حقق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ما يعتبره الخطوة الأخيرة في إحكام قبضته على البلاد، وذلك بعد تمرير التعديلات الدستورية برلمانياً، الأربعاء 17 أبريل/ نيسان 2019، مكرراً، بحسب خبراء، ليس فقط أخطاء نظام مبارك فحسب، وإنما أيضاً أخطاء العديد من الأنظمة "القمعية" العربية، التي أدت في النهاية إلى ثورات 2011.
يقول د. عبدالفتاح ماضي، أستاذ العلوم السياسية، والمتخصص في نظم الحكم والتحول الديمقراطي، لـ "عربي بوست"، إن "السيسي أجهض تجربة الانتقال الديمقراطي القصيرة كما فعل جنرالات الجزائر مطلع التسعينيات، وقَمَعَ الحريات وفَتَحَ المعتقلات لعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين كما فعل نظام صدام والقذافي والأسد، وأمَّم الحياة الحزبية والنقابية والأهلية بشكل أسوأ بكثير مما فعله مبارك والسادات وعبدالناصر. أما الواجهات الدستورية لتأبيد سلطة الجنرال الحاكم ففعلها الكثير من الحكام المستبدين حول العالم".
ويضيف ماضي: "لكني أرى أن السلطات يعتمد على قوته المادية فقط وأصبح عارياً. لقد تضاءلت الشريحة الشعبية التي كانت داعمة له بعد شهور قليلة من إجهاض ثورة يناير (كانون الثاني) في 2013، والدليل على هذا الغضب الشعبي المكتوم اليوم، وأيضاً الأعداد البسيطة من الناخبين الذين ذهبوا لما سماه السلطات "الانتخابات البرلمانية والرئاسية" في 2014″.
ويعتبر الخبير الاستراتيجي أن ما ظل مع السلطات هو أدوات القمع والترهيب، وآلة الدعاية القوية، ومجموعات من رجال الأعمال النافذين، ومجموعة من القضاة وأساتذة الجامعات الذين يقبلون للأسف العمل معه في المناصب التنفيذية والإدارية. هذا بالطبع بجانب الدعم الإقليمي والدولي.
فيما يلي مجموعة من التساؤلات تم توجيهها للخبير ماضي، حول طبيعة المشهد المصري بعد إقرار التعديلات الدستورية المثيرة للجدل في مجلس النواب، وإجراء استفتاء شعبي عليها خلال الأيام القادمة.
هل يقدم السيسي شيئاً مقابل الدعم الاقليمي الذي يحصل عليه؟
لا يوازن أدوات القوة المادية هذه إلا التعبئة الشعبية وقوة الجماهير في الميادين، والتحالف المنظم للقوى السياسية والمجتمعية، هذه سنة مكررة في حالات كثيرة.
الشعوب تضغط في الشارع عبر التظاهرات والإضرابات والاعتصامات متى استطاعت ذلك، والقوى السياسية من المفترض أن تعبر عن مطالب الشارع ثم تقوده نحو تحقيق أهدافه وتقديم بدائل واقعية. عمل الشارع والقوى السياسية يدفع في النهاية إمّا إلى دفع السلطات إلى التنازل والدخول في تفاوض مع المعارضة أو إلى الانهيار والزوال.
في السنوات القليلة الماضية، لم يحقق المعارضون المصريون الكثير من الإنجازات بسبب فرقتهم وانقساماتهم وعدم قدرتهم على تجاوز حالة الاستقطاب التي بدأت منذ مارس 2011، التي عزَّزتها مواقف المجلس العسكري الحاكم آنذاك، ومواقف الكثير من القوى الإسلامية والمدنية، هذا بجانب حالة القمع التي طالت معظم رموز المعارضة في الداخل.
ميزان قوة المعارضة مائل فهل يمكن تعديله؟
وبحسب ماضي فإن على المعارضة البدء مما حدث في 16 أبريل/نيسان الجاري، حيث صدَّق مجلس النواب على التعديل، الذي نسف كل ما كان بين القوى السياسية من خلاف، لأنه أسقط المنطق الذي على أساسه أيدت قوى سياسية نظام ما بعد 2013، وساهموا في وضع دستوره. كان هذا المنطق يقوم على أساس أن السلطات تخلّص من الإسلام السياسي، وأنه سيبني دولة ديمقراطية مدنية.
وكانت هذه القوى ترى أن فترة 8 سنوات ستنقضي، وسيعود الأمر للشعب لاختيار رئيس جديد، وأن بالدستور مواد جيدة في الحريات وفي الفصل بين السلطات. أنا رفضت هذا المنطق في حينه، وحذرت من مآلاته، وقلت إن سلاح الإقصاء والقمع سيبدأ بالإسلاميين، ثم سيصل إلى المدنيين، أطراف تحالف 30 يونيو/حزيران.
المهم اليوم أن هذا المنطق تبدَّد يوم 16 أبريل/نيسان، فالسلطات والجنرال باقيان، بل وقد يتم توريث السلطة للأبناء أيضاً كما فعل الأسد وحاول كل من مبارك وصدام والقذافي وصالح، و "الرئيس" أحكم قبضته على السلطة القضائية، والجيش صارت له وصاية على إرادة المؤسسات المدنية المنتخبة. ولم يبق هناك دستور يمكن الدفاع عنه كما كان يظن البعض.
نعم كانت هناك اختلافات كثيرة حول ما تم منذ 2011 وحتى 2013، واختلافات أخرى حول سياسة الإقصاء والقمع وعمليات التضليل التي تمت بعد 2013. لكن التقدم للأمام يتطلب التفكير في المشترك، واليوم هناك مشترك يمكن عليه بناء إجماع وطني عابر للأحزاب والتيارات، وتحقيق المطالب الرئيسية التي تنادي بها القوى السياسية.
المشترك هو وقف انتهاكات حقوق الإنسان والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ووضع دستور ديمقراطي جديد يرسي دولة المؤسسات والمواطنة والشفافية والمحاسبة. هذا المشترك يستعيد مسار الانتقال الديمقراطي الذي تم إسقاطه في انقلاب 2013.
كيف يمكن للمعارضة الاتفاق على هذا المشترك وتحويله إلى مطالب ملموسة يتم التحرك بها؟
هناك ميزان قوة لا بد من فهمه. فالتغيير يعتمد على زعزعة عناصر قوة السلطات وإضعاف تحالفاته من جهة، وتقوية جبهة المعارضين له وتطوير تحالفات ديمقراطية قوية تتسع لتشمل أي عناصر تخرج من السلطات من جهة أخرى. يتم هذا عبر برنامج سياسي محدد، وخطاب سياسي لمعالم محددة.
وحول كيفية ذلك، أولى الخطوات هي الحوار، وتوفير مساحة حوار موسع بين مكونات المعارضة المصرية، ويكون الموضوع الأول للحوار ليس البحث فيمن أخطأ وما وزن أخطاء كل طرف، وإنما في الاتفاق على المبادئ والآليات التي تمنع تكرار هذه الأخطاء، أي الاتفاق على المعالم الرئيسية التي تعكس مطالب الشعب واحتياجاته في ظل الأوضاع الحالية. وأقصد بالمعالم المبادئ العليا والقيم الأساسية والأولويات الوطنية الكبرى. وأتصور أن هذه المعالم يجب أن تتصل بمسائل جوهرية، أهمها: نوع وأسس السلطات الديمقراطي ومبادئه وضماناته؛ العلاقات المدنية- العسكرية؛ علاقة الدين بالدولة؛ مبادئ العدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن أغلبية الشعب؛ ضمانات التعددية السياسية والحزبية والحريات والحقوق السياسية والمدنية.
ثانياً، هناك ضرورة ملحة للاتفاق على برنامج سياسي لتحالف أو تكتل وطني واسع من القوى السياسية التي تقبل بهذه المعالم، وتقبل بالعمل السياسي السلمي. وهنا يمكن اقتراح آليات محددة لهذا البرنامج. ففيما يخص الجزء الأول من المشترك الوطني، يمكن اقتراح نظام للعدالة الانتقالية، يكون مستقلاً تماماً عن السلطة التنفيذية، ويضم فرق عمل مهنية من المتخصصين لأجل تحقيق الأهداف الخمسة المتعارف عليها لهذا السلطات (كشف الحقيقة؛ وجبر الأضرار؛ والملاحقات القضائية؛ والمصالحة الوطنية؛ وإصلاح مؤسسات الدولة).
هل ستطلب المعارضة من السلطات الحالي فعل هذا؟
هناك مداخل كثيرة لهذا الأمر، وقد يكون التدرج من مقتضيات السياسة. فإذا رفض السلطات، وهو بلا شك سيرفض، تأتي الآلية الثانية لتحقيق المشترك الوطني، وهو اقتراح قيام مؤسسة حكم انتقالي في شكل حكومة وحدة وطنية من كافة القوى السياسية الرئيسية، أو حكومة تكنوقراط مدعومة من هذه القوى، تقوم باختيار جمعية تأسيسية تضع دستوراً انتقالياً صغيراً لفترة انتقالية من ثلاث سنوات مثلاً، يتم خلالها تقوية الأحزاب والمجتمع المدني والعمل النقابي، وتنتهي الفترة الانتقالية بدستور دائم وانتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية.
وفي هذه الأثناء لا بد من أمرين، الأول البحث دوماً عن شركاء من داخل منظومة الحكم ومن جنرالات الجيش، والترحيب دوماً بكل من يعارض سياسات السلطات أو يبدي أي استعداد لمصالحة وطنية، حتى لو كان من كبار مؤيدي السلطات في السابق. فتغيير ميزان القوة الذي أشرت له سابقاً يقتضي هذا. والسياسة في جوهرها هي فن الممكن وفن زعزعة جبهة الخصوم وتوسيع جبهة الأنصار.
والثاني تكثيف الحملات الحقوقية الأخرى، ودعم كل المبادرات التي تساعد في هذا المجال. مؤخراً حققت حملة "باطل" لجمع التوقيعات ضد التعديلات الدستورية الكثير من النجاح، حيث جمعت أكثر من ربع مليون توقيع في بضعة أيام، مما دفع السلطات إلى حجب مواقعها الإلكترونية ست مرات.
كما تشكل "المنبر المصري لحقوق الإنسان" الذي أعلن أنه يسعى إلى العمل مع "مختلف الأطراف السياسية والمدنية والحقوقية داخل وخارج مصر لطرح وبناء توافق واسع على حزمة من الإجراءات والبدائل لتأسيس مرجعية حقوقية للإصلاح السياسي في البلاد"، ونجح في عقد عدة فعاليات مهمة في واشنطن وباريس.
دعم هذه المبادرات أمر مهم للغاية، والتفكير في مبادرات أخرى صغيرة ودعمها أمر مطلوب، على أن تكون الغاية الكبرى والمشتركات الجامعة واضحة.
تتصاعد دعوات النزول للمشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية والتصويت بـ(لا)، فما رأيك في ذلك؟
تحدي السلطات عبر صناديق الاقتراع ممكن إذا قامت المعارضة بواجبها أولاً، أي إذا دخلت في الحوار الذي أشرت له، وتوافقت على المشتركات، ثم شكلت تحالفاً حزبياً، هنا يمكنها قيادة الشعب للتصويت بـ(لا) أو للمقاطعة بالكامل، أو حتى للتظاهر يوم الاقتراح نفسه. هذا ما حدث في تشيلي عام 1989، حيث ظهر تكتل بعد حوارات ومحاولات متعددة للتكتل، وانتصر في الاستفتاء، ثم استمر في التكتل ليفوز رئيسه في أول انتخابات حرة.
ما أقصده هو أن يكون هناك ترتيب واستعداد فالتصويت بـ(لا) أو المقاطعة يجب أن يكون ضمن برنامج سياسي وعلى يد تكتل قادر على قيادة الجماهير. ولهذا البديل الأنسب في ظل هذه الظروف هو رفض التعديلات ورفض المشاركة في الاستفتاء، وهو ما تفعله حملة "باطل" التي أشرت لها. لكن من المهم استثمار التوقيعات الحالية والبناء عليها بمواقف جديدة تصب في المشترك الوطني.
ما طبيعة خطاب هذه المعارضة وخاصة تجاه المكونات الداعمة للنظام في الداخل والخارج؟
لا مفر من أن يكون الخطاب منفتحاً على الجميع. يتطلب التركيز على هدف محوري (الانتهاكات والدستور الديمقراطي) استنهاض جميع فئات الشعب وعلى رأسها فئتا الشباب والعمال، لأنهما قاطرة أي تغيير حقيقي مستقبلي، وإقناعهما بأن هناك بديلاً وطنياً يمكن الاعتماد عليه لتحقيق الاستقرار والأمن، ولإرساء نظام يرفع الظلم ويحقق العدل ويحمي الحريات ويقيم دولة المؤسسات الديمقراطية والمحاسبة والشفافية.
الخطاب المطلوب خطاب يجمع ولا يُفرّق، ويعتمد لغة مطمئنة لجموع الشعب، بما في ذلك جموع المنتمين لمؤسسات الدولة في القضاء والجيش والشرطة. لا يمكن التعميم هنا ومعاداة الملايين داخل هذه المؤسسات، بسبب أن فئة من داخل كل مؤسسة تدعم السلطات. الخطاب لا بد أن يكون قادراً على استهداف العناصر الفاسدة فقط، وجذب من تخلوَّا عن دعم السلطات في أي وقت.
هدف التغيير المنشود لا بد أن يكون واضحاً وهو قيام نظام ديمقراطي حقيقي بقيمه ومبادئه وضماناته المتعارف عليها، وتقوية مؤسسات الدولة، ولاسيما القوات المسلحة، وتعزيز مهنيتها ونظم تدريبها وتسليحها وميزانياتها في الوقت ذاته. هذا ما تم في الدول التي نجحت في الانتقال الديمقراطي، حيث صارت جيوش دول مثل البرازيل وإسبانيا والبرتغال أقوى مما كانت عليه تحت الحكم العسكري.
ماذا عن الخارج، هناك دول تدعم بقاء الوضع الراهن، ما العمل معها؟
أي تغيير يبدأ من الداخل، وتمدد نفوذ قوى إقليمية ودولية في مصر له أسباب عديدة، لكن السبب الأساسي هو عدم وجود معارضة موحدة وتطويرها بديل سياسي قادر على إدارة البلاد.
وبالمناسبة أيدت أمريكا معظم الانقلابات في أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات، إلا أنها لاحقاً أيدت الحراك الديمقراطي ضد الحكام العسكريين، وكان السبب الأساسي هو وجود توافق حول الديمقراطية وقيام تحالفات حزبية ديمقراطية وتعبئة شعبية. حدث هذا في تشيلي والأرجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية وغيرها.
في حالة مصر، بعد ظهور البديل والمعارضة المنظمة والموحدة، سيكون الملف الأساسي الخارجي الذي يمكن للمعارضة أن تعمل فيه هو ملف التنسيق مع المنظمات الحقوقية والدولية المستقلة، لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في مصر والضغط من أجل أن تلتزم السلطة بالمواثيق والمعاهدات ذات الصلة.
أما فيما عدا ذلك فلا بد أن يركز خطاب المعارضة على المسألة المصرية في الداخل، ولا يفتح كل الملفات الخارجية مرة واحدة. هذا ما كتبناه من قبل للجمعية الوطنية للتغيير في 2010، وما كتبناه بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011. الأولوية الآن هي لتغيير طبيعة ممارسة السلطة في مصر بنزعها من الفئة المهيمنة وتمكين الشعب -عبر مؤسسات منتخبة- من ممارسة هذه السلطة على أسس مختلفة تماماً، تقوم على المشاركة وسيادة القانون وفصل السلطات ودولة المؤسسات والشفافية والمحاسبة.
وذلك على اعتبار أن قيام هذا النوع من الحكم هو المقدمة الطبيعية لتحقيق الأهداف الأخرى الأكبر. هذا النمط الجديد -السلطات الديمقراطي- هو وحده القادر على وضع المصالح الوطنية للمصريين بكافة فئاتهم وقطاعاتهم كركيزة للعمل السياسي، وعلى تمكين الخبرات والكفاءات المتوفرة في الداخل والخارج. والتركيز على هذا الهدف -باختلاف مضامينه من دولة إلى أخرى- هو ما حدث في تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة.
كيف يمكن تجاوز الانقسام والاستقطاب السياسي؟
انقسام المعارضين أمر متكرر في الحالات الأخرى، والتحديات المشتركة كانت دوماً هي المحفز لإعادة ترتيب الأوراق. هناك حالات شهدت مراجعات داخلية واعتذارات متبادلة، وأخرى شهدت وساطات خارجية. لكن العنصر المهم هو تخلي القوى والنخب السياسية عن النظرة الإقصائية، والاهتمام بالمشتركات وبالمستقبل وبضمانات عدم تكرار الصراعات أو الاستقواء بالجيش لحسم الاختلافات السياسية بين الأحزاب، هكذا يرى ماضي.
في الحالة الراهنة في مصر، يمكن الخروج من هذا الانقسام إذا وضعنا خلفنا ما تم قبل 16 أبريل/نيسان 2019، وتخلينا عن عادة "وزن الأخطاء" لدى الخصوم، ونظرنا إلى المستقبل لأجل بناء نظام سياسي بديل به من الضمانات والآليات ما يمنع تكرار ما حدث. هذا درس من أهم دروس الانتقال الديمقراطي الناجح.
على القوى السياسية أن تدرك أن النظام الديمقراطي ذاته هو في جوهره عملية تفاوض وحوار بين المختلفين في الرأي، وأن الإطار الدستوري والقانوني لأي نظام ديمقراطي -وأي وثائق أخرى مكتوبة بين الفرقاء السياسيين- هو في واقع الأمر أداة لإدارة عدم الثقة بين القوى السياسية وتحويل الصراعات السياسية الصفرية بينها إلى تنافس سياسي سلمي لأجل تحقيق المصلحة العامة.
هذا هو جوهر الديمقراطية ولهذا يتضمن النظام الديمقراطي آليات لحماية الحريات والحقوق، وآليات للتعددية وللتعبير عن المصالح والمطالب (أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني وأهلي)، وكيانات رسمية للنقاش والحوار والتشاور (المجالس البرلمانية والمحلية)، وآليات لفض المنازعات (قضاء مستقل) وآليات للرقابة والمتابعة (الأجهزة الرقابية المستقلة)، وقيم ومبادئ أخرى. وتتطلب الديمقراطية أيضاً حرية الإعلام، وشفافية المعلومات، واستقلال الجامعات وحرية البحث العلمي، واعتماد أي مشاريع اقتصادية على دراسات جدوى من متخصصين.
هذه أبجديات ضاعت عندنا وسط الحملات الأمنية، وخطاب الحرب على الإرهاب، وتخويف الناس من الحرية. ومن أجمل ما قرأت مؤخراً ما جاء على لسان أحد المدونين من أن الشعبين السوداني والجزائري لم يخافا من مصير العراق وسوريا وإنما من مصير مصر.
هل من حالات تجاوزت فيها القوى السياسية المختلفة خلافاتها والاستقطاب السياسي؟
نعم. لمن يعتقد أنه لا أمل في أن تعمل القوى السياسية المصرية (الإسلامية واليسارية والليبرالية) معاً من جديد، أسوق لهم هذه الأرقام:
– أول تكتل للمعارضين في تشيلي بعد انقلاب 1973 كان بعد 10 سنوات تقريباً، أي في عام 1983، وكانت محاولة فاشلة، وبعدها استمرت المحاولات حتى نجحوا في 1988 في تشكيل "ائتلاف الأحزاب من أجل الديمقراطية" من 11 حزباً من اليسار والوسط واليمين، بعد سنوات من اللوم المتبادل بين اليسار واليمين.
– ظهور التكتلات الحزبية في البرازيل تم بعد سنوات عدة من انقلاب 1965، وكان أهمها "الحركة الديمقراطية البرازيلية" التي تشكلت عام 1974.
– في إسبانيا كانت قوى اليسار واليمين متفرقة، إلا أن البلاد شهدت تكتل الاشتراكيين في حزب واحد، وتكتل اليمين في حزب آخر. ثم تحالف الشيوعيون مع الاشتراكيين أثناء التفاوض مع السلطات.
– في جنوب إفريقيا عام 1986، اندمجت عدة منظمات وحركات (بلغ عددها نحو 600) لتشكّل ما عُرف بـ "الجبهة الديمقراطية الموحدة". ولم يكن التفاوض مع السلطات العنصري مع النخب، وإنما مع ممثلين للفئات الدنيا والمحرومة من العمل السياسي، مثل العمال والعاطلين عن العمل وعدد من المنظمات والحركات الأخرى بقيادة حزب المؤتمر. وكان رئيس اتّحاد عمال المناجم هو المفاوض الأساسي الذي يمثل حزب المؤتمر والجبهة.
أخيراً أقول إن العمل في جزر منعزلة، أو اعتقاد كل فريق أنه بمفرده يعرف مصلحة مصر وأنه القادر على إخراجها من أزمتها لن يصب إلا في مصلحة الإبقاء على الوضع الراهن، وإطالة عمر السلطات، ومن ثم المساهمة بلا قصد في تعميق الأزمة.