بعدما استولى خليفة حفتر، الذي يعمل مع الحكومة الموجودة في شرقي ليبيا، على مساحاتٍ شاسعة في جنوب ليبيا ومنشأتين رئيسيتين للنفط في وقتٍ سابق من العام الجاري، سحب قوات قوات حفتر من الجنوب باتجاه غربي ليبيا، في خطوةٍ يعتبرها كثيرون تمهيداً لهجومٍ على العاصمة الليبية طرابلس.
وبحسب موقع Middle East Eye البريطاني، دفع حشد قوات قوات حفتر جنوب مدينة سرت في الأسابيع الأخيرة فصائلَ كانت تلتزم الصمت في مدنٍ ليبية أخرى، في غربي البلد، إلى التعهُّد علناً بدعم حفتر، مما يهدد طرابلس من عدة اتجاهات.
ومع أنَّ المجتمع الدولي ما زال يحاول التوسُّط من أجل التوصُّل إلى حلٍّ سلمي، فإنَّ قوات طرابلس تستعد للدفاع عن العاصمة.
إذ شوهدت يوم الأربعاء الماضي 27 مارس/آذار 2019، قافلةٌ مكوَّنة من حوالي 100 مركبة عسكرية متجهة خارج العاصمة على الطريق المؤدي إلى مدينة ترهونة، وفقاً لما ذكره أحمد، أحد السكان المحليين للموقع البريطاني، الذي تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته.
وقال أحمد: "كانت هناك حوالي 100 مركبة. وقد كانت المركبات تابعة لإحدى الميليشيات وليس للجيش، لكنني لا أعرف أي ميليشيا بالتحديد".
قوات داعمة لحكومة الوفاق
جديرٌ بالذكر أنَّ معظم ميليشيات طرابلس حالياً تدعم حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة، ويقع مقرها في العاصمة. وكذلك تحظى تلك الحكومة بدعم قوات البنيان المرصوص، التي ينتمي معظم قياداتها إلى مدينة مصراتة، التي تُواصل تأمين مدينة سرت بعدما قادت معركة هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هناك، في عام 2016، وتعتبر حفتر عدواً قديماً.
هذا، وقد صرَّح اللواء محمد الغصري، المتحدث باسم قوات البنيان المرصوص، بأنَّ أي توغُّلٍ لقوات حفتر المسماه بالجيش الليبي الوطني في سرت سيُعامل على أنَّه إعلان حرب.
وقال متحدثاً إلى موقع Middle East Eye البريطاني: "قوات البنيان المرصوص وكل مدينة مصراتة يقفان مع حكومة الوفاق الوطني. نحن دائماً على استعدادٍ لمحاربة أي عدوان محتمل في سرت، ولم نخفض حالة التأهب، أو نقلل من إجراءتنا الواجبة لتوفير الأمن والمراقبة هناك منذ عام 2016".
وقال الغصري إنَّه لم يجرِ إرسال قواتٍ تعزيزية إلى سرت حتى الآن، لكنه أكد أنَّ مصراتة لديها ما يكفي من القوات للدفاع عن أراضيها الحالية، بما في ذلك طريقٌ ساحلي سريع طوله 250 كيلومتراً.
طرابلس مهددة من الشرق والغرب
وبعد التقدمات التي أحرزتها قوات حفتر في الجنوب العام الجاري، سحب حفتر معظمها نحو سرت، في خطوةٍ يعتبرها كثيرون تمهيداً لهجومٍ على طرابلس في نهاية المطاف.
وقال أحد المقاتلين في قوات حفتر من موقعٍ عسكري بين مدينتي سبها وسرت، لموقع Middle East Eye في وقتٍ سابق من الأسبوع الجاري، شريطة عدم الكشف عن هويته: "إننا مستعدون للاستيلاء على سرت، وقادرون على ذلك، ونحن في انتظار أوامر بالتقدم".
ومع ذلك، ذكر مُقاتلٌ من قوات البنيان المرصوص التابعة لحكومة الوفاق، يُدعى حسن، ويحرس نقطة تفتيش استراتيجية في قرية أبو جرين، التي تقع على بعد 100 كيلومتر من مصراتة و150 كيلومتراً من سرت، أثناء حديثة إلى موقع Middle East Eye أنَّ التهديد بدخول سرت مجرَّد تمويه لتشتيت الانتباه. وأكَّد أنَّ هناك تهديداً أكبر تُشكِّله تحركات قوات حفتر باتجاه مدينتي ترهونة وبني وليد الريفيتين حيث يحظى حفتر بدعمٍ أيديولوجي كبير.
وقال: "نعم، ربما سينجح حفتر في الاستيلاء على طرابلس، لكن ليس بهذه القوات المتحركة من الشرق، بل بقواتٍ من غربي ليبيا".
وأضاف: "أنا غير راضٍ عن فهم حكومة الوفاق الوطني للوضع الحالي. ما نتوقعه هنا هو أنَّ جيش حفتر سيبقينا مشغولين بقتالٍ بسيط حول سرت، حتى لا نستطيع المساعدة في الدفاع عن طرابلس، التي ستستولي عليها العمليات العسكرية لقواته القادمة من غربي ليبيا".
ويمتلك حفتر قاعدة دعم متنامية في جميع أنحاء غربي ليبيا، من البلدات التي تشعر بخيبة أمل إزاء الفوضى التي أعقبت عام 2011، وحكومة الوفاق الوطني التي فشلت، على مدى ثلاث سنوات، في إحداث تأثيرٍ كبير في مناطق أخرى غير العاصمة.
دعمٌ متزايد لقوات حفتر في غربي ليبيا
مع أنَّ إحدى الميليشيات الرئيسية في ترهونة تقف على ما يبدو إلى جانب جيش حفتر للوصول إلى المدينة، فقوات حفتر ستحتاج إلى المرور عبر مدينة بني وليد، التي تعد منطقةً محظورة على أي قوات حكومية منذ صراعٍ أهلي قصير دموي اندلع بينها وبين مصراتة في عام 2012.
وتعمل المدينة الآن باعتبارها كياناً مستقلاً إلى حدٍّ كبير، وتعد معقلاً للمشاعر المؤيدة للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وترفع بحُريِّةٍ العلم الأخضر الذي مثَّل ليبيا طوال 42 سنة. وصحيحٌ أنَّ ولاءها الحالي ما زال غير واضح، لكنَّ بني وليد تنأى بنفسها منذ فترةٍ طويلة عن أي سلطات يقع مقرها في طرابلس، ومن المرجح أن تنحاز إلى أي قواتٍ ضد مصراتة.
وبينما تتجه قوات إحدى ميليشيات طرابلس إلى ترهونة، في أقصى الغرب، تتعزز قاعدة دعم حفتر. ففي الأسبوعين الماضيين، تعهَّد المجلس العسكري لمدينة الزنتان الجبلية بدعم قوات حفتر، مع أنَّ العديد من الزنتانيين الكبار والميليشيات المرتبطة بهم ما زالوا متحالفين مع حكومة الوفاق الوطني.
ومدينة الزنتان متحالفة في الماضي مع قوات حفتر حتى تدهورت العلاقة بينهما في وقتٍ مبكر من العام الماضي 2018، وهي مشهورة بالقبض على سيف الإسلام القذافي في عام 2011، واحتجازه في السجن ست سنوات، مع تجاهل مساعي المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب، قبل إطلاق سراحه أخيراً في أواخر عام 2017.
وكذلك تتمتع قوات حفتر بالسيطرة الكاملة على قاعدة الوطية الجوية العسكرية، الواقعة غربي طرابلس، وذلك بفضل تغلُّب الزنتان على مصراتة في نزاعٍ على القاعدة في عام 2015.
وتعهَّدت أيضاً مدينة الرجبان الجبلية القوية التي شاركت في الثورة، ومدينة صرمان الصغيرة، الواقعة على بعد 60 كيلومتراً غربي طرابلس، بدعم قوات حفتر.
ومع أنَّ ولاءات مثل هذه المدن الصغيرة قد تبدو للمراقبين الخارجيين غير مهمة، فإنَّ وجود شبكة قوية من الدعم المحلي والقَبَلي يُعَد أمراً أساسياً لنجاح حفتر المحتمل في الاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي في غربي ليبيا، وأمراً حاسماً لأي تقدُّم نحو العاصمة، بحسب الموقع البريطاني.
وكذلك تتمتع الحكومة الموجودة في شرقي ليبيا وقوات حفتر بقواعد دعمٍ صغيرة داخل العاصمة، تشمل مناطق تعرَّضت لقمعٍ وحشيٍّ على يد حكومٍة سابقة في طرابلس في عام 2015، لأنها عبرت عن دعمها لحفتر.
ويبدو حتى أنَّ هناك بعض الدعم المُقدَّم إلى قوات حفتر من شرقي طرابلس، إذ أعلنت مجموعة مَدنيَّة في مدينة الخمس الساحلية، الواقعة بين مصراتة وطرابلس، في الأسبوع الجاري، دعمَها قوات قوات حفتر. وإذا جرى تدعيم هذه الخطوة عسكرياً، فإنَّ القوات المحلية من مدينة الخمس، التي تسيطر على نقطة تفتيش رئيسية على الطريق السريع الساحلي الرئيسي، يمكن أن تُحدِث فجوةً استراتيجية بين مصراتة وطرابلس.
هذا بالإضافة إلى أنَّ معظم المدن الأخرى التي كانت ثوريةً ودعمت انتفاضة عام 2011 ضد معمر القذافي، بما في ذلك مدينة زوارة الساحلية الأمازيغية، ما زالت منحازة بدرجةٍ كبيرة إلى الجيش الوطني في الوقت الراهن. ولكن في ظل حالة الاستياء المنتشرة في البلاد بعد عام 2011، أصبحت العديد من المدن الليبية في غربي البلد منقسمة انقساماًَ متزايداً، وفقاً لما ذكره المواطن أحمد، المقيم في طرابلس.
ولا عجب في أن يتمكن حفتر من الحصول على دعم هذه المدن الواقعة في الغرب خارج طرابلس. فسكانها، الذين عانوا الإهمال والتهميش في بعض الأحيان، تعبوا من انتظار إجراء تحسيناتٍ ملموسة على أرض الواقع من جان حكومة الوفاق الوطني.
يرى البعض أنَّ حفتر، الذي قدَّم نفسه على أنَّه "رجلٌ قوي" قادر على قيادة الانتصارات العسكرية، يُمثِّل حلاً محتملاً للفوضى الذي أصابت ليبيا بعد عام 2011.
ومع أنَّ هناك مخاوف من صعود زعيمٍ استبدادي آخر على غرار القذافي إلى السلطة، فإن الكثيرين من أبناء الشعب الليبي قد خاب أملهم بسبب الديمقراطية الفاشلة، لذا يستحسِن البعض مستقبلاً قابلاً للنجاح تحت قيادةٍ قوية موحدة مستقرة.
هل ستندلع حربٌ في طرابلس حتماً؟
مع أنَّ حفتر يحظى بدعمٍ من فرنسا وروسيا والإمارات العربية المتحدة ومصر، فإنَّ معظم المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة، يقف ضده.
وعلى الرغم من جاذبية حفتر المتزايدة، أو ربما بسببها، تُواصل هذه القوى الخارجية الضغط من أجل اللجوء إلى المفاوضات والتوصُّل إلى تسويات وإجراء انتخاباتٍ عامة مستقبلية، كان من المستحيل إجراؤها في السنوات الخمس الماضية. لكنَّ هذه الجهود الساعية للتوسط في توحيد الصفوف بطريقة سلمية قد فشلت باستمرار، بحسب الموقع البريطاني.
ويذكر أنَّ آخر صراعٍ كبير في طرابلس اندلع في عام 2014، وأشعلته آنذاك أحزابٌ سياسية متنافسة غير راضية عن نتيجة الانتخابات الوطنية الأخيرة في ليبيا. وقد أسفر القتال آنذاك عن تدمير البنية التحتية المدنية الرئيسية -بما في ذلك المطار الدولي- وترك البلاد منقسمة بين حكومتين وبرلمانين وجيشين متنافسين.
وصحيحٌ أنَّ التوترات القائمة حول العاصمة موجودةٌ منذ خمس سنوات، لكنَّ القوات الموالية للحكومتين المتنافستين كانت منشغلة طوال هذه الفترة بنزاعاتٍ محلية، ومحاربة جماعاتٍ مسلحة، بما في ذلك جماعاتٌ منتمية إلى تنظيمي داعش والقاعدة، مما جعل طرابلس خارج أولوياتهما الرئيسية في تلك الفترة.
جديرٌ بالذكر أنَّ حكومة الوفاق الوطني، التي تحظى بدعمٍ من الاعتراف الدولي أكبر من الدعم المحلي، تسيطر على منطقةٍ متضائلة بدرجةٍ متزايدة في غربي ليبيا، وذلك بعدما جعلت التقدمات الأخيرة التي أحرزتها قوات حفتر شرقي البلاد جعلتها تسيطر من الناحية الفنية على نصيب الأسد من مساحة اليابسة الجغرافية الليبية، وإن كانت لم تُسيطر حتى الآن على مدنها الغربية الرئيسية.
لكن على الرغم من تحركُّات القوات الأخيرة والمكايد السياسية، فلطالما أثبتت مساحة ليبيا الشاسعة وعدد سكانها الصغير، الذي يبلغ حوالي ستة ملايين نسمة، أنَّهما يُشكِّلان عقبة لا تُقهَر أمام سعي أيٍّ من الحكومات المتعثرة المتعاقبة في البلاد، أو القوات المسلحة التي يتكون معظمها من ميليشياتٍ إلى إحكام السيطرة الكاملة على البلاد.
فما زالت الحكومتان المتنافستان تمتلكان قواتٍ محدودة، تتألف إلى حدٍّ كبير من ميليشيات ذات حُكمٍ شبه ذاتي لديها ولاءاتٌ متقلبة غير موثوق بها. لكنَّ بعض السكان المدنيين الليبيين في غربي البلاد وشرقيها ذكروا لموقع Middle East Eye أنَّهم يعتقدون أنَّ حفتر لديه الآن ما يكفي من القوة العسكرية والدعم الميداني لاستعادة العاصمة.
ولاءاتٌ منقسمة
لقد خلَّفت ثورة 2011 التي أطاحت بالقذافي إرثاً مستمراً منذ 8 أعوام من عدم الثقة. إذ اضطر بعض الأعداء السابقين إلى التحالف على مضض مع بعضهم بعضاً لمواجهة أعداء جدد، مثل بعض المدن المجاورة أو تنظيم داعش.
وغالباً ما تكون الولاءات الحالية متقلبةً مثل الولاءات السابقة، وقد شوهد ذلك مؤخراً حين انشقت قبيلة الطوارق الجنوبية التي كانت متحالفة مع حكومة الوفاق الوطني عنها، وتحالفت مع حكومة شرقي ليبيا في غضون أيام من انشقاقها، وذلك أثناء تقدُّم قوات حفتر جنوبي البلاد.
أمَّا مدينة سرت، التي كانت تُعتبر إلى حدٍّ كبير مؤيدةً للقذافي، فقد تحرَّرت من حكم داعش الوحشي على يد قواتٍ من مصراتة، التي تعد عدوةً لدودة لها منذ عام 2011. ومع أنَّ مصراتة ما زالت تُسيطر على المدينة عسكرياً، فقد ذكر مسؤولٌ بارز من سرت، قال إن اسمه محمد، لموقع Middle East Eye أنَّ معظم سكان سرت في الواقع يدعمون حكومة شرقي البلاد وقوات حفتر، لا سيما أنَّ غالبية سكان المدينة ينتمون إلى قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها حفتر.
وكذلك بعدما فشلت حكومة الوفاق الوطني في مساعدة أنصارها في جنوبي البلاد أثناء تقدُّم حفتر في العام الجاري، يبدو أنَّها تحاول بناء قوةٍ قتالية أكثر فاعلية بسرعة، وذلك بلجوء رئيس مجلسها الرئاسي فايز السراج إلى تعيين سالم جحا، العقيد السابق في عهد القذافي، في منصب نائب قائد قواتها المسلحة الرسمية، بحسب الموقع البريطاني.
يُذكَر أنَّ جحا، المولود في مصراتة انشق عن جيش القذافي في عام 2011، لقيادة المقاتلين الثوريين في مصراتة، لكنَّه خسر شعبيته في المدينة لاحقاً، بعدما رفض دعم هجوم مصراتة على بني وليد في عام 2012. وقد عاد إلى ليبيا منذ حوالي عام بعدما عاش عدة سنوات في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تدعم حفتر في الوقت الراهن.
وقد أثار تعيين جحا -الذي لا يحظى بالثقة في مسقط رأسه مصراتة التي توفِّر المقاتلين لقوات البنيان المرصوص التي ستعتمد عليها حكومة الوفق الوطني للدفاع عن أقصى حدودها الشرقية ضد أي تقدُّمٍ للجيش الوطني الليبي- جدلاً كبيراً. فعلى المستوى المحلي، يشتبه الكثيرون في أنَّ جحا متحالفٌ سياسياً مع حفتر، وليس مع حكومة الوفاق الوطني التي يُفترَض أن يقود قواتها.
ومع أنَّ حفتر لم يُصدر أي بيان بشأن خططه للتحرك عسكرياً نحو طرابلس، بعد جولةٍ أخرى من محادثات السلام عُقِدَت في الأسبوع الماضي، فقد عيَّن أحد كبار موظفيه العسكريين، اللواء عبدالسلام الحساسي، في منصب قائد غرفة عمليات طرابلس، وهذا مؤشرٌ على أنَّه لا يعتزم التراجع.
وفي الوقت الذي تواجه فيه ليبيا مصيراً مجهولاً مرةً أخرى، ذكر بعض السكان أنَّ العديد من نقاط التفتيش قد أُقيمت في جميع أنحاء العاصمة، ومعظم أفرادها من ميليشياتٍ محلية، ويُعتقَد أنَّ هذه محاولةٌ لتأمين العاصمة من تهديدٍ حقيقي متزايد يتمثل في اندلاع حربٍ أهلية جديدة في غربي ليبيا.