"إنَّ القنابل النووية هيَ في الأصل وسيلةٌ لإبادة المدن دون رحمة". كتب عالم الفيزياء الشهير ليو سيلارد تلك الكلمات عام 1945، وهو يتوسَّل الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان أن يمنح اليابان فرصةً للاستسلام قبل أن تُستَخدم الأسلحة النووية التي كان سيلارد نفسه ذا دورٍ جوهري في تطويرها.
تقول بياتريس فين، المديرة التنفيذية للحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية في مقالة كتبتها بموقع The Daily Beast الأمريكي: تردَّدت كلماته في ذهني فيما حاول تيريون ثم فشل في إقناع دينيريس بالعفو عن مدينة كينغز لاندينغ المستسلمة ورحمتها مِن نار تنينها في آخر حلقات مسلسل Game of Thrones، "الأجراس".
هناك فرقٌ كبير بين أسلحة الحرب والأسلحة النووية. الأولى تستهدف قوَّات الخصم العسكرية. أمَّا الثانية فهي تُطلِق قدرةً مطلقة وعشوائية على قتل المدنيين. اعترف هاري ترومان نفسه بأنَّ الأسلحة النووية صُمِّمَت لدمار المدن عندما قال: "عليكم أن تدركوا أنَّ هذا ليس سلاحاً عسكرياً. إنَّه يُستَخدم لإبادة النساء والأطفال والعُزَّل، وليس للاستخدام العسكري".
ما بين "صراع العروش" وناغازاكي
تقول الكاتبة، في المواسم السبعة الأولى من مسلسل Game of Thrones، كانت تنانين دينيريس خطراً مستتراً. كانت أداةً قاصرة على الحبكة، إذ كان الغرض منها تحويل دينيريس من فتاةٍ وديعة إلى ملكةٍ قوية. لكنَّ ذاك تغيَّر ليلة يوم الأحد. ليلة يوم الأحد، تابع المشاهدون من حول البلاد القوَّة الكاملة للدمار الذي يقدر عليه تنين، فيما تنفَّس ناراً في المدينة.
كذلك من شأن سلاحٍ نووي حديث أن يتنفس ناراً: إذ أنَّه يخلق كرةً من النار تتقد 10 آلاف مرة أقوى من سطح الشمس، حارقةً أي شيءٍ وأي شخصٍ على مسافة ميلٍ تقريباً (1.6 كيلومتر). تُسبّب الحرارة الناتجة عنها حروقاً من الدرجة الثالثة لكل مَن هوَ داخل قطر 50 ميلاً (80 كيلومتراً) وتؤدي صدمة الانفجار إلى أن تُسوَّى معظم المباني على مسافة 10 أميال (16 كيلومتراً) من نقطة الصفر بالأرض.
في ناغازاكي وصلت درجات الحرارة على الأرض 7 آلاف درجة فهرنهايت (3871 مئوية/سلزيوس) وتساقطت أمطار إشعاعية. هُدَم 70% من كل المباني في هيروشيما، ومن بينها 42 من أصل 45 مستشفى في المدينة. أدَّت هذه الوقائع لأن تعلن منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر أنَّه في حال وقوع تفجيرٍ نووي، لن تأتي أي مساعدة.
تضيف الكاتبة فين، برغم توجيه انتقاداتٍ لترامب بأنَّه ينفق أموالاً كثيرة على تطور أسلحةٍ نووية جديدة، فإنَّ إدارة أوباما هي مَن دشَّنت برنامج التحديث النووي، بدعمٍ من وزيريّ الخارجية، جون كيري وهيلاري كلينتون، ومن المستبعد الظن أنَّ رئاسة هيلاري كلينتون كانت لتختلف كثيراً عن رئاسة ترامب فيما يخص قضية الأسلحة النووية.
تضيف الكاتبة: مع كونها امرأة (خيالية)، إلَّا أنَّ دينيريس دمَّرت المدينة حرقاً. ومع أنَّها امرأة، ساندت هيلاري كلينتون كذلك برنامج التحديث النووي. ليست النساء كائناتٍ مسالمة بطبيعتها، وبالتالي فإنَّ زيادة أعداد النساء في السلطة ليس خطوةً كافية. المهم هوَ أن نتخلَّص من قوَّة الأسلحة النووية المُفسِدة بدلاً من الاعتماد على قادتنا في استخدامهم إياها بشكلٍ مسؤول.
التلفاز يملك قوَّة كافية لتحريك العالم
تقول فين، ومع ذلك، وبشكلٍ "مثير للسخرية"، فإنَّ إلغاء الأسلحة النووية هو "قضيةٌ نسوية"، لأنَّ الغبار النووي يصيب النساء أكثر بدرجةٍ لا تتناسب وآثارها على الرجال. عانت النساء في هيروشيما وناغازاكي من ضعف خطر الإصابة والموت بالأورام السرطانية نتيجةً للتعرُّض للإشعاع المؤين. وكذلك فإنَّ احتمال إصابة الفتيات بسرطان الغدة الدرقية إثر الغبار النووي يفوق خطره على الفتيان. تواجه النساء الحوامل اللاتي تعرَّضن للإشعاع النووي خطر ولادة أطفالٍ مشوَّهين أو أموات، ما يرفع نسبة وفيَّات الأمهات.
إنَّ الأسلحة النووية هي أسلحةٌ قديمة تروِّج لنظامٍ عالميٍ عفا عليه الزمن، متجذِّر في مفاهيم اللامساواة والنهج القمعي. هذا يعني باختصار: إنَّ عالمنا لا يختلف لهذه الدرجة عن عالم مسلسل Game of Thrones. يمكن للدمار الذي ضرب كينغز لاندينغ أن يحلّ هنا أيضاً. يكمن أملي الآن في أن يكون الدمار الخيالي الذي شهده متابعو المسلسل (43 مليون شخص!) بمثابة تحذير للعامة، وأن يكون شرارةً للتحرُّك في سبيل نزع السلاح النووي.
تقول الكاتبة: يُذكِّرني هذا بحدثٍ تلفزيوني آخر: الفيلم التلفزيوني The Day After إنتاج عام 1983. شاهد أكثر من 100 مليون شخص في نحو 40 مليون منزل الفيلم الذي استغرق ساعتين، وبقي معظمهم أمام التلفاز بعدها ليشاهدوا نقاش الفيلم الذي استغرق 90 دقيقة مع المضيف تيد كوبل. كان سرد الفيلم الصادم للأثر المروِّع للحرب النووية موضوع حديث زملاء العمل لكل الأمريكيين، لدرجة أن ذُكِر في مذكرات الرئيس ريغان.
يملك التلفاز قوَّة كافية لتحريك العالم، للأفضل أو للأسوأ. أرسل رونالد ريغان برقيةً إلى نيكولاس ماير، مخرج فيلم The Day After، فيما وقَّع الرئيس الأمريكي معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى عام 1987 مع الاتحاد السوفيتي. قيل في البرقية: "إياك أن تظن أنَّ فيلمك لم يكن له صلةٌ بما حدث، لأنَّ ذلك غير صحيح".
قد يبدو أمراً عديم الإحساس أو حتى وقحاً أن يُقارَن الدمار والموت الحقيقي بحدث تنينٍ خيالي يحرق مدينة خالية. ومع ذلك، فإنَّ مثله مثل فيلم The Day After، قد فاق مسلسل Game of Thrones تصنيف المسلسل التلفزيوني ليصبح محكاً ثقافياً، أي عالماً نجتمع كلنا فيه مرةً في الأسبوع ونتناقش في أمره دون انقطاعٍ بعدها. كانت حلقة "الأجراس" هديةً لمَن منا يدعو لنزع السلاح ويبذل كلَّ طاقته لتجنُّب الحرب. رأى الملايين لمحةً خاطفة من أهوال الحرب في صيغةٍ يمكنهم فهمها وهُيئوا لتلقِّيها.
لنأمل أنَّ قادتنا كانوا هُم أيضاً يشاهدون الحلقة. لنأمل أنَّهم رأوا آريا ستارك وهي تمشي بين المباني المهدَّمة والجثث المتفحمة. لنأمل أنَّهم رأوا النظرة التي اعتلت وجهها. لم تكن تِلك النظرة متصنعة، إذ وصفت الممثلة مايسي ويليامز تصوير المشهد الطويل لدرجةٍ عصيبة ذاك بأنَّه كان "مقيتاً لأي شخص مهما كان قوياً". إنَّ الرعب الذي وصفته مايسي مألوفٌ لأي شخصٍ تعرَّض لواقع التفجيرات النووية في هيروشيما وناغازاكي، أو لمعاناة هؤلاء الموجودين في مواقع الاختبارات النووية.
الأمر بيد القادة
تضيف الكاتبة فين، لا يمكننا أن ننتظر استخدام الأسلحة النووية مجدداً كي نُلغيها، لأن عندئذٍ سيكون الوقت قد فات بالفعل. نحن بحاجةٍ لأصوات خلَّاقة تذكرنا بالكارثة الإنسانية التي تخبِّئها لنا الأسلحة النووية حتى نتصرَّف فوراً.
فيما تحوَّلت دينيريس وتنينها دروغون إلى "مدمِّر العوالم"، تذكَّرتُ شيئاً كثيراً ما أقوله لمَن يجادلون بأنَّ هناك دولاً جيدة مسلَّحة نووياً وأخرى سيئة: المشكلة هيَ الأسلحة، لا القادة. مثلها مثل التنانين، إنَّها قوةٌ مدمرة لا يجدر لأحدٍ أن يمتلكها في وجه البشرية. إذا لم تقدر دينيريس على استخدام تنانينها بشكلٍ مسؤول، لن يقدر أحد. لم يكن نسل عائلة التارغاريان هوَ الملعون، بل كانت التنانين هي ما أبلى إنسانيتهم. من حسن الحظ هنا، بخلاف التنانين، الأسلحة النووية ليست كائناً سحرياً، إنَّها مجرَّد أسلحة يمكننا تفكيكها. وعلينا أن نفعل ذلك.
لدينا بالفعل خطةٌ للقضاء على "تنانين" هذا العالم. صوَّتت 122 دولة لصالح معاهدة حظر الأسلحة النووية عام 2017. صدَّقت 23 دولة بالفعل على المعاهدة وستصبح قانوناً دولياً ما إن يصل العدد إلى 50 دولة. عندما سُئِل الدبلوماسيون والقادة عن سبب مساندتهم المعاهدة، قالوا أنَّهم دُفِعوا لذلك بعد أن علموا مدى الدمار عديم الرحمة الذي تسببه الأسلحة النووية. ليس البطل الحقيقي مَن يُطلِق التنين. بل البطل الحقيقي هو مَن يأخذ بالقلم. هذا هوَ الفعل الجذري الصادق: مجرَّد إمضاء.
تختم الكاتبة فين مقالتها بالقول: في عالمنا هذا وفي عالم Game of Thrones على حدٍ سواء، هناك شخصياتٌ تسكن الظل، تتفاوض وراء الكواليس من أجل سلامٍ ينقذ حياة الأبرياء. ذاك وجه الشجاعة الحقيقي. هؤلاء هُم الأبطال الذي نحتاجهم. ارقد بسلام، يا لورد فاريس.