تسببت إجراءات الصين القمعية ضد مسلمي الإيغور في قطع التواصل بين الشاعر عزيز عيسى إلكون وأسرته حتى بعد وفاة والده في عام 2017
شاعر من الإيغور عاجز عن الوصول لوالدته
حسب صحيفة Telegraph البريطانية يحكي عزيز عيسى إلكون أنه اتصل بوالدته بعد علمه بوفاة والده البالغ من العمر حينها 78 عاماً، من منزله في شماليّ لندن، لكنه لم يتمكن من الحديث طويلاً مع والدته.
والسبب في ذلك، هو أن السلطات الصينية قد تعودت لسنوات طويلة إن تسيء لأسرته حال اتصاله بهم حيث يعيش في بريطانيا، وحين قالت له والدته في المكالمة الأخيرة بينهما، "من الصعب أن أكلمك الآن" عرف أن عليه أن يغلق الخط.
لكن ما يقلق الشاعر إلكون هو أنه حاول الاتصال بوالدته هيبزيم نيزاميدين البالغة من العمر 76 عاماً، لكن تليفونها مغلق، منذ بداية عام 2019.
يقول الشاعر عيسى إلكون: "عامان قد مرّا، ولا خبرٌ ولا شيءٌ. أخاف أن أفكر في والدتي، ما وضعها؟ أحاول ألا أفكر كثيراً بسوداويةٍ، لكن ذلك صعبٌ. لمَ يقطعون كل الاتصالات إلا لو كانوا يرتكبون فظاعةً ما؟".
ويتمنى أن يجد طريقه للوصول إلى والدته
حيث ينتمي عيسى وأسرته إلى طائفة الإيغور، وهي عرقيةٌ مسلمةٌ تتعرض لحملة قمعٍ شديدةٍ في إقليم شينجيانغ النائي غربيّ الصين، ويخشى أن تكون والدته من بين المئاتٍ من أقاربه وأصدقائه الذين اقتيدوا لمعسكرات اعتقالٍ تعتقد الأمم المتحدة أنها تضم أكثر من مليون فردٍ.
ويحكي ثمانية محتجزين سابقين لصحيفة The Telegraph ذكريات التعذيب الذي لاقوه على أيدي رجال الحكومة الصينية، وكيف كانوا يكبلون ويهددون بالأسلحة النارية، ويتعرضون للتفتيش البدني، ويُصعقون بصواعق كهربائية، ويُجبرون على الخضوع لتلقينٍ سياسيٍ حول الحزب الشيوعي الحاكم.
وتعتبر السلطات الصينية أي صلاتٍ مع أجانب، أو سفرٍ لخارج الصين، أو استخدامٍ لتطبيقات هاتفٍ غربيةٍ، أسباباً كافيةً لاقتياد الناس إلى مخيمات الاعتقال.
وتقول راشيل هاريس، زوجة عيسى إلكون، والخبيرة في ثقافة الإيغور في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن: "تعتبر تلك ظاهرة منتشرة بين أبناء جالية الإيغور المشتتين بالخارج. هل بسببي يدخل أقربائي وأصدقائي السجن؟".
خاصة مع انتشار انتهاكات السلطات الصينية ضد الإيغور
ويصف عيسى، البالغ من العمر 49 عاماً، عمراً من الاضطهاد المتزايد تجاه الإيغور في شينجيانغ، المنطقة الغنية بالموارد، والتي تعتبر من حيث الثقافة والمسافة أقرب لبغداد منها لبكين، والتي لطالما حاولت السلطات الصينية صبغها بالطابع الصيني.
وقد شارك عيسى وهو طالبٌ في الثمانينيات في تظاهراتٍ في شينجيانغ طالبت بفرصٍ أكبر للأقليات العرقية، ثم شارك بعد ذلك في تظاهرات ساحة تيانانمان (مظاهرات أقامها الطلاب الصينيون مطالبين بالإصلاح السياسي 15 أبريل/نيسان – 4 يونيو/حزيران 1989).
ولكونه منشقاً سياسياً، هرب عيسى إلى المملكة المتحدة عام 2001، ليحصل هناك على لجوءٍ سياسي. وفي عام 2005 أصبح مواطناً بريطانياً. ومثله يوجد بضع مئاتٍ من الإيغور الذين طلبوا اللجوء إلى المملكة المتحدة في العقود الأخيرة، كثيرٌ منهم يعيشون لفترةٍ طويلةٍ في لندن، وبقيةٌ أخرى مفرقةٌ في مانشستر، ودورهام، ونيوكاسل.
ويطالب عيسى من بريطانيا الضغط لوقف الاعتقالات وكشف مصير عائلته
حيث يطالب عيسى وزوجته الحكومة البريطانية بالضغط على بكين لإيقاف الاعتقالات، غير أنهما يقولان إن رد الفعل العام الذي يحصلان عليه من المسؤولين فاترٌ ومخيبٌ للآمال.
ويقول عيسى الذي يشغل منصب سكرتير مركز قلم الإيغور الدولي: "أنا مواطنٌ بريطانيٌ، وكذلك عائلتي، ويُفترض أن حكومة المملكة المتحدة تحمل مسؤوليةً تجاه تأمين حق مواطنيها في التحدث لذويهم. أتوقع أن تتخذ الحكومة موقفاً صارماً حيال الأمر".
مطالبات مجتمع الإيغور للحكومة البريطانية بالضغط تضع الدولة التي تبنتهم في موقفٍ حرجٍ. تعد الصين من أكبر شركاء بريطانيا التجاريين، بصلاتٍ تجارية تصل إلى نحو 80 مليار دولارٍ سنوياً. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، فإن بريطانيا مهتمةٌ بتوقيع اتفاقيةٍ تجاريةٍ مباشرةً مع الصين.
يقول شارلز بارتون، الدبلوماسي البريطاني السابق الصين، والذي يعمل حالياً زميلاً كبيراً مشاركاً في مركز أبحاث المعهد الملكي للخدمات المتحدة: "هناك جدلٌ واسعٌ حول مفهوم تقوية العلاقات الاقتصادية مع الصين وما بين الحفاظ على أمننا ومصالحنا وقيمنا من جهةٍ أخرى".
ويتابع: "دائماً ما تكون الحكومة البريطانية مهتمةً وبشكلٍ منصفٍ بحقوق الإنسان وبالقيم، لكن هنا يأتي السؤال، هل أحدثت ما يكفي من الجلبة حل الأمر؟".
حيث إن بريطانيا لها خطوات في هذا الملف
وكان وزير الخارجية جيرمي هانت قد قال في البرلمان البريطاني إن المملكة المتحدة قد أرسلت دبلوماسيين للتحقيق، مؤكدين أن التقارير التي تتحدث عن المعتقلات كانت "دقيقةً بشكلٍ عام". وقد ناقش الموضوع هو ووزير آسيا مارك فيلد مع نظرائهما الصينيين.
في الخارج، لفت المسؤولون نظر الأمم المتحدة إلى الأمر، مطالبين الصين بالسماح بوصولٍ غير مقيدٍ على الأرض، أما في الداخل، فقد احتد جدالٌ في البرلمان في يناير/كانون الثاني 2019، وقال متحدثٌ باسم مكتب الكومنولث والدول الأجنبية: "لدينا قلقٌ حقيقيٌ إزاء أوضاع حقوق الإنسان في شينجيانغ".
غير أن الخبراء ومجموعات حقوق الإنسان يقولون إن هناك ما يمكن للمملكة المتحدة فعله أكثر من ذلك، خاصةً مع تاريخها الكبير في المنطقة -في ثمانينيات القرن التاسع عشر كانت الإمبراطورية البريطانية واحدةً من دولٍ قليلةٍ أسست قنصلياتٍ في مدينة قاشجار الواقعة جنوب شينجيانغ، وعينت مسؤولين بها.
ويقول بيتر إيروين، مدير برنامج في مؤتمر الإيغور العالمي، وهو منظمةٌ غير ربحيةٍ: "إنه وضعٌ طارئٌ. إننا نشعر بالفزع من عدم وجود استجابةٍ ملموسةٍ من أي شخصٍ لما يحدث. إنه الجزء الأخير من سياسة الاستيلاء على الإقليم، تقليص وإزالة هوية الإيغور".
يقول كذلك: "أحد الخيارات المتاحة أمام المملكة المتحدة هو أن تمارس قدرتها على توقيع عقوباتٍ على أفرادٍ بسبب قضايا حقوق الإنسان الجسيمة والمنهجية".
وتفرض الصين إجراءات صارمة على المسلمين في شينجيانغ
حتى أولئك الذين لم تضمهم المعتقلات لا يملكون حريةً كاملةً في التحرك. ترسل السلطات الصينية ضباطاً ليقيموا مع أهالي شينجيانغ لمراقبة تصرفاتهم في منازلهم! ويمكن لأمارات "التطرف" -مثل أن تكون نشأت بالخارج، أو ترتدي عمامةً، أو تقرأ القرآن، أو تصلي، أو تأكل الحلال وترفض أكل الخنزير- أن تُثير الشكوك حولك.
وعلى رأس كل ذلك هناك مراقبةٌ لصيقةٌ، بنقاط تفتيشٍ مبنيةٍ أو رقميةٍ عبر المنطقة كلها التي تحدها جبال تيان شان المهيبة، وصحراء تاكلاماكان الواسعة.
تقول راشيل هاريس البالغة من العمر 50 عاماً، والتي رأت أهل زوجها آخر مرةٍ عام 2012 في زيارةٍ لقريتهم النائية تويبولدي: "يبدو الاتصال بالأشخاص في المناطق الريفية أصعب بكثير. إن مستوى الاضطهاد أكبر، ومعرفة من توفي ومن مازال حراً هي أشد تعقيداً".
ولطالما كانت شينجيانغ مسرحاً للصدامات العرقية بين المسلمين الإيغور المنحدرين من أصولٍ تركيةٍ والبالغ تعدادهم نحو 11 مليون نسمةٍ، وبين أغلبية الهان الصينية الكبيرة.
ويقول الأكاديميون إن الهجمات العنيفة كانت رداً طبيعياً لقمع الحكومة المتزايد، فيما تؤكد الحكومة الصينية على أن لديها أدلةٌ على أن إقامة معسكرات الاعتقال كانت ضروريةً.
تُسمي بكين المعسكرات "مراكز تدريبٍ مهنيٍ" و"مدارس داخلية" نجحت في إبقاء المسلمين بعيداً عن العنف. ولم تستجب وزارة الخارجية الصينية لطلبات التعليق.
لكن عيسى يصر على قول: "لا علاقة لهذا بالتطرف الإسلامي. الإيغور مختلفون، نحن لا يجمعنا شيءٌ بصينيي الهان، إنهم يريدون استخدام كل القوة، وكل جبروت الحكومة الصينية لإذابة الإيغور".
ولا شك في أن من يقف خلف ذلك هو الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي تعهد عام 2015 بـ"علمنة" الدين بضمان أن يكون في المنظومة العقدية "سماتٌ صينيةٌ" وتوافق عليها الدولة.
وفي الختام، فقد مر وقتٌ طويلٌ منذ أن كلم عيسى والدته التي يجاهد ليتذكر صوتها. أحياناً يستمع لتسجيلاتٍ قديمةٍ لمكالماتٍ سابقةٍ معها لينعش ذاكرته.
ويقول: "عامان، ولا أعرف شيئاً عن والدتي، ولا أقربائي. أريد أن أعرف أين هم".