة السريلانكية قال إنَّ أحد معاوني هاشم المقربين اعترف له بأنَّ هاشم أمر بقتل تسليم، لأنَّه كان يعمل "مخبراً".
في شهر مارس/آذار، قبل أكثر من شهرٍ من هجمات عيد الفصح، دخل مسلحٌ بهدوءٍ إلى منزل تسليم في الساعات الأولى من الصباح. كان تسليم راقداً في سريره، إلى جوار زوجته وابنه الأصغر. أطلق المسلَّح النار عليه مرة واحدة في الرأس.
قالت زوجة تسليم: "في البداية ظننت أن شاحن الهاتف قد انفجر، لكنَّي نظرت وكان سليماً. ثم حاولت إيقاظ تسليم، وشممتُ رائحة بارود… مددت يدي له وأدركت أنَّه غائبٌ عن الوعي. ظننته مات".
هُرِعَ بتسليم إلى المستشفى. نجا من الهجوم، لكنَّه ليس من الواضح ما إذا كان سيتعافى كلياً ذات يوم.
الآن يلعب قائد الجيش السريلانكي، الفريق ماهيش سيناناياكي، دوراً بارزاً في تحقيقات سلسلة تفجيرات عيد الفصح. أخبرني الفريق بأنَّه قد تأكَّد أن "الشبكة نفسها" كانت هي المسؤولة عن تخريب التماثيل البوذية، والمتفجرات المخبأة في بستان جوز الهند، ومحاولة قتل تسليم.
اعترف الفريق بأنَّه كان حرياً بالحوادث تِلك أن تجعل السلطات أكثر يقظة لخطر وقوع هجومٍ جهادي. بدلاً من ذلك، لم يجر تقصِّي التحذيرات التي أرسلتها أجهزة الأمن الهندية في الأيام والساعات السابقة للتفجيرات، نتيجةً لما يصفها القائد العسكري بأنَّها مشكلاتٌ بـ "تبادل المعلومات الاستخباراتية" بين مختلف الأقسام.
فهو بالنسبة لأسرته بطل تعود التضحية
تقول عائلة تسليم إنَّه قادرٌ على فهم ما يقولونه له، رغم إصاباته، وأحياناً على الخربشة كاتباً لهم ردوداً. عندما علم تسليم بأمر هجمات عيد الفصح، قالت زوجته إنَّه كتب لها رسالةً وشرع في البكاء، قال فيها: "قلت لكِ إنَّ أمراً كهذا قد يحدث".
في أعقاب التفجيرات اندلعت حوادث شغبٍ كارهة للمسلمين في سريلانكا، إذ هوجمت محال وقُتِل شخصٌ واحد على الأقل. ومن جانبهم، أثارت المزاعم بأنَّ المجتمع المسلم يؤوي إرهابيين غضب كثير من المسلمين، خاصةً في ضوء محاولاتهم المتكررة لمساعدة الشرطة أو إيصال مخاوفهم للسلطات.
تفخر فاطمة بتضحية زوجها. قالت: "كان يقول لنا: لقد أعطيتكم كل ما تحتاجونه، إذن علينا العمل حتى ننال الجنة في الحياة الآخرة… علينا أن نساعد من حولنا، هذا ما يعلِّمه إيانا دينُنا".