في مدينة بلوفديف في بلغاريا يتمشَّى السكان المحليون متمهلين عبر شارع المشاة الرئيسي. وعلى مقربة يقع مسجد دزهومايا بطرازه المعماري البيزنطي والبلغاري القديم. يُعدُّ هذا الطابع المتمهل الهادئ صفةً سائدة في بلوفديف، إحدى أقدم مدن أوروبا المأهولة.
وتيرة الحياة الهادئة تلك، إلى جانب نفقات المعيشة المعقولة وتوسع قطاع تكنولوجيا المعلومات في المدينة، هي ما يجتذب نوعاً جديداً من المواطنين إلى المدينة، وهم الشباب البلغاري العائد من الحياة في الخارج تصحبه خيبة الأمل، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
الاضطرابات في الاتحاد الأوروبي حفَّزتهم إلى العودة لبلادهم
انتقلت ماريا ستانتشيفا (25 عاماً) إلى المملكة المتحدة بحثاً عن حياة أفضل. قبل 10 سنوات، كان البلغاريون المقيمون في الخارج يستطيعون أن يعولوا أسرهم براتب شخصٍ واحد. لكن في ظل الاضطرابات السياسية الحالية، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتغيّر الأسواق المالية، فلم تعد العواصم الأجنبية مغريةً لهم بعد الآن.
هذه حقيقة جلية بالنسبة إلى ستانتشيفا، التي درست العلاقات الدولية والموارد البشرية في كارديف لمدة أربع سنوات. وحين تخرجت، وجدت أنَّه من المستحيل أن تحظى بفرصة عمل في مجال تخصصها، بحسب الصحيفة البريطانية.
وبعد زيارتها لمعرض توظيف يستهدف البلغاريين في المملكة المتحدة، أدركت أنَّ مهاراتها مطلوبة في بلغاريا. والآن وقد أصبحت أخصائية توظيف في شركة 60K للتوظيف الحر بمدينة بلوفديف، تقول ستانتشيفا: "راتبي منخفض، لكنَّ مستويات المعيشة أفضل هنا".
وتشير ستانتشيفا وهي تتفكر في قرار العودة إلى أنَّ الأمور لا تكون دائمةً أفضل بالنسبة للبلغاريين في البلدان الأخرى، مضيفةً: "نحن نواجه تحدياتٍ ومستقبلاً غامضاً، ومع احتمالية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قد تسوء الأمور بالنسبة إلى البلغاريين في المملكة المتحدة"، بحسب الصحيفة البريطانية.
شهدت بلغاريا انخفاضاً كبيراً في عدد سكانها خلال الأعوام العشرين الماضية، فقلَّ من 9 إلى 7 ملايين نسمة بنهاية عام 2017، ذلك وفقاً للمعهد القومي للإحصاءات في بلغاريا. هذا، وتشير التوقعات الحالية إلى أنَّ الكثافة السكانية ستنخفض بمقدار ربعٍ آخر بحلول عام 2050.
الهجرة هي السبب في مغادرة الملايين لبلدهم
تقف الهجرة وراء ثلثي الخسارة (والثلث الثالث يعود إلى انخفاض معدلات المواليد). ففي عام 2017، غيَّر 31,586 بلغاريّاً عناوينهم الحالية إلى عناوين خارج البلاد. وتقول ستانتشيفا: "لدينا عاصمة بلغارية بالكامل تعيش خارج البلاد". ولا يتلخص الأمر ببساطة في أنَّ أعداداً ضخمة من البلغاريين تغادر البلاد، بل أيضاً في أنَّ واحداً من بين كل مهاجريْن اثنين هو شاب يتراوح عمره بين 20 و39 سنة، حسب المعهد القومي للإحصاءات. وأشهر الوجهات التي يسافر إليها البلغاريون هي ألمانيا (22%)، والمملكة المتحدة (16.3%) وأسبانيا (12.2%)، بحسب الصحيفة البريطانية.
لكن، في مدينة بلوفديف، التي تُعدُّ ثاني أكبر مدن بلغاريا، فاق الوافدون عددَ الراحلين في عام 2017، ما يتعارض مع السمة السائدة في البلاد. وتُظهر إحصاءات مكتب العمدة إيفان توتيف زيادةً بنسبة 7% في المواطنين الذين تتراوح أعمارهم من 20 إلى 29 سنة في المدينة.
وقال سفيتوسلاف برايكوف، المدير الإقليمي لشركة 60k، من داخل الشركة الواقعة في مبنى تجاري بين مبانٍ سكنية سوفيتية قديمة في ضواحي المدينة: "نحن نقوم بالفعل بتحدِّي هجرة العقول من خلال توفير أنماط حياة للشباب البلغاريين لا يستطيعون تحمل نفقاتها في الخارج. لا زال الناس يرحلون من بلغاريا، لكنَّهم في الماضي لم يكونوا يعودون".
لدى الشركة 1550 موظفاً في العاصمة البلغارية صوفيا وفي مدينة بلوفديف، وهي تقدم فرص عمل للطلاب والخريجين في مراحل مبكرة من حياتهم المهنية. ويبدو أنَّ استراتيجية التوظيف في الشركة تستهدف من لم ترقَ تجاربهم في الخارج إلى مستوى توقعاتهم.
من السياحة إلى التكنولوجيا
عادةً ما كان قطاع الصناعة هو الأكثر توظيفاً في مدينة بلوفديف، لكنَّ بما إن المدينة بدأت في إعادة تشكيل نفسها كمحور أوروبي للتنمية الحضرية في عام 2014، فقد أصبح قطاع تكنولوجيا المعلومات ذو الأجور المرتفعة نسبيّاً الواجهة الجديدة للمدينة. وتسعى شركات التعهيد إلى أن تحذو حذو مدنٍ مثل مدينة تالين في إستونيا، وذلك بإضافة العمل الرقمي الحر إلى خيارات العمل في مدينة بلوفديف، بحسب الصحيفة البريطانية.
لم تكن مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فقط هي ما جعل عودة البلغاريين إلى بلادهم مغرية. فيقول العمدة توتيف: "لقد استفدنا من حالة عدم الاستقرار في أوروبا، ومن الأزمات الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مثل إسبانيا واليونان".
المدينة صغيرة، ويبلغ عدد سكانها الحاليين 345 ألف نسمة، وهو شيء قد يكون في صالحها. فالمستثمرون المحليون يصفون العاصمة صوفيا بأنَّها مزدحمة جدّاً، ومليئة بالشركات مما يصعب المنافسة. وفي الحقيقة، زادت سوق العمل في بلوفديف والقرى القريبة منها بمعدل 38 ألف شخص في عام 2017، وهذا أكثر من أي منطقة أخرى في البلاد، وفقاً للبيانات المأخوذة من مكتب العمدة.
هل بالفعل النهضة مزعومة؟
إلا أنَّ البعض ليسوا مقتنعين بأنَّ المدينة تشهد نهضةً. ويزعم المنتقدون أنَّه لربما غيَّر مكتب العمدة الإحصاءات من أجل تقديم صورةٍ أفضل.
فقال صاحب شركة في التاسعة والعشرين من عمره، رفض الإفصاح عن اسمه، إنَّ "العمدة شيَّد فندقاً من أموال الضرائب التي ندفعها". مثل هذه الاتهامات شائعة، ويشجب الكثيرون توتيف بوصفه جزءاً من حكومة أقلية، ويشيرون إلى مزاعم وتحقيقات تتعلق بمعاملاته المالية تحدثت عنها مختلف الوكالات الإخبارية البلغارية.
والبعض مستاؤون من المشروعات الخاصة بمنطقة كابانا الإبداعية الرائجة في المدينة. فيشكو المواطنون من أنَّه بدلاً من الاستثمار في الفنانين الذين جعلوا المنطقة شهيرة من الأصل، تُدعم المحلات التجارية والحانات لجذب السياح، ما يقتل المناخ العام ويذهب بالمنطقة إلى نهايةٍ مغلقة.
وفي الوقت نفسه، تسري الحياة في المدينة بالوتيرة الهادئة نفسها. ويمزح إيفان زيفيروف البالغ من العمر 30 عاماً، وهو مدير في شركة Trakia Tech الناشئة، بإطلاق النكات عن فلسفة بلوفديف، المعروفة باسم "aylyk"، وهي كلمة تركية تعني "متكاسل"، وهي تعني للبلغاريين "لا تُسرع بدون هدف. إن كان عليك إتمام مهمة ما، فمن الممكن تأجيلها". وقد تكون أعداد سكان المدينة في تزايد، لكن ليس هناك أي دليل على أنَّ وتيرة الحياة ستتغير.