دون إنذار مسبق أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر المسيطِر على مساحات كبيرة من ليبيا التحرُّك غرباً من أجل إخضاع مدن هامة مثل العاصمة طرابلس له بحجة القضاء على الميليشيات "الإرهابية" في إشارة إلى قوات تدعمها حكومة الوفاق، بقيادة فايز السراج المعترف به دولياً.
حفتر أعلن الخميس عن إطلاق عملية عسكرية لاقتحام العاصمة طرابلس، قبيل 10 أيام من انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الجامع بمدينة غدامس (جنوب غرب)، تحت رعاية أممية، مما أثار استنكاراً محلياً ودولياً واسعاً.
حتى الآن تتضارب الروايات حول مَن له الغلبة ففي الوقت الذي يزعم فيه حفتر بأنه سيطر على بوابة أمنية هامة في منطقة الزاوية غرب طرابلس، قال مصدر أمني تابع للحرس الرئاسي بحكومة السراج، الجمعة 5 أبريل/نيسان، إنه استعاد السيطرة على البوابة، ليس هذا فقط بل وأسر 20 جندياً من قوات خليفة حفتر.
لماذا شنَّ حفتر هذه العملية؟
هذه التطورات الهامة التي تشهدها ليبيا تثير عدة تساؤلات عن السبب وراء سيطرة حفتر على طرابلس، ولماذا الآن بالتحديد؟ وما هو الموقف الدولي من هذه التحركات؟
منذ بروز حفتر على الساحة السياسية الليبية عقب الإطاحة بالزعيم الراحل معمر القذافي، ويحاول الرجل أن يكون هو البديل السياسي والعسكري الهام في البلاد، ويريد أن يصبح العنوان الوحيد للجماهرية، بعيداً عن فكرة الميليشيات العسكرية التي توحَّدت على الإطاحة بالقذافي، لكنها تقاتلت فيما بعد.
رغبة حفتر بلعب دور الرجل القوي عقب رحيل القذافي، وتقديم نفسه على أنه رأس حربة الثورة المضادة في ليبيا التقت مع رغبات إقليمية هدفت إلى وأد الثورات العربية في مهدها، خوفاً من انتقال حمى التغيير إليها، مثل الإمارات والسعودية ثم انضمت إليهما مصر عقب الانقلاب العسكري عام 2013 وقدوم الرئيس عبدالفتاح السيسي بعدها بعام.
فمن هذا المنطلق جاء الدعم العربي والإقليمي لحفتر من أجل إخضاع البلد النفطي بالكامل تحت السيطرة، في نفس الوقت الذي يكافح فيه فايز السراج رئيس حكومة الوفاق للملمة شتات البلاد، لكن يبدو أن السراج ليس الرجل الأمثل للداعمين الإقليميين؛ بسبب موقفه من المعارك التي كان يقودها حفتر قبل أشهر ضد الفصائل المسلحة وسط ليبيا، عقب القضاء على عناصر داعش في سرت، فيما يرى حفتر أن هذه الفصائل لا تختلف كثيراً عن داعش.
يحاول الآن حفتر فرض أمر واقع غرب وجنوب البلاد، في ظل غفلة دولية ودعم إقليمي حتى يحقق هدفه بالسيطرة على العاصمة، وينصب نفسه رئيساً للبلاد بعيداً عن العملية السياسية التي باتت في مهب الريح عقب هذه التحركات.
وقال المحلل السياسي الليبي الدكتور نزار كريكش لـ "عربي بوست" إن حفتر يريد إخضاع البلاد بالكامل تحت سيطرته؛ ليحقق أجندة بعض الدول الإقليمية التي ترى وجود قوات غير قوات حفتر المدعوم من هذه الدول يمثل خطراً على مشروعهم الذي يهدف بالأساس إلى القضاء على الثورة الليبية، والعودة إلى ما قبل رحيل القذافي.
أما المحلل السياسي التونسي الأمين بوعزيزي فاعتبر أن عُقدة الهزيمة والأسر زمن حرب تشاد 1977 هي التي تقود حفتر إلى هذه المعارك؛ إذ يحاول الجنرال المتقاعد التعويض عن ذلك تحت "وَهْم" تجميع ميليشيات على قاعدة المناطقية والقبلية مضافاً لها عناصر السلفية المدخلية المعادية لثورات الشعوب على الحكام المستبدين، بدعوى عدم جواز الخروج على أولي الأمر.
وأضاف بوعزيزي: يضع حفتر نفسه مخلباً وظيفياً لكل القوى الدولية والإقليمية المعادية لموجة الثورات العربية مثل الإمارات التي تتذرع بمحاربة تيارات ما الإسلام السياسي، وروسيا التي تباهت صراحة بكسر ظهر ما سمّته "الثورات البرتقالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، وفرنسا المعنية بنفط ليبيا وصراعها مع إيطاليا حول ذلك.
لماذا التحركات الآن؟
للتوقيت دلالات مهمة، خاصة فيما يجري الآن في الجزائر، وكذلك الاجتماع الأممي المهم الذي كان من المتوقع أن يتم برعاية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
وبحسب البوعزيزي، فإنَّ تحرُّك حفتر في هذا التوقيت يأتي بالتزامن مع ما يحدث في الجزائر، وانشغال جيشها بالداخل، خصوصاً أنه رافضٌ مطلقاً لتحركات حفتر في الغرب الليبي، وهو أمر يعتبره جيش الجزائر مسّاً بالأمن القومي لبلدهم.
وأضاف البوعزيزي أن حفتر وجدها فرصة مواتية لإفشال أي تفاهمات سياسية في ليبيا تدفع نحو إرساء حياة سياسية مدنية تقطع مع أجواء الحرب الأهلية المدمرة. لذلك هو منزعج من عقد الملتقى الجامع الذي دعت إليه الأمم المتحدة؛ ومن ثم فإن تحرّكه يهدف إلى كسب نقاط سياسية بلغة السلاح.
أما نزار كريكش، فلا يرى ربطاً بين ما يحدث في الجزائر وتحركات حفتر، لكنه يرى أن حفتر يحاول كسب الوقت وتحقيق نجاحات على الأرض دون اللجوء إلى الحل السياسي، الذي يعتبر فيه أن السراج طرف ضعيف رغم الاعتراف الأممي به؛ ومن ثم لا بد من فرض أمر واقع على الأوضاع في ليبيا يخدم أجندة حفتر.
ما موقف الدول الإقليمية والدولية؟
لعل المتابع للوضع في ليبيا يجد أن حفتر أجرى عدة مقابلات مهمة خارج ليبيا قبل هذه المعركة، في نهاية مارس/آذار 2019، أهمها الزيارة المهمة للمملكة العربية السعودية والتي تعد الأولى له بشكل علني. لكن حفتر من وراء هذه الخطوة، يحاول الحصول على الضوء الأخضر لهذه المعركة، خاصة في الوقت الذي يدعم فيه وليُّ العهد، محمد بن سلمان، التحركات المناهضة لجماعات الإسلام السياسي.
كذلك من الأمور التي أثارت التساؤلات حول جدية الموقف الدولي من هذه التحركات، اندلاع هذه المواجهات في الوقت الذي يزور فيه المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، البلاد، حتى تصريحات غوتيريش لم تُدِن حفتر بشكل مباشر، بل طالبت من كل الفصائل المسلحة بضبط النفس.
كذلك، التصريحات التي خرجت من كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والإمارات بمحاسبة أي فصيل سيؤجج نزاعاً أهلياً في ليبيا، والتي دعت كل الأطراف إلى وقف التصعيد، لم تكن تحث حفتر على وقف الزحف، لكنها جاءت في سياق غض الطرف.
هذه التصريحات الرسمية تتفق مع ما يقوله البوعزيزي، الذي يرى أن الدول الغربية ليست معنيَّة بمعركة الديمقراطية ومناهضة الاستبداد التي تخوضها شعوب المنطقة العربية ضد حكامها؛ وإنما كل همِّها تأمين حدودها الجنوبية من تدفق موجة الهجرات البحرية.
واعتبر البوعزيزي أن هذه الدول تعبر كلامياً عن قلقها من زحف حفتر نحو العاصمة طرابلس، لكنَّ قلبها معه لو نجح في مغامراته، لأنها تتطلع إلى حاكم قوي يقوم بدور الشرطي، ليؤمّن حدودها من السيول البشرية المتدفقة ويؤمن تدفق النفط الليبي نحو مصانعها. وهو الوتر الذي يعزف عليه اللواء حفتر، الذي يزعم أن الشعب الليبي يتطلع إلى قائد عسكري قوي، في تنكُّر فاضح لثورة شعبه ضد نظام عسكري أذلَّه عقوداً.
أيضاً يتفق المحلل السياسي الليبي نزار كريكش مع هذا الطرح، ويرى أن الكلام المعسول لحفتر بشأن العملية السياسية لم يكن إلا واجهة لتغيير الأوضاع على الأرض بقوة السلاح، وليس اللجوء إلى العملية السياسية؛ ومن ثم كل ما يتم الحديث عنه سياسياً ليس له أي معنى مع العملية العسكرية التي ينفذها حفتر.