"أنا أقف أمام ماكينة الصرف الآلي منذ أكثر من ثلاث ساعات"، بهذه الكلمات عبَّر أحمد ياسين عن المدى الذي وصلت إليه الأزمة الاقتصادية في السودان.
بدأ الحراك ضد حكم الرئيس السوداني عمر البشير بسبب الوضع الاقتصادي، والآن بعد مرور نحو شهر على الإطاحة به تزداد الأزمة الاقتصادية، في ظل تلكؤ المجلس العسكري الحاكم في وضع ترتيبات نقل السلطة للمدنيين.
ويبدو أن المجلس يراهن على تدفق المساعدات الخليجية، فهل تستطيع هذه المساعدات إنقاذ السودان من أزمته الاقتصادية أم هي مجرد علاج مؤقت؟ وما الثمن الذي سيدفعه السودانيون مقابل هذه المساعدات، وهل المساعدات فعلاً بنفس القدر الضخم الذي أعلن عنه؟
مظاهر الأزمة الاقتصادية في السودان بدأت تتفاقم
تحاصر أزمة أسعار الصرف الحكومة منذ سنوات، مع محاولات فاشلة لمحاصرتها. وتزامن انفلات سعر الصرف مع مشكلات حقيقية تعاني منها الأسواق، تمثلت في انعدام السيولة في القطاع المصرفي وخلو الصرافات من الأوراق النقدية، وصعوبة سحب الودائع من البنوك.
وتحسن سعر الجنيه السوداني أمام الدولار مؤخراً في السوق الموازية وهو ما عزاه متعاملون إلى انتهاء موسم الاستيراد الخاص بشهر رمضان.
وقال متعاملون فى السوق الموازية، أمس الثلاثاء 7 مايو/أيار 2019، إن أسعار الدولار تراجعت بصورة طفيفة حيث بلغ سعر بيع الدولار نقداً 60 جنيهاً مقابل 68 جنيهاً للبيع عبر الإجراءات المصرفية.
تقارير صندوق النقد الدولي تشير إلى أن الاقتصاد السوداني انكمش بنسبة 2.1%خلال عام 2018، وهذا الانكماش مرشح للتفاقم خلال 2019 ليصل إلى 2.3%.
أما التضخم (أسعار المستهلكين) فقد بلغ، بحسب التقرير إيّاه، 64.3% عام 2018، ومن المتوقع أن ينخفض قليلاً إلى 49.6% عام 2019، على أن يعاود صعوده السنة المقبلة إلى 58.1%.
بالنسبة لميزان الحساب الجاري، يشير التقرير إلى أن السودان أصابه عجز بلغت نسبته -11.5% عام 2018، فيما من المرجّح أن تنخفض النسبة إلى -9.9% عام 2019، وأن تستقر تقريباً عند -10% عام 2020.
أزمة وقود تزداد يومياً
وتزايدت المؤشرات على اتساع أزمة الوقود في السودان في ظل أزمة سيولة متفاقمة بعد أقل من شهر من الإطاحة بالرئيس عمر البشير عقب احتجاجات أثارها رفع أسعار الخبز والوقود.
وفي بعض الأيام تصطف السيارات في محطات البنزين في الخرطوم بينما ينتظر سائقو السيارات ينتظرون للتزود بالوقود لعدة ساعات. وأشرف جنود على المحطات لضمان حفظ النظام.
وتفرض أزمة الوقود التي تتزامن مع أزمة نقص السيولة وانقطاع الكهرباء تحديات كبيرة على المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، الذي تشكل بعد أن عزل البشير من قِبل قادة الجيش واعتقاله في 11 أبريل/نيسان الماضي.
88 شخصاً أمام ماكينة صرافة واحدة
وأشارت وكالة رويترز إلى نحو 12 من ماكينات الصراف الآلي في منطقة تجارية بوسط الخرطوم كانت خالية من النقود، حيث اصطف عشرات الأشخاص على تلك الماكينات على أمل تزويدها بالنقود.
ونسبت إلى شاهد تأكيده اصطفاف 88 شخصاً في طابور واحد على طريق رئيسي بوسط الخرطوم. وأكد أن الطوابير كانت أقصر في السابق، وكان عدد أكبر من ماكينات الصراف الآلي يحتوي على النقود.
وقال أحمد ياسين (52 عاماً): "من الصباح أبحث عن صراف آلي أسحب منه نقوداً. والآن أنا واقف في الصف منذ ثلاث ساعات ويجب أن أسحب نقوداً من أجل أن أشتري حاجات رمضان لأسرتي".
وقال موظف في أحد البنوك، طلب عدم نشر اسمه، إن معظم ماكينات الصراف الآلي بلا نقود.
ويتقاضى معظم الموظفين السودانيين رواتبهم قرب بداية الشهر، وعادة ما يزداد الإنفاق الاستهلاكي خلال شهر رمضان، مما يساهم في أزمة السيولة.
ومنذ فترة طويلة تحدد حد السحب اليومي عند 2000 جنيه سوداني (45 دولاراً). ويفتح البعض أكثر من حساب مصرفي للتحايل على حد السحب.
والتيار الكهربائي ينقطع في ظل حرارة تصل إلى 45 درجة
وتعاني معظم المناطق السكنية في العاصمة من انقطاع الكهرباء بصفة شبه يومية لساعات. ويحدث انقطاع التيار المتزايد في ظل ارتفاع درجات الحرارة في الخرطوم إلى نحو 45 درجة مئوية.
وكانت حكومة البشير تعاني عجزاً هائلاً في الميزانية بسبب دعم الوقود والخبز وغيرهما من المنتجات. ومن أجل تغطية العجز، وسعت المعروض النقدي.
لكن ذلك أدى إلى تراجع قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى وصعود التضخم ورفع تكلفة الدعم وزيادة عجز الموازنة أكثر.
وكانت محاولات رفع أسعار الخبز والوقود لخفض تكلفة الدعم قد أثارت الاحتجاجات التي أدت إلى إطاحة الجيش بالبشير الشهر الماضي.
تأخر تسليم السلطة قد يفضي إلى انهيار الاقتصاد.. موسم الزراعة يقترب
ويواجه المجلس العسكري تحديات مالية خارجية أيضاً وقد طالب الأسبوع الماضي بإعفاء السودان من ديونه الخارجية، وإزالة العقبات التي تحول دون تلقيه المساعدات والتمويل من المؤسسات الدولية، باعتبار أن الدولة خارجة من نزاع.
وبعد مرور نحو أربعة أسابيع على رحيل البشير، يخوض قادة الجيش محادثات مع فصائل المعارضة ومجموعات المحتجين بخصوص كيفية قيادة البلاد في عهدها الجديد.
ومع استمرارهم في المحادثات، تقول البنوك إنها لا تزال تفتقر للنقد الأجنبي اللازم لسداد التزامات وشيكة، في حين يبحث المزارعون عن إمدادات لموسم الزراعة الصيفي الذي يبدأ في غضون أسابيع.
وذكر محمد هارون، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم، أن موسم الزراعة الرئيسي في السودان للمحاصيل المحلية ومحاصيل التصدير سيبدأ خلال أسابيع، وستكون هناك حاجة للإمدادات.
وأضاف: "هذه مشكلة يجب أن تتعامل معها الحكومة الجديدة سريعاً".
وقال المجلس العسكري في 28 أبريل/نيسان 2019، إنه دبَّر الوقود وغيره من مستلزمات موسم الزراعة الصيفي، ويعمل على إمداد البنك المركزي بالأموال.
يقول إبراهيم البدوي، وهو خبير اقتصادي سوداني وموظف سابق في البنك الدولي بالقاهرة، إنه من دون إحراز تقدم سريع على الصعيد الاقتصادي والسياسي "ستنهار الثقة العامة، وستستمر أزمة النظام المصرفي، بل وربما يتفاقم الانهيار الاقتصادي".
مليار دولار ديون خارجية، ولا أحد يريد مساعدته
وتأمل جهات دولية مقرضة أن تتمكن السلطات الجديدة من نفض غبار ديون بمليارات الدولارات، تخلفت الخرطوم عن سدادها منذ وقت طويل.
وهناك تحديات كثيرة تعترض تنفيذ الخطوة، أولها الغموض الذي بات يسيطر على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية بعد سيطرة المجلس العسكري على السلطة.
وقال ستيوارت كالفيرهاوس رئيس أبحاث الديون السيادية والدخل الثابت في مؤسسة إكسوتكس، إن "الدين العام الخارجي للسودان يبلغ حوالي 51 مليار دولار".
ونظراً لأن السودان لا يزال مدرجاً على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، وعليه متأخرات لصندوق النقد الدولي بنحو 1.3 مليار دولار، فإنه لن يستطيع اللجوء إلى الصندوق أو البنك الدولي لطلب الدعم. وتكافح البنوك السودانية لاستعادة علاقات المراسلة مع المصارف الأجنبية.
وأكد مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد، جهاد أزعور، الإثنين الماضي، أن صندوق النقد واصل تعامله مع السلطات السودانية بعد الاضطرابات السياسية.
لكنه استدرك قائلاً: "لا يمكننا تزويدهم بالتمويل، لأنهم مازالوا يتحملون متأخرات، وإلى أن يعالجوا المشكلة لا يمكننا تزويدهم بإقراض إضافي بموجب لوائحنا".
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد رفعت معظم عقوباتها عن السودان، في فبراير/شباط عام 2017، ولكنها أبقت البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما جعل حصول السودان على قروض ومنح جديدة مستحيلاً.
وعود بثلاثة مليارات.. هل تنقذ المساعدات الخليجية السودان؟
يقول خبراء اقتصاديون إنه مع استمرار السجال حول المستقبل السياسي للسودان، يواجه اقتصاد البلاد خطر الانزلاق في مزيد من الفوضى، ولا يُتوقع من تعهدات المساعدات الخليجية إلا أن تقدم إغاثة قصيرة الأجل.
وقال مصرفيون ومسؤولون آخرون لرويترز إن الاحتجاجات الحاشدة التي دفعت الجيش للإطاحة بالرئيس عمر البشير، الشهر الماضي، قلَّصت أنشطة الأعمال، في الوقت الذي يحتاج فيه السودان إلى موارد عاجلة لسداد ثمن القمح والوقود والدواء.
وأشار البدوي وخبراء اقتصاديون آخرون إلى أن تعهد السعودية والإمارات العربية المتحدة الشهر الماضي بتقديم مساعدات قيمتها ثلاثة مليارات دولار لن يتيح سوى متنفس قصير الأمد.
ويشمل الدعم السعودي والإماراتي وديعة بقيمة 500 مليون دولار في بنك السودان المركزي، بينما يتجه الباقي لفاتورة الوقود والقمح والدواء.
وعلى أرض الواقع لم يصل إلا 250 مليون دولار.. ولكن ماذا عن أموال المسؤولين السابقين؟
قال مصرفي سوداني في الخرطوم، إن الإمارات هي الدولة الوحيدة التي أرسلت أموالاً للسودان حتى الآن، حيث أودعت 250 مليون دولار في البنك المركزي. وقدر المصرفي أن ذلك سيغطي الاحتياجات الأساسية لشهر أو شهرين.
وذكر البدوي أنه حتى لو جاءت بقية الأموال الخليجية، ودخل خزائن الدولة ما تردد عن استعادته من ذهب ونقود بمئات الملايين من الدولارات في منازل مسؤولين سابقين، فإن ذلك لن يدعم الاقتصاد لفترة أطول كثيراً.
ستواجه أي حكومة جديدة تتمخض عنها المحادثات بين الجيش وفصائل المعارضة نفس المشكلات التي أطاحت بالبشير، من الدعم الحكومي الذي لا يمكن تحمله إلى نقص السيولة والوقود، بينما ستضطر للتعامل مع تطلعات الشعب الكبيرة.
في غضون ذلك، واصل المواطنون الوقوف في طوابير للحصول على البنزين والنقود. كما تباطأت أنشطة الأعمال مع ترقب المديرين، لوضوح اتجاه سياسة الاستيراد والنقد الأجنبي.
كما أن الإنفاق على الأمن والميليشيات يبتلع أغلب الميزانية
والإنفاق على شبكة الأمن الواسعة في السودان، العسكرية وشبه العسكرية، مرتفع أيضاً.
ويقول البدوي إن الأمن والدعم معاً يلتهمان ما يربو على 75% من الميزانية.
ويرى أن الاستفادة من برنامج البنك الدولي لتفكيك المجموعات المسلحة سيتطلب تأييد الولايات المتحدة ومزيداً من الدعم المالي من الخليج.
ومادام العسكريون يحكمون فإن العقوبات ستستمر
ولا يزال الاقتصاد يرزح أيضاً تحت إرث البشير، حيث تم فرض عقوبات في البداية، لدعمه مجموعات مسلحة، ثم لاحقاً بسبب الحملة التي شنَّها لسحق المتمردين في إقليم دارفور بغرب البلاد.
وتُكافح البنوك السودانية لاستعادة علاقات المراسلة مع المصارف الأجنبية.
وقال المصرفي في الخرطوم إن السودان يحتاج الآن لبذل جهود للوفاء بالالتزامات.
وأضاف: "إذا فقدوا الثقة، أو الاتصالات مع بنوك المراسلة الحالية فسيصبح المضي قدماً أكثر صعوبة".
في حين يبرز الرفض الدولي للسلطة العسكرية، ليحبط آمال الحصول على دعم ومنح وتمويلات خارجية، تُعين الاقتصاد على استعادة بعض توازنه.
وقالت الولايات المتحدة إنها لن ترفع السودان من قائمة الإرهاب، مادام العسكريون يتولون زمام السلطة.
ما المقابل الذي ستحصل عليه السعودية والإمارات؟
الكثير من المحتجين يقولون إنهم يرفضون المعونة الخليجية، لما قد تمنحه من نفوذ لدول الخليج.
وأعلن المجلس العسكري الانتقالي أن القوات السودانية المشاركة في الحرب "ستبقى حتى يحقق التحالف أهدافه"، بحسب ما أفادت وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا).
والسودان شريك رئيسي في التحالف العسكري السعودي الإماراتي ضد المتمردين الحوثيين في اليمن، ويقاتل آلاف الجنود السودانيين في صفوف قوات هذا التحالف، الذي بدأ عملياته في مارس/آذار 2015.
وتشير تقارير إلى أن الرئيس الجديد للمجلس العسكري الانتقالي عبدالفتاح البرهان تولّى عملية تنسيق إرسال الجنود السودانيين، وأشرف على القوات التي حاربت في صفوف التحالف السعودي الإماراتي، وهو على صلات وثيقة بكبار القادة العسكريين في الخليج، بحكم مسؤوليته عن تنسيق الدور العسكري للسودان بالحرب.
ويقول هارون: "ربما يكون هناك ثمن باهظ مقابل المِنح التي قد نحصل عليها من بعض الدول في المنطقة".
وقال المحلل الاقتصادي هيثم فتحي لـ "العربي الجديد"، إن السلطة الانتقالية يجب أن تُركز على توفير الغذاء والوقود للمواطنين، مع ترك مهمة المبادرات الإصلاحية الكبرى للإدارة المنتخبة المقبلة.
ودعا إلى عقد مؤتمر اقتصادي تحضره جميع التيارات السياسية وخبراء الاقتصاد والأعمال، لوضع حلول لإنقاذ الاقتصاد الوطني.