تعرَّضت صورة محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، لضربةٍ قويةٍ في الغرب إثر مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول. وتغيَّرت صورة محمد بن سلمان في عيون الغربيين من شابٍ إصلاحيٍّ مُثيرٍ للاهتمام إلى مُجرمٍ قاتل.
إلا أن بول بيلار، الباحث بمركز الدراسات الأمنية في جامعة جورجتاون، والذي عَمِلَ 28 عاماً في أجهزة الاستخبارات الأمريكية، يرى أن صورة محمد بن سلمان داخل السعودية لم تتأثَّر كثيراً. إذ وجَّه كثير من السعوديين اللوم إلى الغرب بدلاً من حكومتهم فيما يتعلَّق بقضية خاشقجي
ويرى بيلار في مقاله الذي نشره بموقع Lobe Log الأمريكي، أن ردود الفعل تلك ترجع إلى رصيد حُسن النية الذي يتمتع به محمد بن سلمان، نتيجة كبحه جماح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر (الشرطة الدينية)، وسماحه للنساء بالقيادة، وتقديمه أشكالاً جديدةً من الترفيه الذي كان غائباً عن المجتمع السعودي مثل السينما والحفلات الغنائية والمتنزهات الترفيهية.
إصلاحات أم مجرد مِنح للمواطنين؟
وتُمثِّل هذه التدابير مُجرَّد إصلاحاتٍ صغيرة. إذ إنها لن تُحدِثَ تغييراً ملحوظاً على الاقتصاد أو السياسات السعودية، بل هي مُجرَّد مِنَحٍ يمنحها النظام لمواطنيه.
لكن تلك التدابير حظيت بامتنان المواطنين، لأن الحد الأدنى المطلوب من الإصلاح كان مُنخفضاً للغاية. إذ كان المجتمع السعودي مُغلقاً بحزمٍ شديد -نتيجة تنازلات النظام لمصلحة المُحافظين الدينيين إثر استيلاء المُتشدِّدين على المسجد الحرام في مكة فترةً قصيرةً عام 1979- لدرجة أن أبسط المِنَح ستُكسِبُ النظام أصدقاءً جُدُداً.
وأعرب محمد بن سلمان عن تطلُّعه إلى إصلاحاتٍ أكثر شموليةً تحت عنوان رؤية 2030. وشملت الأهداف المُعلنة الحد من الاعتماد على عائدات النفط، وتوسيع القطاع الخاص ليُشكِّل الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي السعودي، وهو ما لم يحدُث حتى الآن. وستُشكِّل هذه التغييرات، في حال حدوثها، إصلاحاتٍ جوهريةً تشمل النمو في مراكز القوة الاقتصادية.
وستطرح تلك التغييرات تساؤلاتٍ، يُناقشها ويُحللها علماء الاجتماع منذ وقتٍ طويل، عن تأثيرات التنمية الاقتصادية على آفاق التنمية السياسية. إذ من المتوقع أن تُؤدِّي زيادة أعداد طبقة رواد الأعمال والطبقة المتوسطة التي لا تعتمد على الدولة إلى زيادة حجم الاستياء من الحكم الاستبدادي والمطالبة بالمشاركة في تحديد الكيفية التي يُدار بها المجتمع. وستنبع تلك المُطالبات من الطبقات الجديدة التي ستكون لها مصلحةٌ أكبر في القرارات المُتعلِّقة بإدارة المُجتمع، فضلاً عن ازدياد الوعي بقدراتها الخاصة.
البحث عن الثراء أم الانشغال بالسياسة؟
ونجد أن أكبر مثالٍ مُعاكسٍ على ذلك يوجد في الصين، حيث لم تؤدِّ الحيوية الاقتصادية والنمو المذهل -الذي بدأه دينغ شياو بينغ بإصلاحات السوق التي فرضها قبل أربعة عقودٍ- إلى تقويض السلطة السياسية للحزب الشيوعي الصيني الحاكم. وبذلك تحوَّلت الصين إلى نموذجٍ جاذبٍ للحُكام الاستبداديين الراغبين في تحقيق نموٍ اقتصاديٍ قويٍّ دون تعريض حُكمهم للخطر في كل مكان.
أما بالنسبة لقدرة مزيج الاقتصاد الديناميكي والسياسات القمعية على الصمود لأجلٍ غير مُسمى، فالإجابة هي أن "الوقت ما زال مُبكِّراً لمعرفة النتيجة"، بحسب تشوان لاي، رئيس الوزراء الصيني الأسبق الذي أجاب بهذه الجملة حين سُئِلَ عن مدى تأثير الثورة الفرنسية.
إذ انشغل كثير من الصينيين بالبحث عن الثراء ولم يُعيروا طاقاتهم للسياسة. وكما خفض المجتمع السعودي الحد الأدنى للترحيب بتخفيف التقاليد الاجتماعية، خفض الفقر الصيني الذي سبق دينغ الحد الأدنى للترحيب بالتحسُّن الاقتصادي.
علاوةً على ذلك، يتمتَّع النظام الصيني ببعض المزايا التي يفتقر إليها النظام السعودي، مثل الحفاظ على مزيج الاقتصاد المفتوح والسياسات المغلقة طوال هذه الفترة. ويتمتَّع الحزب الشيوعي أيضاً بقدرةٍ جيدةٍ على الجمع بين الأيديولوجية والتعبئة الشعبية، لتظهر الأمور في صورة ثورةٍ يُرشدها الحزب ويشارك فيها الجميع، لدرجة أن تحوُّل الرئيس شي جينبينغ من الحكم الجماعي إلى الحكم الفردي استغلت ذلك التقليد الثوري الأيديولوجي -في خطوةٍ تُوازي توطيد محمد بن سلمان سلطته من بعض النواحي. ونسمع في الصين اليوم جملة "فِكر شي جينبينغ"، لكن لا تتوقع أن تسمع جملة "فِكر محمد بن سلمان" في أي جزءٍ من أجزاء المملكة.
الإصلاح السياسي لا يرِد في جدوله
وتقدير الآفاق التي ستبلُغها إصلاحات محمد بن سلمان يبدأ من نقطة أن الإصلاح السياسي لا يَرِدُ في جدول أعماله على الإطلاق. وسيكون الاعتبار الرئيسي الذي يعتمد عليه في قراراته بشأن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية هو أن يتجنب أي خطوةٍ تُعرِّض سلطته السياسية للخطر.
وفي ظل هذه الأولوية القصوى، سيكون عليه أن يأخذ بعين الاعتبار قدرة النظام السعودي على امتلاك التمويل الذي يكفي الدولة الريعية لشراء ولاء المواطنين المُستقلين، باستخدام المنح الصغيرة جزئياً.
لم تمتلك الصين ذلك الخيار، وأدرك دينغ ضرورة الإصلاح الاقتصادي الشامل، لحماية مليار شخصٍ من البؤس الأبدي. أما السعودية، فقد نجحت في الحفاظ على بقاء لعبتها المختلفة عقوداً، مُعتمدةً في ذلك على ثروتها النفطية وعدد سكانها القليل. لكن انخفاض أسعار النفط يُمكن أن يُهدِّد تلك اللعبة. لكن محمد بن سلمان يرى ضعف الجهود المبذولة حول العالم للابتعاد عن الاقتصاد المُعتمد على الوقود الأحفوري (خاصةً داخل الولايات المتحدة)، وهو ما يمنحه أسباباً ليعتقد أن بإمكانه الإبقاء على لُعبته فترةً أطول.
والاعتبار الثاني هو رؤية محمد بن سلمان، أو من يُقدم له المشورة، للسؤال العلمي الاجتماعي عن الكيفية التي قد يُؤدِّي بها فتح الاقتصاد إلى ضغوطٍ لفتح النظام السياسي. ودرجة إدراكه لهذا الرابط ستُحدِّد حجم دافعه إلى عدم فتح الاقتصاد مطلقاً، رغم أهدافه المعلنة في رؤية 2030.
وسيُبقي على الأهداف لتُمثِّل نافذةً جميلةً أمام عيون الغرب، وسط جهوده لإعادة تلميع صورته بوصفه إصلاحياً. ولكنه سيُبطئ الإصلاحات الجوهرية، لتصل إلى حد الركود على المستوى الداخلي، مع إلقاء عظْمةٍ لمواطنيه بين الفينة والأخرى مثل السماح لهم بدخول السينما.