اعتبرت مجلة The National Interest الأمريكية أن الحديث عن انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 لم يكن صحيحاً بل استمرت معارك كبيرة لعدة أعوام بعد ذلك بسبب النزاعات العرقية والفكرية في أوروبا الشرقية وآسيا.
وقالت المجلة الأمريكية إن عدداً لا يحصى من كتب التاريخ يذكر أنَّه "في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر" لعام 1918، انتهت أخيراً الحرب الكارثية العظمى.
بالفعل لم تعد نيران البنادق تحصد أرواح الشباب في ساحات المعارك غرب أوروبا، ولم تعد قذائف المدفعية تمطر الأرض على مدار أسابيع لتحولها إلى خراب.
السلام العالمي الذي كان متوقعاً من يوم الهدنة لم يتحقق
لكن السلام العالمي الذي كان من المفترض أن يحققه "يوم الهدنة" لم يكن عالمياً بمعنى الكلمة. ففي عام 1919، اندلعت أعمال عنف في شرق أوروبا ووسط آسيا، واستمرت خمس سنوات أخرى، ولم تقتصر على العناصر المحلية، بل شملت قواتٍ من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان، بالرغم من الضغوط السياسية لإعادتهم إلى أوطانهم.
يرجع السبب الأساسي لأعمال العنف إلى حل الإمبراطورية النمساوية المجرية في شرق أوروبا والإمبراطورية العثمانية وسط آسيا. بررت لندن وباريس وواشنطن ذلك بضرورة الاعتراف بتطلعات الوطنيين الطموحين الساعين إلى إقامة دولهم القومية دون تدخل من المحتلين الأجانب.
كانت مشكلة هذا التصور أنه رغم اختلال الإمبراطوريات متعددة الجنسيات في فيينا وإسطنبول، فإنَّ طبيعتها حققت درجة من التسامح والاختلاط بين الأقليات العرقية والدينية المختلفة، بينما كانت الحكومات القومية الإثنية الحديثة غير مهتمة في كثيرٍ من الأحيان بحماية الأقليات على أراضيها، بالرغم من أنَّها كانت مجتمعات متداخلة الأعراق بشكل كبير، ما أدى إلى حتمية وجود صراعات عنيفة بين الدول القومية الحديثة، بحسب المجلة الأمريكية.
حق تقرير المصير يطبق على دول ودول أخرى ترفضه!
وهناك أيضاً مبدأ حق تقرير المصير الذي بدا عادلاً عند تطبيقه في شرق أوروبا، بينما لم يُعتبر عادلاً عندما طالب القوميون بين رعايا المستعمرات الأوروبية في إفريقيا وآسيا بتطبيقه، حيث كانت طموحاتهم السياسية تتعارض مع مصالح المستعمر "المنتصر" في الحرب. لذا تعرض القائد الفيتنامي هو تشي للإذلال عندما قدم التماساً لحضور مؤتمر باريس للسلام (فرساي). وأُهديت إلى اليابان مقاطعة صينية ساندت فرنسا خلال الحرب. وفي أبريل/نيسان 1919، قتلت القوات البريطانية 1600 هندي بحديقة عامة في مدينة أمريتسار وهم يتظاهرون ضد قانون يبيح اعتقال القوميين الهنود. وساهم هذا الفعل الوحشي في اندلاع حربٍ أخرى بدأت عام 1919، بغزوٍ أفغاني انتهازي للهند البريطانية على يد الملك أمان الله خان تحت وطأة الضغط لمقاومة الهيمنة السياسية البريطانية.
ولم يقدم "يوم الهدنة" أي شيء لوقف اندلاع الحروب الأهلية داخل الإمبراطورية الروسية الممزقة بين المعسكرين الأبيض والأحمر. وتعود جذور هذا الصراع من قبل الحرب العالمية الأولى مع تداعِ الحكم القيصري وصعود الأيديولوجية الاشتراكية الدولية. حفزت الحرب العالمية الأولى اندلاع ثورة سلمية كبرى سلّمت الحكم إلى حكومةٍ ليبرالية ديموقراطية "بيضاء" في موسكو. وربما كان من الممكن تفادي صراعٍ أهلي دموي لو لم ترتب الإمبراطورية الألمانية رحلة القطار المغلق للينين وأنصاره عام 1917. حيث أدت تحريضاته السياسية إلى ثورةٍ ثانية أكثر دموية (الثورة البلشفية)، بحسب المجلة الأمريكية.
ولم يقتصر الأمر على حمل الملايين من روسيا وشرق أوروبا ووسط آسيا للسلاح ضد بعضهم البعض في حروبٍ أهلية، بل نزلت قوات بريطانية وفرنسية وأمريكية بمدينة أرخانغيلسك الشمالية في محاولة عشوائية غير متماسكة لدعم المعسكر "الأبيض". وفي وقتٍ لاحق، غزت قوات ثانية أمريكية ويابانية منطقة سيبيريا، حيث كانت القوات الأولى تسعى ظاهرياً إلى تسهيل عملية انسحاب الفيلق التشيكي، بينما الدفعة الثانية من القوات كانت تهدف لاحتلال الأرض ودعم المعسكر الأبيض.
الصراع الكبير بين معسكري الشرق والغرب
ووصل الصراع بين المعسكرين إلى ذروته عام 1919 بهزيمة القوات البيضاء في سيبيريا وأوكرانيا، ثم في عام 1920 بإجلاء القوات البيضاء وإعدام كولتشاك، زعيم الحركة البيضاء. وانسحبت القوات الأمريكية أخيراً من روسيا في عام 1920، لكنَّ مدينة فلاديفوستوك "البيضاء" لم تسقط حتى عام 1922. وظل الصراع محتدماً لعامين آخرين حيث أعادت القوات السوفييتية تشكيل الأراضي التي كانت تسيطر عليها روسيا القيصرية في وسط آسيا باستخدام الطائرات الحربية والغازات السامة والمدرعات البدائية، لسحق الجمهوريات الناشئة والتطهير العرقي للأقليات "المزعجة" مثل القوزاق، من خلال التهجير القسري والإعدامات، بحسب المجلة الأمريكية.
شهدت الحرب الأهلية الروسية مقتل 1.5 مليون جندي ووفاة أكثر من ثمانية ملايين مدني، أغلبهم بسبب الجوع إضافةً إلى حملات الإرهاب السياسي التي شنها كلا الجانبين. ما جعلها، بلا شك، الحرب الأهلية الأكثر دموية في القرن العشرين.
وامتد تأثير الثورة إلى بولندا، التي استعادت استقلالها رسمياً عام 1919 بعد قرنٍ من تناوب ألمانيا والنمسا وروسيا على ضمها. ومع ذلك، كان حلم حكومة يوزف بيوسودسكي القومية تأسيس إمبراطورية بولندية ليتوانية، وهي الفكرة التي لم يكن جيران بولندا متفقين معها. وفي مفارقة مثيرة للسخرية، خاضت وارسو، التي عانت لأكثر من 100 عام من الهيمنة الأجنبية، عدداً من الحروب الحدودية مع أوكرانيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق. ثم في عام 1920، شنت بولندا هجوماً شاملاً على كييف (عاصمة أوكرانيا الحديثة)، مستغلة حالة الفوضى التي سببتها الحرب الأهلية الروسية، بحسب المجلة الأمريكية.
تأرجح موازين الحرب بين روسيا وبولندا
وتأرجحت موازين الحرب جيئةً وذهاباً، حيث ردت القوات الروسية بشن هجومٍ مضاد مدمر، دفع القوات البولندية حتى بوابات وارسو، قبل أن تعيد تنظيم نفسها لتشن هجوماً كاسحاً منح بولندا، عند وقف أعمال القتال في عام 1921، مساحة أراضي إضافية تقع حالياً في غرب أوكرانيا وروسيا البيضاء. لكن هذا الغزو كانت له آثاره السلبية على المدى الطويل، حيث أصبح جميع الحلفاء المحتملين يحذرون من وارسو. وبعد الحرب العالمية الثانية، استرد الاتحاد السوفييتي تلك الأراضي مع تعويض بولندا بمساحةٍ من الأراضي الألمانية، بعد ترحيل الألمان منها قسرياً.
وبالرغم من عدم تفكيك باريس ولندن وروما للإمبراطورية العثمانية رسمياً، فقد سارعوا إلى احتلال أقاليم الشرق الأوسط القيِّمة لمصالحهم الخاصة، ونشروا قوات احتلال في شبه جزيرة الأناضول. بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تنافس الحلفاء المزعومين مع بعضهم البعض على احتلال أراضٍ أكثر. وأصبحت حكومة السلطان العثماني عاجزةً بشكل كبير وتعتمد كليّاً على قوات الاحتلال.
وفي مايو/أيار 1919، سُلِّمَت مدينة سميرنا "متعددة الأعراق" إلى قوات احتلال يونانية، لتنتقل من الحكم العثماني إلى ألد أعدائها. وأدى هذا الحس الناتج عن الشعور بالإذلال الوطني إلى ظهور حركة قومية ناشئة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الجنرال الذي هزم قوات بريطانيا وفرنسا بنجاح في معركة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد شروط معاهدة سيفر عام 1920، والتي أغضبت الأتراك، قادت الجمعية الوطنية الكبرى التابعة لأتاتورك انتفاضة كبيرة ضد القوات الأجنبية.
وبسبب الضغوط الداخلية في كلٍّ من فرنسا وبريطانيا لإعادة القوات إلى بلادهم، لم يشارك البلدان بشكلٍ أعمق في هذا الصراع، وركز القوميون الأتراك على قتال القوات اليونانية. إلى أن تدخل القدر في أكتوبر/تشرين الأول عام 1920، حيث تعرض الملك اليوناني لعضة قاتلة من قرد خلال مشادّة شارك فيها أيضاً كلبه فريتز من فصيلة جيرمان شيبرد. وأدى ذلك إلى عملية تطهير سياسي للجيش اليوناني، ما قوَّض فاعليته بشكلٍ كبير.