"لا شيء أجمل من أن يعود الإنسان إلى وطنه بعد غياب لسنوات عنه"، هكذا نقلت مجلة Foreign Policy الأمريكية عن ميكا سبانغلر، الذي يعمل بـUnited Nations Foundation، إحساسه حين كانت مجموعة من اللاجئين السوريين تقترب من حدود البلاد مع الأردن، وهي متجهة إلى سوريا بعد 8 سنوات من الحرب.
وقال سبانغلر: "خمسة وثمانون متراً، سوريا على بُعد خمسة وثمانين متراً من ذلك الطريق"، قالها الرجل الذي يرتدي زياً عسكرياً وهو يشير لنا باتجاه الشمال إلى طريق مرصوف صغير أمامنا.
وبحسب سبانغلر بالنسبة إلى أي شخص تقريباً فإن التفكير في السير لمسافة أقل بقليل من نصف طول ملعب كرة القدم، والدخول في قلب إحدى أكثر الأزمات الإنسانية المأساوية في العالم يُعتبر أمراً لا يمكن تصوره على الإطلاق، لكن بالنسبة إلى عشرات العائلات السورية التي قابلتها عند معبر جابر الحدودي بالأردن، في صباح يوم مشمس منذ بضعة أسابيع، كانت هذه هي الفرصة التي طال انتظارها.
عودة الناجين من الحرب
وكانت العائلات قد شقَّت طريقها إلى الحدود السورية، قادمةً من العاصمة الأردنية عمَّان، من مخيمَي الزعتري والأزرق للاجئين، حيث عاش هؤلاء اللاجئون منذ أن دفعتهم الحرب في سوريا إلى الفرار حفاظاً على أرواحهم. إنهم المحظوظون الناجون من حربٍ أسفرت عن مقتل أكثر من نصف مليون شخص، واندلعت منذ ثماني سنوات مريرة، بحسب المجلة الأمريكية.
وخلال هذه السنوات الثماني، ساعدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بالتعاون مع الحكومتين الأمريكية والأردنية، في الحفاظ على آمال ضحايا هذه المأساة الكارثية. من خلال توفير المأوى والرعاية الطبية والغذاء والمساعدات المالية، حافظت الأمم المتحدة وعمَّان على سلامة اللاجئين السوريين حتى يأتي اليوم الذي يتمكنون فيه من العودة إلى وطنهم.
بالنسبة إلى شخص غريب فإن اتخاذ قرار العودة إلى سوريا يبدو خياراً صعباً للغاية، وربما مستحيلاً، لكنه خيار متروك للسوريين أنفسهم، وبعضهم مستعدون لتجربة حظهم.
قبل بضعة أشهر فقط لم يكن لديهم هذا الخيار، لكن في أواخر عام 2018 أعلن الأردن أنه سيعيد فتح معبر حدودي واحد مع جارته الشمالية التي مزَّقتها الحرب. وبعد إغلاقه منذ عام 2015، أتاحت إعادة فتح هذا المعبر الحدودي إمكانية تدفق البضائع والأشخاص مرة أخرى بين البلدين، وعودة الأمور لطبيعتها ولو بشكل ضئيل، في هذا المعبر الذي كان في يوم من الأيام ينبض بالحركة، بحسب المجلة الأمريكية.
منذ إعادة فتح المعبر قرَّر نحو 15 ألف شخص الاستفادة من هذه الفرصة، واكتشاف طبيعة الحياة التي تنتظرهم على الجانب الآخر. وهذه ليست سوى شريحة صغيرة من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 600 ألف لاجئ، المسجلين في مفوضية اللاجئين بالأردن.
وتابع سبانغلر: عندما زرت معبر جابر الحدودي، الشهر الماضي، مع أول وفد أمريكي يزور المعبر منذ إعادة فتحه، لاحظتُ تفاؤلاً مصحوباً بحذر في نفوس المئة شخصٍ أو نحو ذلك، الذين وصلوا، لا يبقى أمامهم سوى خطوات قليلة أخيرة تفصلهم عن نزاعٍ أجبر ما يقرب من 5 ملايين من أبناء وطنهم على الفرار؛ بحثاً عن الأمان في الأردن ولبنان وتركيا وغيرها.
المشهد داخل المعبر
داخل المعبر الحدودي اصطفَّ طابور من الرجال بأدبٍ أمام مكتب مخصص لهم فقط، وهم يمسكون بالأوراق الخاصة باللاجئين المسجلين لدى مفوضية اللاجئين، التي جاءت لإنقاذ حياتهم. وخارج المعبر، كانت عائلاتهم تنتظر عودتهم في ثلاث حافلات بيضاء اللون، بحسب المجلة الأمريكية.
كانت نوافذ الحافلات ممتلئة بوجوه الأطفال المبتسمة والسعيدة، وكان بعضهم يتحدث القليل من الإنجليزية، وكان آخرون يتواصلون من خلال الاستعانة بمترجم. أخبرني صبي ذو شعر أحمر ولديه بعض النمش على وجنتيه، أن اسمه حمزة، وأنه يبلغ من العمر 7 سنوات. فرَّ حمزة من سوريا مع والديه عندما كان طفلاً صغيراً، أو ربما كان أصغر من ذلك.
واستكمل سبانغلر: وفي أثناء تجاذبنا أطراف الحديث غادر رفاق حمزة الحافلة، وبدأوا استكشاف المعبر المفتوح، شقَّت فتاة صغيرة ذات شعر بني طويل، ترتدي سترة فضفاضة وحذاءً طويلاً رغم الطقس الدافئ طريقها، وتجوَّلت في المكان بحماس قائلةً: "مرحباً أمريكا!"، ثم مدَّت يدها لأعضاء الوفد مرحبةً بهم.
خلفنا كانت هناك سيارة صغيرة محملة بما كان يبدو معدات غرفة معيشة كاملة، كانت المفروشات والبطانيات مرصوصة بارتفاع يصل إلى ضعف ارتفاع السيارة.
ثم سرعان ما خرج الرجال من المعبر الحدودي، وتحدَّث الوفد الأمريكي مع اثنين منهم، إذ أعربا عن آمالهما في عودة الحياة إلى طبيعتها، وكرَّرا شكرهما للأمم المتحدة والأردن على استضافتهما. وبينما توقف الرجلان المهذبان عن الحديث قليلاً للتفكير في مدى قربهما من إتمام رحلة استغرق التحضير لها سنوات، قدم لهم أحد المسؤولين بعض كلمات الدعم والثقة باللغة العربية.
وبحسب سبانغلر عاد جميع اللاجئين إلى الحافلات، وبدأت المحركات في العمل. وبعد ذلك بدقيقة أو دقيقتين، نظر أحد موظفي مفوضية اللاجئين الذي كان جالساً بجانبي إلى هاتفه قائلاً: "حسنًا… إنهم في سوريا"، ثم أراني شاشة هاتفه، وأضاف: "لقد أرسلوا هذا لي للتو".
عادوا لكن البلاد ليست كما كانت
كانت صورة للجانب السوري من الحدود تُظهر راية حكومية تحيط نقطتي تفتيش صغيرتين. علقت الصورة في ذهني، حتى بعد أن أبعد الرجل هاتفه، إذ كان المكان قريباً للغاية أمامنا فحسب، لكنه بدا بعيداً وكأنه على الجانب الآخر من العالم.
تحوم الشكوك حول الحياة التي تنتظر هؤلاء اللاجئين السابقين والعائدين الذين سيلحقون بهم، وفي حين يدعو النظام السوري مواطنيه للعودة صراحةً، فإن جذور الصراع لم تُقتلع بعد. ورغم هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فإنه بالتأكيد لم يُقهر. لهذه الأسباب وغيرها، فإن الغالبية العظمى من السوريين الذين فرّوا باتجاه الجنوب سيبقون على الأرجح في الأردن مستقبلاً، غير متأكدين ما إذا كانت مقترحات النظام ستؤدي إلى أي إصلاح ذي مغزى، وتساورهم شكوك بالغة بشأن الفرص الاقتصادية المتبقية لهم في بلدٍ انقلبت أوضاعه رأساً على عقبٍ.
ومع ذلك، وللمرة الأولى منذ وقت طويل، شهد حمزة وعائلته الذكرى السنوية الثامنة لاندلاع الحرب الأهلية السورية في بلاده، المكان الذي لم تنقطع رغبتهم في العودة إليه قط. إنها ليست مناسبة سيحتفلون بها على الأرجح، لكن ما زال هناك شيء يبعث الفرح. إنهم في وطنهم الآن، ومن الممكن أن ينتهي الكابوس الذي عاشوا فيه ثماني سنوات أخيراً.