بعد بيان عن خارطة طريق لحل الأزمة في البلاد، خرج وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف على التلفزيون الرسمي، الخميس 11 أبريل/نيسان 2019، أعلن فيه "اقتلاع النظام"، والتحفظ على رئيس البلاد عمر البشير "في مكان آمن".
كما أعلن ابن عوف تعطيل الدستور وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، وتشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية، مدتها عامان، تجرى في نهايتها انتخابات.
وقال إنه تقرَّر إغلاق المجال الجوي لمدة 24 ساعة، وإغلاق المعابر الحدودية لحين إشعار آخر، وكذلك حل المجلس الوطني ومجالس الولايات.
كما أعلن الوزير وقف إطلاق النار الشامل في جميع ربوع البلاد.
هذه الخطوة التي قام بها وزير الدفاع لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت عقب مشاورات ومداولات تمت داخل قيادة المؤسسة العسكرية، لحل الأزمة التي قارب على 4 أشهر منذ انطلاق التظاهرات الرافضة لحكم الرئيس عمر البشير.
لكن التوقيت الذي خرجت فيه هذه القرارات لم يكن محدداً، والطريقة التي ظهر بها بيان البيان العسكري الذي ألقاه ابن عوف لم تكن معروفة، في ظل التطورات السريعة التي مرَّت بها البلاد خلال الليلة الماضية، التي حدثت طبقاً للاحتمال الآتي:
انقلاب على الانقلاب
بحسب مصادر سودانية فإن قرارت وزير الدفاع جاءت بعد اكتشاف محاولة انقلاب قادها 130 ضابطاً من القيادات الوسيطة في الجيش، للإطاحة برأس المؤسسة العسكرية والرئيس البشير، لكن القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية رصدت هذه المحاولة وأوقفتها، وحاولت الوصول إلى حل لإنهاء هذه الأزمة.
المصادر كشفت أن قيادات المؤسسة العسكرية بقيادة ابن عوف تحركت من أجل حسم القصة، ووضع حد للأزمة التي وصلت إلى ذروتها، دون أن تقلب الطاولة على الجميع، ولذلك تم تأخير البيان العسكري الذي أعلن عنه صباح اليوم.
فالخطوة التي كانت تخطط لها بعض القيادات الوسيطة في المؤسسة العسكرية فشلت في اللحظات الأخيرة، قبل إعلان البيان قبل أن تتدخل القيادة العامة وتحسم الأمر لصالحها في غضون ساعات قليلة، والذي تحولت فيه من موقف الدفاع إلى الهجوم، والحسم ضد محاولة التململ الصغيرة.
المصادر نفسها قالت إن وزير الدفاع أبلغ البشير بمحاولة الانقلاب التي تمت السيطرة عليها، وأخبره بحسم الأمر، وهو ما يعني غياب البشير عن المشهد، وهو ما وافق عليه الرئيس السوداني أو أُجبر عليه بمعنى أكثر وضوحاً، قبل أن يخسر الجميع، خاصة في ظل الحديث عن وقوف قوى إقليمية وراء محاولة الانقلاب الأولى التي فشلت مساء الأربعاء.
وفي بيان منسوب لقائد عسكري سوداني يدعى علاء الدين عبدالله محمد أطلق على نفسه الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الانتقالي عزل فيه الرئيس السوداني وأعلن عن تشكيل المجلس الانتقالي.
هذا الاحتمال قد يكون الأقرب إلى الصحة، في ظل حالة الضبابية التي بقي عليها المشهد خلال الساعات الماضية، وأن الأمر حسم بالشكل الذي يضمن بقاء البلاد في حالة استقرار، وفي نفس الوقت إرضاء الشارع بهذه الطريقة، وأن هدفهم قد تحقق في الإطاحة بالبشير.
ولعل الصيغة التي كُتب بها البيان العسكري تشير إلى ذلك، خاصة تلك المفردات التي تتحدث عن استئصال رأس النظام والقبض عليه، في إشارة إلى البشير، فيما قد يلبي هذا الأمر طموحات المتظاهرين.
ضغط الشارع
ثمة احتمال آخر، وهو تفادي الضغط الكبير الذي يقوم به الشارع تجاه الرئيس السوداني، لاسيما بعد مرور أكثر من 4 أشهر على التظاهرات التي تطالب بإزاحة البشير، فيما حاول الرئيس السوداني الالتفاف عليها عبر عدة إجراءات، منها تعيين ابن عوف على رأس المؤسسة العسكرية.
فقبل عدة أشهر، ومع وصول التظاهرات إلى مرحلة حرجة، حاول البشير امتصاص غضب المتظاهرين بإجراء عدة تغييرات هامة في شكل مؤسسات الدولة الهامة، وعلى رأسها الحزب الحاكم ووزارة الدفاع، من أجل تهدئة الشارع، ولعل الأمر كان ليس ذلك فقط، بل أيضاً ضمان انتقال سلس للسلطة، دون محاسبة البشير داخلياً أو تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية.
لكن مع زيادة التظاهرات داخلياً، عقب استقالة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، وانتفاض الشعب الجزائري، عادت روح التغيير إلى السودان مرة أخرى، ومن ثم تصاعدت المطالب مرة أخرى في السودان، وكان لا بد من حدوث تنازل من قِبَل البشير والمؤسسة العسكرية، وهو ما حدث، فربما قد يكون هذا هو السبب وراء التحرك العسكري ضد الرئيس السوداني، الذي حتى الآن لا يعرف أحدٌ مكانه، أو ماذا سيحدث معه.
ولعلَّ ردودَ الفعل الداخلية على البيان العسكري تشير إلى أن المتظاهرين لن يقبلوا بهذه الخطوة، التي يعتبرونها التفافاً على مطالب الشعب.
إذ قال مصدر في تجمُّع المهنيين السودانيين، إن التجمع رفض الخميس 11 أبريل/نيسان 2019، بياناً تلاه وزير الدفاع، معلناً فيه عن فترة انتقالية مدتها عامان بقيادة مجلس عسكري.
وذكر المصدر أن التجمع دعا المحتجين أيضاً لمواصلة الاعتصام، وأضاف: "ندعو الثوار لمواصلة الاعتصام… بيان ابن عوف استنساخ جديد لنظام الإنقاذ… نرفض البيان بصورة كاملة".
وأعلن تجمع المهنيين وتحالفات المعارضة، الخميس 11 أبريل/نيسان 2019، رفضهم لأي "انقلاب عسكري" جديد يعيد إنتاج أزمات السودان.
وقال في بيانٍ مشتركٍ صادرٍ عن التجمع وتحالفات أحزاب "نداء السودان" و "الإجماع الوطني" و "التجمع الاتحادي الديمقراطي" إنه "لا يمكن حل الأزمة من خلال انقلاب عسكري".
وأضاف البيان أن "حكم عمر البشير جاء بانقلاب عام 1989، وهو سبب الأزمة المزمنة للسياسة السودانية".
وأفاد أنه "لا حلَّ للأزمة سوى بتسليم السلطة لحكومة مدنية، يتم التوافق عليها وفق ميثاق إعلان الحرية والتغيير".
وشدَّد على استمرار الاعتصام حتى تحقيق أهداف الثورة المنشودة.
الخوف من التدخل الخارجي
مع استمرار التظاهرات ومجابهتها من قبل الأجهزة الأمنية السودانية، ظهرت تصريحات رسمية تشير إلى أن هناك أجهزة وجيوشاً خارجية تحاول الانقضاض على البلاد، في حال خلو منصب الرئيس أو انزلاق البلاد إلى الفوضى.
ومن ذلك التصريح المثير الذي قاله رئيس الاستخبارات صلاح قوش، قبل أسابيع، خلال مخاطبته حفل تخريج الدفعة "42" من ضباط الجهاز، "هناك خمسة جيوش تتأهب لاقتحام الخرطوم وتنتظر ساعة الصفر لتتقدّم نحوها، بعد إشغالها بالفوضى وأعمال السلب والقتل، وذلك حتى لا تجد من يقاومها".
وقال مدير المخابرات السوداني إن "دخول القوى الشريرة إلى الاحتجاجات ومحاولة توظيفها فتح الباب للتخريب والفوضى، تبع ذلك تداعيات مؤلمة.
واتهم قوش اليسار والحركات المتمردة بالسعي لتسلم السلطة، لبدء العهد الذي انتظروه طويلاً وتطبيق مشروع السودان الجديد، مشيراً إلى ارتباط مصالح بعض القوى السياسية (لم يسمّها) بالدوائر الخارجية، ومحاولة الهجرة اليومية إلى سفاراتها.
وتابع: "إننا نرصد كل ذلك، ومحاولة بنائهم أرضية للخنوع للقوى الخارجية والتبعية لها، مما يدفع باتجاه سلب القرار الوطني وإرادته الحرة".
هذه التصريحات التي صدمت بعض السودانيين حينَها قد تكون وراء هذا التدخل العسكري الأخير؛ خوفاً من دخول البلاد في حالة الفوضى إذا ما استمر الوضع السياسي كما هو، أو خرجت البلاد عن السيطرة إذا ما تحولت التظاهرات السلمية إلى حركات مسلحة تدمر ما تبقَّى من السودان.
هذا الاحتمال رغم ضعفه فإنه قد يكون جزءاً من عملية التغيير السياسي التي حدثت اليوم، خاصة في ظلّ حالة الفوضى التي تمر بها بعض البلدان المجاورة، مثل ليبيا أو سوريا أو اليمن، عقب الدور القوي الذي لعبته دولٌ مجاورة في زعزعة الاستقرار بها.