"من الممكن للغاية أن يمضي الحِراكان الديمقراطيان في السودان والجزائر على طريق أسلافهما، الذين بدا أنَّهم يُبشِّرون بالربيع العربي عام 2011؟ الإجابة هي نعم، بحسب الباحث الدولي محمد أيوب، أستاذ العلاقات الدولية الفخري بجامع ولاية ميشيغان الأمريكية.
يقول أيوب لمجلة The National Interest الأمريكية: "باستثناء تونس، التي لا يزال الحكم على تجربتها مُعلَّقاً حتى الآن، عادت كل بلدان الربيع العربي الأخرى إلى الحكم الاستبدادي أو انزلقت إلى الفوضى".
كما شهدت أكبرها، مصر، إجهاض ثورتها عن طريق المكائد من كبار القادة العسكريين والأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى السلطة لفترة وجيزة بعد إطاحة مبارك. يضيف أيوب: "وكنتُ قد نشرتُ بعد يومين من سقوط مبارك في فبراير/شباط 2011، مقالاً بعنوان "The Tyrant is Dead, Long Live the Military" (الطاغية مات، عاش الجيش)، تنبَّأتُ فيه بأنَّ إزاحة مبارك لن تعني نهاية النظام الذي يسيطر عليه الجيش، وأنَّ كبار القادة العسكريين سيواصلون الإمساك بالسلطة بطريقةٍ أو بأخرى. وللأسف، صحَّ توقعي، وعادت مصر إلى الحكم الاستبدادي بصورة خانقة، أكثر بكثير مما كان عليه الحال في عهد مبارك".
يُردف الباحث الدولي: "انحدرت ليبيا واليمن إلى الفوضى، وانتهى بهما الحال بالانقسام إلى إقطاعيات يحكمها أمراء الحرب. وأصبح اليمن كذلك، الساحة الرئيسية التي يجري فيها التنافس السعودي الإيراني في الشرق الأوسط على حساب آلاف الأرواح والمعاناة الهائلة التي تكبَّدها السكان المدنيون. وسرعان ما تفكَّكت سوريا بعد بدء الحراك الديمقراطي، والفضل يعود جزئياً إلى تدخُّل القوى الإقليمية والقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا. وبقي نظام الأسد الدكتاتوري بسبب الدعم الذي أمدَّته به روسيا وإيران. لكن خلال كل ذلك، وقع جزءٌ كبير من البلاد لم تسرِ عليه سلطة الدولة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، الذي توحَّش على الناس لسنوات عديدة قبل أن ينهزم في نهاية المطاف".
بين الأمس واليوم.. هل تتشابه التجارب؟
ومن وجهة نظر أيوب، وهو باحث بمركز السياسة العالمية الأمريكي، يبدو أنَّ الحالتين السودانية والجزائرية تتشابهان على نحوٍ غريب مع بلدان الربيع العربي من جوانب عدة. أولاً، تُعَد الانتفاضة ضد نظامي البشير وبوتفليقة المدعومين من الجيش انتفاضة عفوية ودون ترابطٍ تنظيمي يُذكَر. فكانت –ولا تزال- الأداة الرئيسية التي ساعدت الانتفاضتين على تحقيق أهدافهما هي قدرتهما على اجتذاب الدعم الشعبي الارتجالي المفاجئ، الذي حشد مئات الآلاف من الناس في الشوارع، وبالتالي شلَّ الحياة، "لكنَّ هذا أسلوب لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل".
يضيف الكاتب: "تبدو أصداء ميدان التحرير في القاهرة واضحة للغاية في هذه الظاهرة، لذا هناك خطر كبير بأن يتبدَّد الحراكان السوداني والجزائري هما أيضاً بسبب عدم التنظيم والتناحر الداخلي بين صفوف المعارضة، مثلما تلاشى حراك ميدان التحرير سريعاً بمجرد تحقيق الهدف المباشر، المتمثل في إزاحة حسني مبارك".
"عملية التحول طويلة وصعبة"
ثانياً، عملية تحوُّل النظام عادةً ما تكون عملية طويلة، وتتطلَّب تنظيماً مُكرَّساً لها ومُوحَّد التفكير ومنضبطاً، مثل البلاشفة في روسيا والحزب الجمهوري الإسلامي في إيران، يمكنه الحفاظ على استمرار الزخم الثوري حتى تفكيك النظام القديم بالكامل. فالرجل الموجود على قمة النظام هو مجرد رأس جبل الجليد في معظم الحالات، وإزاحته لا تعني بالضرورة تحوُّل النظام. وعلى الرغم من الاختلافات في الحالتين، فلا يوجد ما يدل على وجود مثل هذا التنظيم في الجزائر أو السودان.
ثالثاً، حين تتعرَّض القوة الحقيقية التي تقف خلف العرش في الأنظمة الاستبدادية -أو على سبيل المثال "le pouvoir" (السلطة) مثلما يُعرَف المسؤولون والقلة الحاكمة الذين يهيمنون فعلاً على السلطة وقراراتها في الجزائر- من جانب معارضة شعبية ضخمة، غالباً ما تُضحّي بالمستبد الرمزي، الصورة الرمزية الأوضح للنظام، وحاشيته من أجل إنقاذ هيكل السلطة التي تهيمن عليها. وهذا بالضبط ما حدث في مصر. إذ كان كبار القادة العسكريين، الذين يمثلون الحكام الفعليين للبلاد، أكثر من مستعدين للتضحية بمبارك وأسرته وحاشيته بهدف الحفاظ على سيطرتهم على البلاد. ففي سلسلةٍ من الخطوات المحسوبة، تظاهروا في البداية بأنَّهم مدافعون عن الحراك الديمقراطي ضد تجاوزات الشرطة، من أجل اكتساب ثقة الناس، ثُمَّ أزاحوا الدكتاتور وسمحوا بفترة انتقالية ديمقراطية وجيزة، وأخيراً أظهروا معدنهم الحقيقي بإطاحتهم بالحكومة المُنتَخَبة والسيطرة على السلطة عبر القوة الغاشمة، التي أُضفيت الشرعية عليها لاحقاً بانتخاباتٍ مزورة.
التضحية بالمستبد الرمزي لتهدئة السخط الشعبي
وفي كلٍّ من الحالتين السودانية والجزائرية، كان الجيش، الذي يُعَد عماد النظامين، هو مَن عزل البشير وبوتفليقة والمُقرَّبين منهما، استجابةً لحالة الاضطرابات الشعبية واستبدلهما بحكومتين مؤقتتين يديرهما القادة العسكريون. وهدفهما الحقيقي هو تهدئة السخط الشعبي عن طريق التظاهر باعتبارهما عنصري تغيير وداعمين للحراكين الشعبيين. ويبدو هذا تكراراً للسيناريو المصري مع إضافة تعديلات بسيطة لتلائم السياقين المحليين.
في حالة الجزائر، حيث بدأت الاحتجاجات يوم 16 فبراير/شباط، وأدَّت إلى إرغام قيادة الجيش لبوتفليقة على الاستقالة يوم 2 أبريل/نيسان، من الواضح أنَّ رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح يهيمن على إصدار القرارات، بالرغم من تولّي عبدالقادر بن صالح، رئيس البرلمان، منصب الرئيس المؤقت وإلزامه بموجب الدستور بتنظيم انتخاباتٍ في غضون 90 يوماً.
ومن الواضح أن ابن صالح سيتّبع تعليمات الجيش تماماً مثلما فعل بوتفليقة. ويبدو أنَّه مجرد نائب في هذا المنصب، ريثما يُقرِّر الفريق أحمد قايد صالح ورفاقه ما ينبغي عليهم فعله لنزع فتيل الموقف، والحفاظ في الوقت نفسه على النظام الذي يترأسونه. وفي ظل غياب تنظيم المعارضة الجزائرية وانقسامها وافتقارها إلى وجود قيادة، وفي ظل وجود الانتخابات الرئاسية على بُعد ثلاثة أشهر فقط، من المستبعد أن تتمكَّن المعارضة من طرح مرشح توافقي في مقابل أحد المرشحين المفضلين لدى الجيش. ومن المُرجَّح جداً أن تستمر "السلطة" في التمتُّع بالسلطة الحقيقية في البلاد عن طريق إحلال شخصية أخرى محل بوتفليقة، لديه نفس الاستعداد لإطاعة التعليمات، بحسب وصف أيوب.
الاختلافات بين السودان والجزائر
يضيف الكاتب، وفي حالة السودان، حيث بدأت الاحتجاجات في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، حلَّ محل البشير في يوم 11 أبريل/نيسان مجلسٌ عسكري انتقالي يترأسه الفريق عوض بن عوف، الذي فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وأعلن هيئةً انتقاليةً تتولى حكم البلاد لعامين. لكن بعد استمرار الاحتجاجات من جانب المعارضة التي يقودها "تجمع المهنيين السودانيين"، تنحّى ابن عوف وعيَّن المفتش العام للجيش، الفريق عبدالفتاح البرهان، رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي. واستمرت المعارضة في المطالبة بتشكيل مجلس انتقالي مدني، لكنَّ الجيش لم يُلبِّ هذا المطلب.
ويختلف الوضع السوداني بصورةٍ ما عن الجزائري. فمن ناحية، تُوفِّر قيادة تجمع المهيين السودانيين درجة ما من الترابط للحراك الداعم للديمقراطية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ المجتمع السوداني، بالنظر إلى حقيقة أنَّ البشير والجيش كانا مدعومين من عناصر إسلامية، منقسمٌ بين المجموعات العلمانية والإسلامية، وبالتالي ينتقص هذا من قدرة الحراك على التحرُّك بصورة موحدة. وكانت الفصائل الإسلامية مُقرَّبة من البشير والجيش، لأنَّ النظام خضع بصورة انتقائية لمطالبهم بتطبيق الشريعة. وهذا الشرخ المجتمعي يُرجَّح أن يعمل لصالح الجيش، لأنَّه لا يزال بإمكانه الاعتماد على دعم الإسلاميين في مواجهة العناصر العلمانية.
ومع أنَّ العوامل الخارجية حتى الآن لم تدخل حتى الآن على خط المعركة في الجزائر أو السودان، فإنَّ هناك احتمالاً بأنَّها ربما تدخل في المستقبل القريب، وبالتالي تُعقِّد الوضع أكثر. الجزائر دولة غنية بالنفط، وللقوى الأوروبية، خصوصاً فرنسا، مصالح كبيرة في الناتج السياسي في البلاد. ففي عام 1992، حين ألغى الجيش الانتخابات بمجرد توقُّع أنَّ فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالاقتراع مُرجَّح، تدخَّلت فرنسا لدعم النظام العسكري. ومن المرجح للغاية أنَّها قد تفعل الأمر نفسه الآن إذا ما شعرت أنَّ سقوط النظام قد يُهدِّد مصالحها الاقتصادية والسياسية في مستعمرتها السابقة.
وفي حالة السودان، من المرجح أن تنجذب القوى الإقليمية، خصوصاً السعودية وإيران، للتدخُّل إن تدهورت الظروف، وبرز سيناريو الصراع الداخلي. وأشاد رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان، يوم الثلاثاء 16 أبريل/نيسان، بعلاقات السودان الوثيقة مع السعودية والإمارات، أثناء لقاءٍ مع وفدٍ سعودي-إماراتي مشترك رفيع المستوى بالخرطوم. وكُوفئ السودان في السنوات القليلة الماضية بقرابة 2.2 مليار دولار بسبب دعمه للمجهود الحربي السعودي في اليمن.
هل تحوّل السعودية السودانَ ليمن آخر؟
وقطعت الخرطوم، التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع إيران طيلة عقود، التواصل مع إيران في مارس/آذار 2015، إلى حدٍّ كبير في مقابل المساعدة السعودية المالية، قبل أن تنضمّ إلى المجهود الحربي السعودي الإماراتي في اليمن ضد الحوثيين المدعومين من إيران. وقدَّمت الانتفاضة الديمقراطية في السودان لطهران فرصةً لاستعادة نفوذها في البلاد مجدداً، ما جعل من الضرري للرياض تكثيف دعمها للنظام العسكري. ويمكن أن يصبح السودان، مثلما هو الحال في اليمن، ساحة معركة أخرى لحرب الوكالة السعودية الإيرانية في المنطقة.
يختتم أيوب تحليله بالقول: "كل تلك العوامل، خصوصاً غياب الترابط والقيادة في الحراكين الديمقراطيين ودور الجيش الحاسم في العملية الانتقالية في كلا البلدين اللذين يُمثِّل الجيش فيهما القوة السياسية المنظمة الوحيدة، لا تُنبئ بالخير لمستقبل الديمقراطية لا في الجزائر ولا السودان. وحصول الجيش على الدعم الخارجي هو أيضاً احتمالٌ واضح في كلتا الحالتين، ما قد يجعل مهمة الحِراكين الديمقراطيين أصعب".
يضيف: "بالتالي فإنَّ تكرار السيناريو المصري أمرٌ مطروحٌ بقوة في كل من الجزائر والسودان. وكما تعلَّم المصريون بثمنٍ باهظ، فإنَّ سقوط الحاكم الرمزي لا يقود تلقائياً إلى التحوُّل في النظام الاستبدادي. فطرد الممسكين الحقيقيين بالسلطة في النظام، أي كبار القادة العسكريين، أصعب بكثير من الحكام الرمزيين أمثال مبارك والبشير وبوتفليقة. وحده وجود الضغط المستمر على مدار فترة طويلة ووجود طرفٍ مُنظَّم جيداً وعلى استعداد للقيام بالتضحيات الكبيرة في الأرواح والممتلكات يمكنه تحقيق هذا الهدف. وهذان المتغيران لا يبدوان حاضرين في السودان والجزائر".