هناك الآن ما يشبه اليقين على مستوى المنطقة والعالم، بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يمتلك استراتيجية محددة للتعامل مع إيران، فتارة يهدد بالحرب وتارة يعلن أنه يريد التفاوض، لكنه لا يعرف كيف يحقق أياً من الخيارين المتضاربين، ربما هو بحاجة لمن يقدم له النصيحة بشكل أكثر تحديد، هذا ما فعلته تريتا بارسي الأستاذة بجامعة جورجتاون الأمريكية ومؤلفة كتاب "خسارة عدو.. أوباما وإيران وانتصار الدبلوماسية".
موقع ميدل إيست آي البريطاني نشر تقريراً لتريسي حول موقف ترامب من إيران، قالت فيه إنه في خضم الإشارات المحيرة التي يرسلها ترامب، بالأسابيع القليلة الماضية، نجح في أن يوحي إلى العالم بأنَّه لا يملك استراتيجيةً تجاه إيران، وأنَّه ليس على وفاقٍ مع مستشار الأمن القومي المتشدد جون بولتون، وأنَّه لا يريد الحرب، وربما الشيء الأكثر أهمية على الإطلاق، هو أنَّه يريد خوض المحادثات، لكنَّه لا يعرف كيف يجعل الإيرانيين يتلقون اتصالاته، باختصار، كل ما يفعله ترامب خطأ.
استراتيجية جدية
تحركات ترامب تجعل من شبه المستحيل على الإيرانيين أن يوافقوا على خوض المحادثات، إذ إنَّه يزيد من خطر وقوع الحرب ويقوّض مصداقيته في هذه العملية.
فضلاً عن أنَّه يرسل الآن مزيداً من القوات إلى المنطقة، ويبيع مزيداً من الأسلحة إلى السعوديين، وهي خطوات تزيد من حدة شعور طهران بالتهديد، وتزيد من مطالبتها بوجود ردع ضد هذه التهديدات، بدلاً من قناعتها بأنَّ الحوار مع ترامب يمكن أن يخدم غرضاً مفيداً.
فإذا أراد حقاً الدخول في مفاوضاتٍ مع طهران، يحتاج الرئيس الأمريكي استراتيجية جادة تخلق مناخاً ملائماً للدبلوماسية.
خمس خطوات
فيما يلي، خمس خطوات ينبغي لترامب اتخاذها لتمهيد السبيل أمام استراتيجيةٍ دبلوماسية جادة. فبادئ ذي بدء، إذا أراد ترامب تجنُّب الحرب وسلك مسارٍ دبلوماسي، يجب عليه إقالة بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو.
رغم محاولة ترامب إبعاد نفسه عن بولتون مؤخراً، فالحقيقة أنَّهما لا يتشاركان الرغبة المطروحة من جانب ترامب في اللجوء إلى الدبلوماسية، وقوَّض كلاهما عمداً الجهود الدبلوماسية المحدودة التي شارك فيها ترامب فعلياً.
وبرغم أنَّ قدراً كبيراً من التركيز انصبَّ على الدور الشائن لبولتون في تلفيق المعلومات الاستخباراتية والتلاعب بها والمبالغة فيها؛ رغبةً في دفع الأمور نحو الحرب مع إيران، فلا ينبغي أن يُنسى الدور الذي اضطلع به بومبيو في كوريا الشمالية، والذي لا يقل شناعة عن دور بولتون، وإن كان أقل حدة، ففي واقع الأمر، رفض الكوريون الشماليون أي محادثاتٍ أخرى حتى يرحل بومبيو.
تعرف طهران كل هذا، فقد تحدثوا إلى الكوريين الشماليين، وكانت رسالة بيونغيانغ واضحة: ترامب يرغب صدقاً في التوصل إلى اتفاق، لكن أيَّما يتعهد به، يتراجع عنه بولتون وبومبيو ويقوضانه.
لا يخدم كلاهما الرئيس، بل يخدمان أجندتهما الخاصة، وليس من الواضح من الذي يصدر الأوامر، يعتقد ترامب أنَّه يستخدم مبدأ الشرطي الطيب والشرطي السيئ استخداماً ناجعاً من خلال بولتون وبومبيو. غير أنَّ نجاح مثل هذا المبدأ يحتاج أن يدرك الطرف الآخر أنَّ الشرطي الجيد يسيطر على الشرطي السيئ. وحتى الآن، ليس لدى بيونغ يانغ ولا طهران مثل هذه الثقة بترامب.
احترام الاتفاق
يتوهم ترامب أنَّه قادر على شن حرب اقتصادية ضد إيران دون المخاطرة بحدوث صراعٍ عسكري، ويعتقد أنَّه يستطيع إيصال الاقتصاد الإيراني إلى الحضيض من دون تصعيدٍ مضاد من الإيرانيين، وهو ما يمكن بدوره أن يُقرِّب الجانبين أكثر إلى الصراع العسكري، وذلك هو ما حدث تماماً في الأسبوعين الماضيين، فليس ثمة سبب لتصديق أنَّ الجانبين قادران على البقاء في هذا السياق من دون اتجاه الأحوال في نهاية المطاف نحو الحرب.
إذا كان ترامب يريد الدبلوماسية، فيجب عليه وقف التصعيد عسكرياً واقتصادياً. لن تسمح له كراهيته الرئيس السابق باراك أوباما بالرجوع إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (المعروفة أيضاً بالاتفاق النووي الإيراني)، لكنَّه قادر على العودة إلى احترام بنودها، ثم التفاوض على اتفاقية يمكنها تجاوز ما حققته سابقتها.
إذا ظن ترامب أنَّ الضغط الاقتصادي يمنحه نفوذاً ضد طهران في حال وجود أي مفاوضات، فبإمكان طهران استنتاج الأمر نفسه والبدء في تصعيد أنشطتها النووية لمواجهة هذا النفوذ، وفي نهاية المطاف، سوف يدفع ذلك كلا البلدين نحو حافة الحرب، وهو تحديداً ما يزعم ترامب أنَّه يودُّ تجنُّبه.
إسقاط جميع الشروط المسبقة
تولِّد الشروط المسبقة شروطاً مسبقة. وكلما زادت، تزيد معها احتمالية إغلاق نافذة الدبلوماسية، وهو على وجه التحديد ما يجعل الشروط المسبقة تُقترح غالباً عن طريق هؤلاء الذين لا يريدون سلك سبل الدبلوماسية.
أصرت إدارة جورج بوش، على مدى أعوام، ومعها الحكومة الإسرائيلية، على أنَّ الدبلوماسية مع إيران لا يمكن اللجوء إليها إلا إذا أوقفت إيران جميع أنشطة التخصيب. لم ترغب إسرائيل ولا فريق بوش في مسار الدبلوماسية، وكانوا يعلمون تماماً أنَّ الشروط المسبقة سوف تقضي على أي فرصة لموافقة الإيرانيين على الدخول في محادثات.
أدرج بومبيو تلك الشروط المسبقة القاتلة للمسار الدبلوماسي، في قائمة المطالب الاثني عشر، التي أعلن أنَّ على طهران تلبيتها قبل إمكانية خوض أي محادثات. ويجب على ترامب أن يسأل نفسه عن السبب.
الاحترام يمكنه أن يقطع شوطاً طويلاً
ليست إيران مثل كوريا الشمالية. فعكس كيم جونغ أون، ليس هناك سياسي إيراني لديه الحكم المطلق، ولن يستطيع أيٌّ من قادتها تجاهل سياسات بلاده. ومن بين أشياء أخرى، يعني هذا أنَّ الموافقة على خوض المحادثات مع ترامب سوف تحمل مخاطرة هائلة لأي رمز سياسي إيراني.
غير أنَّه سيكون انتحاراً سياسياً مضموناً إذا استمر ترامب في إهانة البلاد والتقليل من احترامها، عبر خطاباته وسياساته.
أعرف أنَّ ترامب يشمئز من العثور على الحكمة في دبلوماسية أوباما مع إيران، لكن إذا نحَّى جانباً بُغضه لسلفه، ولو لحظة واحدة فقط، فإنه يمكنه أن يتعلم شيئاً أو شيئين من الرئيس الأمريكي الوحيد الذي نجح في التفاوض على اتفاقية متعددة الأطراف مع إيران.
أدرك أوباما أنَّه في حاجة إلى خلق مناخ ملائم للدبلوماسية إذا كان جاداً بشأن المفاوضات مع طهران. لذا استعرض سياسة أمريكا تجاه إيران استعراضاً جوهرياً، ومن ضمن ذلك الخطابُ الأمريكي حول الجمهورية الإسلامية، وسرعان ما أدرك أنَّ تعبير "العصا والجزرة"، الذي لا يحمل أي دلالةٍ سلبية في اللغة الإنجليزية، ويعني ببساطة استخدام الحوافز والروادع في المفاوضات، يُترجَم بطريقةٍ سيئة جداً في اللغة الفارسية.
ففي الأساس، لمَّح التعبير إلى إيران أنَّ الولايات المتحدة تنظر إليها على أنَّها حمار، إما تعاقبه واشنطن وإما تغريه من أجل الخضوع. لذا تخلصت وزارة الخارجية في إدارة أوباما فوراً من التعبير خلال مراحل المحادثات، ولم يستخدم أي مسؤول في إدارته هذا التعبير مرةً أخرى في أي سياق متعلق بإيران.
كان هذا تغيُّراً لم يكلف الولايات المتحدة أي شيء، لكنَّه حقق لها كثيراً في التعبير عن صدقها بشأن مسار الدبلوماسية.
التوقف عن الإنصات لإسرائيل، والإمارات، والسعودية
يتباهى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنَّه أقنع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وتفاخر الحاكم الفعلي للإمارات بأنَّ بلده الصغير كان السبب في إقالة وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون.
ويغترُّ ولي العهد السعودي ذو المنشار بأنَّ لديه في جيبه غاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي وكبير مستشاريه.
فما القاسم المشترك بين هؤلاء؟ حسبما يقول نتنياهو نفسه، يجتمع هؤلاء معاً نتيجةً لـ "مصلحتهم المشتركة في الحرب" مع إيران.
فوفقاً لما قاله وزير الخارجية السابق روبرت غيتس لنظيره الفرنسي، السعوديون "يريدون أن يقاتلوا الإيرانيين حتى آخر جندي أمريكي".
وما دام ترامب يسمح لهؤلاء ممن يُسمون حلفاء الولايات المتحدة بأن يقودوا سياستها تجاه إيران، فسوف تكون احتمالية الحرب أقرب من الدبلوماسية. سوف يحشر هؤلاء ترامب في زوايا لا يجد فيها أي خيارٍ آخر سوى التحرك العسكري، خلاصة القول إنَّ ترامب يزعم أنَّه يريد الدبلوماسية. وإذا صح ذلك، فيجب عليه التصرف وفقاً لذلك.