يُقدِّر الكثير من الآباء فرصة إلقاء نظرةٍ خاطفة على أطفالهم عن طريق اختبار تخطيط الصدى الطبي، باستخدام الموجات فوق الصوتية، في أثناء فترة حمل المرأة.
ويَسعد الأبوان برؤية طفلهما الصغير على الهواء مُباشرةً، وهو يكشف عن مهارات جديدة مثل الركل والتلويح ومص الإبهام.
ويستطيع الأبوان أن يشهدا مراحل نمو طفلهما داخل الرحم في الوقت الحالي أكثر من أي وقتٍ مضى، لكن رُبما يشغلهم التساؤل حول أقصى ما يُمكن للجنين فعله داخل الرحم.
ونحن نُدرك أنَّ الأطفال يُمارسون فعل الرضاعة والبلع أثناء وجودهم داخل الرحم مثلاً، ولكن ماذا عن البكاء؟ هل يبكي الأطفال وهم ما يزالون داخل الرحم؟ نحن نعلم جميعاً أنَّ الأطفال يقضون الكثير من الوقت في البكاء وهم خارج الرحم بعد الولادة (ويحدث هذا عادةً في الثالثة صباحاً)، لكن هل يبدأون استعراض عضلات البكاء تلك في وقتٍ مُبكر أثناء تطورهم؟
كيف تستجيب الأجنة داخل الرحم؟
بحسب موقع Verywell الأمريكي، لاحظ الباحثون أن الأطفال يُظهرون ميلاً لصوت الأم بعد الولادة مُباشرةً، وهو الأمر الذي أثار فضولهم لمعرفة كيفية استجابة الأطفال داخل الرحم. هل تعرَّف الطفل إلى صوت أمه وهو ما يزال جنيناً؟ أم هل تعرَّف إلى أمه تلقائياً بالفطرة؟
نحن نُدرك الآن بالطبع أنَّ الأطفال يبدأون في التعلُّم والتجاوب مع العالم أثناء وجودهم داخل الرحم. وكشفت الدراسات أنَّ استجابة الأطفال تبدأ في وقتٍ أبكر من المتوقع، وهم ما يزالون أجنَّة.
إذ أُجريت دراسةٌ في عام 2015، ووجدت أنَّ أول طفلٍ سُجِّلت استجابته للصوت داخل الرحم كان يبلغ من العمر 16 أسبوعاً فقط، مما يعني أن تلك الاستجابة حدثت فعلياً قبل نمو الأذن بالكامل. ووجدت الدراسة أيضاً أنَّ الحديث إلى الطفل ولمسه وهو داخل الرحم يُؤثر بشكلٍ مباشر على الجنين، مما يدفعه إلى الركل والحركة.
ونحن نعلم الآن أنَّ الأطفال يبدأون في إدراك العالم الخارجي أثناء فترة تواجدهم داخل حدود الرحم. إذ يستجيبون إلى المنبهات الخارجية مثل الأصوات، وحركة الأم، والضوء، ولمس الإخوة الأكبر لبطن أمهم.
وتستطيع الأجنَّة داخل الرحم أن تشعر بالفزع، أو تتحرك في اتجاهاتٍ مختلفة، أو تتبول، إلى جانب قدرتها على الشقلبة التي تُرهِق النساء الحوامل.
ولكن ماذا عن البكاء؟ يبدو أنَّه من الصعب الجزم بأنَّ الطفل يبكي فعلياً داخل الرحم، وذلك بفضل الكمية الكبيرة من السائل السلوي (سائل غذائي يُوفِّر الحماية للجنين داخل الرحم) وحقيقة أنَّ الجنين ليس لديه الكثير من الأمور التي تدفعه إلى الشكوى؛ لأنه يشعر بالراحة والدفء داخل الرحم.
ماذا يحدث حين يبكي الطفل؟
يُعَدُّ البكاء عمليةً مُعقَّدة، رغم اعتقاد البعض بأنه فعلٌ بسيطٌ للغاية. إذ تتطلَّب قدرة الطفل على البكاء وجود درجةٍ عالية من التنسيق بين العديد من الأجهزة داخل الجسم، مثل:
عضلات الوجه ومجرى الهواء والتنفس، وحدوث نوعٍ من التلفُّظ، أو ما يُعرف بالصوت المسموع، هو الشيء الأساسي الذي يجب أن يحدث ليتمكن الطفل من البكاء.
إذ أظهرت هذه الدراسة أنَّ عملية البكاء لها مُكونٌ صوتي وآخر غير صوتي. مما يعني أن الطفل يُمارس الجانب غير الصوتي من عملية البكاء، حين يبدأ في تعلُّم كيفية البكاء داخل الرحم.
ولكنَّ الشيء الأكثر أهمية في إدراك بكاء الطفل هو أنَّ البكاء يُعَدُّ في الحقيقة مرحلةً مهمة في عملية التطور والنمو.
إذ تُظهِرُ قدرة الطفل على البكاء أنَّ دماغه وجهازه العصبي وجسده تعمل بالكفاءة التي تُمكِّنه من البكاء. وهذا يعني أن البكاء هو أكثر من مجرد دموعٍ وصراخ، إذ يُظهر أنَّ الطفل:
- يُدرك حدوث نوع من المنبهات أو المؤثرات الخارجية.
- يستوعب أن تلك المنبهات يُحتمل أن تكون مؤذية، وبالتالي تُعتبر مُنبهاً سلبياً.
- يتفاعل مع المنبهات عن طريق مجموعةٍ مُتنوِّعة من المسارات، بدءاً من الحركة الجسدية. ووصولاً إلى محاولة النطق بصوتٍ عالٍ استجابةً للوعي الحسي الدماغي.
والبكاء هو آلية تضمن البقاء حرفياً، إذ تُؤكِّد قدرة الطفل على التعبير لمُقدِّم الرعاية عن حاجته إلى المساعدة، أو أنَّه في خطر، أو حاجته للابتعاد عن موقفٍ يُشكِّل تهديداً لحياته.
بكاء الأطفال داخل الرحم
نستطيع أن نقول باختصار إنَّ الأطفال يبكون داخل الرحم، لكنَّ العلماء غير واثقين من وصف هذا البكاء، لأن البكاء داخل الرحم يختلف عن البكاء المتعارف عليه خارجه. إذ يختلف بكاء الجنين داخل الرحم عن بكاء الطفل في العالم الخارجي مثلاً.
وقارنت إحدى الدراسات بين سلوكيات الطفل خارج الرحم وسلوكياته أثناء فترة الحمل. ونجحت الدراسة في تحديد خمس حالاتٍ إجمالية للطفل في العموم:
النوم الهادئ، وحالة النشاط، واليقظة الهادئة، واليقظة النشطة، والبكاء. واعتقد الكثيرون في السابق أن الطفل داخل الرحم يَمُرُّ بالحالات الأربع الأولى فقط.
لكنَّ الدراسة، التي كانت تُراقب رد فعل الأجنة على التعرُّض للتبغ والكوكايين، سجَّلت فعلياً حالةً يبدو فيها الطفل وهو يبكي داخل الرحم.
ولاحظ الباحثون أنَّ الطفل أظهر سلوكياتٍ مرتبطة بما يُشبه شكل البكاء خارج الرحم: الشهيق وفتح الفم مع هبوط اللسان إلى الأسفل، ثم التنفُّس بقوة لثلاث مرات مُتتالية.
وتضمَّن النفس الثالث والأخير وقفةً مؤقتةً في الشهيق، ونفساً عميقاً في الزفير، مصحوباً بحالة "سكون".
ويُمكن أن نتخيَّل بكل بساطةٍ أنَّ الطفل كان يبكي بكاءً مُقتضباً. ووجد الباحثون في تلك الدراسة أيضاً دليلاً على ممارسة سلوك البكاء لدى 10 أطفالٍ آخرين على الأقل.
وتُعَدُّ هذه الدراسة رائدةً في هذا المجال منذ صدورها في عام 2004، لأنَّها قدَّمت أول دليلٍ مُصوَّر على وجود جنينٍ "يبكي" داخل الرحم، وغيَّرت بذلك طريقة تفكير الباحثين فيما يتعلَّق بسلوك الجنين، ونشاطه، وتطوُّره.
ومن المثير للاهتمام أنَّ أحد الأطفال أظهر بالفعل سلوك البكاء مع دخول الأم في مرحلة المخاض. وهو الأمر الذي يبدو منطقياً لأن الطفل كان يستعد لبدء جولته الجامحة داخل الرحم.
وصِيغَ مصطلح "بكاء المواليد" في نهاية الأمر استناداً إلى ما توصلَّت إليه الدراسة، لأنَّ بكاء المواليد يختلف عن البكاء الطبيعي رغم تشابه مراحل عملية البكاء والمكونات المادية الفعلية له، مثل:
حركات الجسم، وما يُصاحبها من تجعيد الوجه والعبوس، وأنماط الشهيق والزفير المرتبطة بالبكاء خارج الرحم. ولعل الاختلاف الرئيسي يكمُن في عدم قدرة الطفل على إصدار صوتٍ أثناء البكاء.
متى يبدأ الأطفال في البكاء؟
يُدرك الأطباء أنَّ الأجنَّة تُطوِّر كافة "الشروط المُسبقة" اللازمة للبكاء بحلول الأسبوع الـ20 داخل الرحم. إذ ينجح الجنين في تنسيق حركات التنفس، وفتح فكِّه، وتحريك ذقنه، وبسط لسانه بحلول الأسبوع الـ20.
ويُصبح بإمكانه البلع في منتصف فترة الحمل. ويعلم الأطباء أن الأطفال قادرون على إنتاج أصوات البكاء والاستجابة للضوضاء في بيئتهم المحيطة، بداية من الأسبوع الـ24، لأنَّ الأطفال يولدون عادةً قبل الأوان.
كلمةٌ أخيرة
يُشكِّل البكاء علامةً فارقةً في مرحلة النمو والتطور بالنسبة للطفل، ويُمثِّل جهداً مُنسَّقاً بين العديد من الأجهزة داخل الجسم. ويبدأ الطفل في تطوير جميع حواسه، مثل اللمس، والشم، والسمع، وممارسة الحركات أثناء وجوده داخل الرحم.
ويمتلك الطفل أيضاً كافة القدرات التي تُمكِّنه من محاكاة فعل البكاء بعد مرور 20 أسبوعاً على بداية الحمل تقريباً.
ويتعلم الأطفال المهارات اللازمة للتكيُّف مع العالم الخارجي، وهم لا يزالون أجنَّة داخل الرحم، وينطوي جزءٌ من ذلك على الاستجابة والتفاعل مع الأحداث التي تجري من حولهم.
ربما لا يستطيع الطفل البكاء داخل الرحم بنفس الطريقة التي يُمارس بها الفعل نفسه في العالم الخارجي، لأنَّ الرحم مليءٌ بالسائل السلوي الذي قد يُبطئ الدموع بعض الشيء. لكن الجنين داخل الرحم يستجيب للمنبهات ويُعالجها، وتشمل تلك الاستجابة سلوك البكاء.