استضافت موسكو يوم 16 أبريل/نيسان الجلسة الوزارية الخامسة لمنتدى التعاون الروسي العربي، الذي حضره عددٌ غير مسبوق من الدبلوماسيين العرب. وبرهن الاجتماع، الذي نظَّمته وزارة الخارجية الروسية والجامعة العربية، على حقيقةٍ بديهية: العلاقات بين روسيا والعالم العربي تبدو ودية، على الأقل حين يتعلَّق الأمر باختلافهما حول رؤية الولايات المتحدة للنظام العالمي. لكنَّ هذا لحنٌ سعيد خادع، لأنَّ العلاقات مليئة بالاختلافات، التي تعود جذور الكثير منها إلى الخلاف داخل المعسكر العربي نفسه.
تقول ماريانا بيلينكايا، الصحفية الروسية المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط، في موقع Al-Monitor الأمريكي، إن المؤتمر في موسكو أصدر وثيقتين: إعلان وخطة عمل لثلاث سنوات. تتناول خطة العمل فرص التعاون للشركات والمنظمات غير الحكومية والأوساط الأكاديمية في المجالات المختلفة، التي تتراوح من الاقتصاد وحتى الثقافة. أمَّا التفاصيل، فهي تتضمَّن التزاماً بالمشاركة في معارض تجارية مختلفة للتصنيع والصناعات الغذائية. وحصل موقع Al-Monitor على الوثيقتين.
تناغم هش يطفو على السطح
دُشِّن منتدى التعاون الروسي العربي في ديسمبر/كانون الأول 2009، بموجب مذكرة وُقِّعَت في القاهرة. يتولى المنتدى تنسيق المواقف بشأن القضايا الدولية وتشجيع تعزيز العلاقات الثنائية. مع ذلك، انعقدت أول جلسة وزارية بعد سنواتٍ من إطلاق المنتدى، في فبراير/شباط 2013، في ذروة الربيع العربي وعودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين. وعُقِدَت اللقاءات اللاحقة في الخرطوم (أواخر 2014)، وموسكو فبراير/شباط 2016، وأبوظبي فبراير/شباط 2017.
كانت الفكرة الأصلية هي عقد جلساتٍ سنوية، لكنَّ الخطة أُلغيت وسط خلافاتٍ بين قطر من ناحية والسعودية والإمارات ومصر والبحرين من ناحيةٍ أخرى. والآن، كثيراً ما يُرى الجانبان المتعارضان في نفس الاجتماعات. في الواقع، كان أمير قطر والعاهل السعودي حاضرين في القمة العربية التي انعقدت في مارس/آذار الماضي بتونس. وهذه المرة، أوفد البلدان وزيري الدولة للشؤون الخارجية، السعودي عادل الجبير والقطري سلطان بن سعد المريخي، إلى موسكو.
وكان من المفترض في البداية أن يلتقي وزير الخارجية الروسي مع ترويكا الجامعة العربية، التي تضم الأمين العام للجامعة والرئيسين الحالي والسابق للقمة العربية (كان الوزراء الآخرون "مُرحَّباً بهم للانضمام" إلى اللقاء كذلك). وبعيداً عن الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، جمع منتدى موسكو الأخير رقماً قياسياً من وزراء خارجية 13 بلداً عربياً من الجزائر، والأردن، واليمن، وقطر، ولبنان، والمغرب، والإمارات، وسلطنة عُمان، وفلسطين، والسعودية، والصومال، وجزر القمر، وتونس. ومُثِّلَت ثماني دول أخرى أعضاء بمسؤولين أقل درجة، ومثَّل سفراء السودان وموريتانيا والبحرين بلدانهم على طاولة المفاوضات بدلاً من الدبلوماسيين.
وكان من المفاجئ غياب وزير الخارجية الليبي محمد سيالة عن المؤتمر، على الرغم من أنَّه كان ضمن القائمة التي وضعتها الجامعة العربية. علاوة على ذلك، كان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف قد أعلن في وقتٍ سابق إمكانية وصول سيالة. ومع ذلك، لا يزال من الممكن أن يحضر الوزير الليبي إلى موسكو –ولو لم يكن ذلك من أجل الاجتماع- لتجنُّب النقاش المحتدم المحتمل بين كافة المشاركين العرب الذين جاهروا بدعمهم للفصائل الليبية المتنافسة.
هل العرب وروسيا متفقون بشأن القضايا العربية؟
واجهت موسكو جدلاً بشأن صياغة الإعلان النهائي، الذي يدعو كل أطراف الصراع الليبي للامتناع عن التصعيد العسكري. إذ أصرَّت بعض الدول على توصيف العملية التي يقودها خليفة حفتر باعتبارها "معركة ضد الإرهاب". لكنَّ النسخة النهائية لم تتضمَّن تلك الصياغة.
وصرَّح الأمين العام أبو الغيط لصحيفة Kommersant الروسية قائلاً: "نأمل أن تواصل الأطراف رؤية ضرورة وضع حدٍ للأعمال العدائية واستئناف عملية التسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة". وشدَّد على أنَّ العالم العربي وروسيا متفقان إلى حدٍ كبير بشأن القضية الليبية.
أما سوريا، فهي مسألة مختلفة تماماً. إذ قالت مصادر ضمن الوفود المختلفة لموقع Al-Monitor إنَّ هناك مجالاً أكبر بكثير للأخذ والرد. وعلى وجه الخصوص، تأكَّد الطرف العربي من تجنُّب ذكر الإعلان لأي دورٍ لتركيا وإيران في التسوية السورية. لكنَّ النص يشير في ثلاث مرات إلى نجاحات صيغة أستانا، التي تشهد تعاون روسيا مع تركيا وإيران. ومن ثَمَّ يرحِّب الإعلان بالجهود الروسية للتوصل إلى تسويةٍ سياسية في سوريا، بما في ذلك عملها على تحقيق وقفٍ لإطلاق النار ومناطق تخفيض التصعيد. ويشيد كذلك بمساهمة الأمم المتحدة في إنشاء لجنة دستورية وتبادل السجناء.
لكنَّ الإعلان لم يتضمَّن فقرة اقترحتها روسيا والتي تشير إلى أنَّ ما يعرف بمؤتمر "الحوار الوطني السوري" الذي عُقِد في منتجع سوتشي الروسي في يناير/كانون الثاني من العام الماضي كان "خطوةً إلى الأمام".
ولم يتطرَّق الإعلان كذلك إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية. وعند سؤال أبو الغيط عن هذا من جانب صحيفة Kommersant، أكَّد على الخلافات بين موسكو والدول العربية بشأن المسألة السورية.
فقال: "تحاول روسيا دفع القبول بإعادة عضوية سوريا في الجامعة العربية، لكنَّ بعض الدول العربية تعتقد أنَّ إعادة قبول سوريا لا يجب أن يتم إلا عقب إحراز بعض التقدُّم في العملية السياسية والدستورية"، بحسب وصفه.
روسيا تقول شيئاً والعرب يفسرونه شيئاً آخر
وأُثيِرَت المسألة التركية والإيرانية أثناء النقاش بشأن العراق وسوريا. ويرفض الإعلان ما أسماه "أي تدخل في الشؤون الداخلية السورية، بما في ذلك الوجود العسكري التركي". فيما صرَّح أبو الغيط لوكالة سبوتنيك الروسية بأنَّ الدول العربية "تعارض تماماً التدخل التركي في سوريا والعراق". لكنَّ قطر كانت مترددة في "تسمية القوات التركية على وجه التحديد في الفقرة الخاصة بالعراق".
وبالنظر إلى الموقف الحساس للضيوف العرب تجاه تركيا وإيران، جاءت كلمات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "مفاجئة" للبعض. إذ صرَّح في المؤتمر الصحفي بأنَّ "الإعلان الذي وافقنا عليه اليوم يُؤكِّد على أهمية تطبيع وتحسين العلاقات بين العرب وإيران لصالح تحقيق السلام والاستقرار".
وأوضح أبو الغيط أنَّ الإعلان يحتوي على فقرة خاصة بعدم التدخُّل تشير إلى الدول الإقليمية. وفسَّر قائلاً: "وبالتالي، فسَّرت الدول العربية الكلام كالآتي: (إيران لا يمكنها التدخل في شؤوننا، وإذا امتنعت عن عمل ذلك، ستتحسن العلاقات)".
ويحتوي الإعلان بالفعل على رسالتين. فتذكر إحدى الفقرتين أهمية إقامة العلاقات بين الدول العربية وجمهورية إيران الإسلامية "على أساس مبادئ حسن الجوار، والامتناع عن استخدام القوة، وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية، واحترام الاستقلالية والسيادة والوحدة الترابية، وحل كل الخلافات عبر الوسائل السلمية، إلى جانب أهمية مبادرة مجلس التعاون الخليجي التي نُقِلَت في رسالة أمير الكويت إلى الرئيس الإيراني لتعزيز السلام والأمن في المنطقة".
وتُعبِّر الفقرة الأخرى عن القلق من "غياب إحراز التقدم بين الإمارات وجمهورية إيران الإسلامية بشأن الجزر الثلاث (طنب الكبرى والصغرى وجزيرة أبوموسى)"، ويؤكد على دعم "التوصل إلى حلٍ سلمي للخلاف".
وانضم وزير الشؤون الخارجية الصومالي أحمد عيسى عوض إلى كلٍ من لافروف وأبو الغيط في المؤتمر الصحفي الختامي بعد تولي الصومال رئاسة القمة العربية بعد قمة تونس. وسلَّط لافروف الضوء على الحاجة لتطبيق القرار الذي جرى تبنّيه عام 1995 لعقد مؤتمر بشأن إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. وجادل بأنَّ "بعض الدول الغربية" قاومت ذلك، لكنَّ جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة قد نتج عنها تبنّي قرار بإطلاق العملية هذا العام 2019. وأشار لافروف كذلك إلى أنَّ الإعلان "يحتوي على جانب مهم للغاية يدعم عدم تجزئة معاهدة حظر الانتشار (النووي)".
بدوره، أشار أبو الغيط إلى مواقف مشابهة لروسيا والدول العربية، وأكَّد على أهمية إقامة مركز ثقافي عربي جديد في موسكو. وقالت مصادر دبلوماسية بالمؤتمر للموقع إنَّ الجامعة العربية لا تزال بحاجة لجمع التمويلات للمشروع. وجاءت أكثر التصريحات إيجازاً من وزير الشؤون الخارجية الصومالي، الذي شكر موسكو على دعمها للفلسطينيين، وهي إحدى القضايا التي تتابعها موسكو باستمرار كجزءٍ من الجهد الرامي لإحباط "صفقة القرن" المرتبطة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ومن المقرر عقد الجلسة القادمة من منتدى التعاون الروسي العربي في المغرب عام 2020.