خُيّل لحكيم العريبي أنه هرب من الحكومة البحرينية، عندما فرَّ إلى أستراليا منذ أعوام كلاجئ سياسي، لكن في العام الماضي، جازف بقضاء عطلة شهر عسل في تايلاند، فقُبض عليه فور وصوله، وتقرَّر إعادته إلى موطنه الأصلي.
استخدمت البحرين، المتهمة بتعذيب المواطنين، وغيرها من الانتهاكات، ما يُعرف بـ "الإشعار الأحمر" للإنتربول، لاعتقاله أينما كان، رغم قوانين حماية اللاجئين.
كانت لحظة مُربكة للإنتربول، فلأعوامٍ أثارت مثل هذه الحالات الاتهامات ضدَّ أكبر منظمة شرطية دولية في العالم، بأنها أصبحت أداة للأنظمة القمعية. وَعَد الإنتربول بالتغيير، لكن اعتقال العريبي كان تذكيراً صارخاً بأنه على الرغم من الإصلاحات لا يزال الإنتربول عُرضةً للتلاعب من أصحاب النفوذ والطغاة، ومنتهكي حقوق الإنسان.
كانت قوة توحد سيادة القانون
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، لبعض الوقت، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية، كان قادة العالم يأملون أن تصبح الوكالة الرابضة على ضفاف نهر الرون في فرنسا، قوة توحد سيادة القانون. كان من المفترض أن تتجاوز أهداف الإنتربول المتعلقة بالسلامة والأمن الحدود الوطنية، وتجمع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية على حد سواء.
لكن السجلات والمقابلات التي أُجريت في القارات الخمس تكشف أنه في طريقهم لتحقيق هذه الرؤية، تجاهل مسؤولو الإنتربول التحذيرات المتكررة من داخل المنظمة، من تعرضها للتدخل السياسي. مرةً تلو الأخرى، أعطى الإنتربول الأولوية للتوسع الدولي على حساب الإجراءات الضمانية.
وثق الإنتربول كلياً في تبعية الدول لنظامه، وتباطأ في إدراك حقبة يتمتع فيها المستبدون وأصحاب النفوذ بسلطة متزايدة على المؤسسات الدولية.
اليوم، يسعى الإنتربول إلى تعزيز الرقابة على 194 دولة، ومراجعة عشرات الآلاف من الإشعارات الحمراء، التي تراكمت على مرِّ السنين، فلا أحد يعرف عدد الخاضعين للنفوذ السياسي. مما يجعل الحكومات حول العالم، بما فيها الحكومة الأمريكية، تحاول اكتشاف ما إذا كانوا يعتقلون بالفعل أحد الهاربين، أم يوظفون رجالها لأهواء الطغاة والمستبدين.
يقول المحامي جون فلانغان، الذي حُرم موكله من حق اللجوء، وصدر أمر باعتقاله في كاليفورنيا، بناءً على إشعار أحمر روسي: "نحن فرحون بأن هناك إصلاحات جديدة، لكن في كثير من الحالات يكون الوقت قد تأخر للغاية". أُفرج عن موكله أليكسي خاريس، الذي يستأنف على قرار رفض طلب لجوئه، بكفالة في ديسمبر/كانون الأول، بعد أن أشار قاضٍ إلى إمكانية ارتباط الإشعار الأحمر بدوافع سياسية. وأضاف فلانغان: "لا يمكنك إعادة المياه إلى مجاريها، ولا يمكن نسيان حقيقة أن موكلي قضى 15 شهراً رهن الاحتجاز".
الأولوية العليا هي "الحرب على الإرهاب" وليس الإنتربول
لماذا لم يتكلف أحدٌ عناء الاتصال بالإنتربول بعد ضرب الطائرات لمركز التجارة العالمي والبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) في 11 سبتمبر/أيلول 2001؟ بدا الإنتربول بمظهر المؤسسة الروتينية، التي لا طائل من ورائها، حتى إن ميزانيته تقارن فقط بحجم ميزانية قسم شرطة سينسيناتي.
على الرغم من تصوير هوليوود له باعتباره نسخة عالمية من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي)، أو سكوتلاند يارد (المقر الرئيسي لشرطة العاصمة العاصمة البريطانية)، ليس لدى الإنتربول فعلياً أي سلطة للتحقيق في الجرائم أو الاعتقالات. الإنتربول الذي يوجد في مدينة ليون الفرنسية النابضة بالحياة، ليس إلا مركزاً أو لوحة نشرات رقمية لتبادل المعلومات الشرطية من خلالها.
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول بفترة وجيزة، رأى الأمين العام للوكالة رونالد نوبل، الأمريكي الأول في منصبه، لها دوراً مهماً لتؤدّيه. طرح نوبل وهو مسؤول طموح سابق في وزارة الخزانة، مبادرةً رقمية تسمّى I-24/7، تسمح للدول باستخدام قواعد بيانات الإنتربول بصورة دائمة.
كانت الإشعارات الحمراء عنصراً حاسماً، فهي نوع من الأوامر التي يَطلب فيها ضباط الشرطة في أي دولة من نظرائهم الأجانب توقيف شخص ما. عندما يعمل النظام، يساعد على الإمساك بالقتلة، والمغتصبين، والمتحرشين الجنسيين، الذين يعبرون الحدود، وصار إصدار الإشعارات أولوية قصوى للإنتربول.
كتب نوبل في ذلك العام: "أشعر بفخر خاصٍ بأن أبلغكم أن عدد الإشعارات الحمراء الجديدة قفزت بنحو 40% في 2004، لأكثر من 1900 إنذار". لكن حتى في تلك السنوات المبكرة، رأى المسؤولون مؤشرات خلل، إذ أبلغت لجنة التدقيق الداخلي في الإنتربول، عن وجود عدد صغير من الشكاوى الآخذة في الزيادة، من أشخاص أبلغوا أنهم كانوا مستهدفين لأسباب سياسية بحتة.
بصفتها "النصير الدائم لحقوق الإنسان"، والداعم المالي الأكبر للإنتربول، كانت الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بطلب التغييرات، لكن "الحرب على الإرهاب" كانت الأولوية بالنسبة لها، وليس الإنتربول. في عام 2005، طالب نوبل من ألبرتو غونزاليس، الذي كان يشغل منصب المدعي العام الأمريكي آنذاك، بإيفاد محامٍ من وزارة العدل إلى ليون، للمساعدة في الأعباء المتزايدة، ورفض غونزاليس.
في عام 2006، أصدر الإنتربول أكثر من 2800 إشعار أحمر، وهو عدد أكثر من ضعف عدد الإشعارات في العام الذي سبق هجمات 11 سبتمبر/أيلول، حتى في ظل التحذيرات الداخلية من أن الحكومات المستبدة كانت تستهدف اللاجئين.
بالنسبة لنوبل وغيره من كبار المسؤولين، باتت المشكلات تُسبب عبئاً متزايداً. في عام 2007، عندما ضغطت إيران لمنع الإشعارات ضدَّ مواطنيها فيما يتعلق بتفجير 1994 لمركز يهودي في الأرجنتين، تصدَّى لها الإنتربول. وقال توماس فيونتيس، وهو أمريكي كان يعمل في اللجنة التنفيذية للإنتربول وقتها: "صوَّتنا لإصدار الإشعارات الحمراء"، مدعياً أن القرار أظهر أن الإنتربول الجديد لا يزال يرفض النفوذ السياسي.
سنوات من التحذيرات العاجلة
ما حدث بعد ذلك كان نقطة تحول في تاريخ الإنتربول، أطلق نوبل برنامجاً يسمّى I-Link، سمح للحكومات بنشر الإشعارات الحمراء بشكل فوري تقريباً. يقول المسؤولون السابقون إنه كان قراراً ذا رؤية، لكنهم الآن يدركون أيضاً أنه جعل الإنتربول عرضةً ليُساء استخدامه. وقال كلاوديو غروسمان، المحامي التشيلي الذي عمل في لجنة المراجعة في الإنتربول وقتها: "رأينا بداية حدوث هذا"، وحذّر غروسمان وزملاؤه مراراً نوبل من التباطؤ، كما بيَّنت التسجيلات.
لكن تضاعف عدد الإشعارات الحمراء مرة أخرى كان الكثير منها غامضاً بشكل مرفوض، لكن المحامين كافحوا لفكِّ ألغازها ودحض الاتهامات الباطلة. قال غروسمان وزملاؤه في لجنة المراجعة، إن الإنتربول يُصدِر العديد من الإشعارات بسرعة كبيرة للغاية، مع القليل من الإشراف، وحثوا المنظمة على تحسين مراقبة الجودة.
مع ذلك، كانت الاستجابة بطيئة، يقول البعض إن جماعة الإنتربول، وهم ضباط الشرطة الذين يتخذون القرارات لصالحهم، أعاقت الإصلاحات، بينما لم ير آخرون أن المشكلات كبيرة. صرَّح كو بون هوي، وهو من كبار ضباط الشرطة في سنغافورة، وشغل منصب رئيس الإنتربول من 2008 حتى 2012: "شعرنا وقتها أن لدينا عمليات مراجعة كافية لإحداث التوازن الصحيح، أعتقد الآن أنهم وجدوا أن الأمر غير كافٍ".
من بين الحالات الأولى التي ألقت الضوءَ على المشكلة قصة بيني ويندا، وهو لاجئ إندونيسي يعيش في إنجلترا، قاد حركة الاستقلال في مقاطعة بابوا الغربية، وأدرك في 2011 أن إندونيسيا أصدرت إشعاراً أحمر لاعتقاله. قال جاغو راسيل، الرئيس التنفيذي لمجموعة Fair Trials الموجودة في لندن: "كانت هذه أول إشارة لنا إلى أن هذه الأشياء كانت بالفعل مُسيَّسة، لكن كان من الصعب أن نجعل الحكومات والإنتربول يهتمون لهذا".
انتهاكات واضحة للمنظمة التي بات يسهل التلاعب بها
سرعان ما كشف الصحفيون ومجموعات حقوق الإنسان المزيدَ من الأمثلة على الانتهاكات الواضحة؛ منها طالب لجوء مصري جرى احتجازه في أستراليا، وصحفي فنزويلي حاز جوائز، وأبرز هذه النماذج على الإطلاق، ويليام براودر، المستثمر المقيم في لندن، الذي حاولت روسيا اعتقاله مراراً من مستخدمه الإنتربول، لكن الإنتربول قال إنه لم يقبل أبداً أي إشعار أحمر ضد براودر.
ألغى الإنتربول بعضَ الإشعارات، لكنه مع ذلك أنكر وجود مشكلات نظامية في عمله. قال غروسمان: "كانوا مستعدين للعمل بشكل فردي، لكنهم لا ينظرون إلى الأمر برمته".
في هذا الوقت تقريباً، بدأت روسيا في إصدار إشعارات حمراء للمنشقين الذين تعاونوا مع السلطات الأمريكية، وفقاً لما ذكره مسؤولون أمنيون سابقون. كانت هذه خطوة ذكية، فإذا ما حاولت الولايات المتحدة تعطيل إنذارات بعينها، تأكد لدى الجانب الروسي أهمية هؤلاء المنشقين، حتى أصبح العملاء الفيدراليون مترددين بشأن مشاركة معلوماتهم مع الإنتربول. قال غيل كيرليكوسكي، المفوض السابق للجمارك وحماية الحدود: "كان هناك دائماً خوف من تدفق المعلومات إلى الأناس الخطأ".
إصلاح الإنتربول؟
أخيراً، بعد سنوات من الإنذارات العاجلة، ووسط موجة من التغطية الصحفية السلبية، بدأ الإنتربول بمراجعة نظامه للإشعارات الحمراء في عام 2014، وجعل الأمين العام يورغن ستوك من ألمانيا، الإصلاحَ أولوية عاجلة.
استغرق الأمر عامين آخرين، لكن وافق الإنتربول على إجراء إصلاحات شدَّدت متطلبات الإنذارات، وأضاف الإنتربول ضابطاً لحماية البيانات، ودعم لجنة المراجعة الداخلية. كما شكل الإنتربول مجموعة لمراجعة الإشعارات الحمراء، ما أدى إلى استعادة الرقابة التي تقلصت بعد 11 سبتمبر/أيلول.
وقال الإنتربول في بيان له: "ندرك أن الإشعارات الحمراء أداة قوية، وهذا هو السبب في إجرائنا مراجعة باستمرار، ونقيّم ونحسن أنظمتنا وإجراءاتنا عند الضرورة". في عام 2016، أرسلت وزارة العدل محامياً خبيراً، للعمل مستشاراً للإنتربول، الذي قال عنه المسؤولون إنه كان أعلى منصب أمريكي في التاريخ الحديث.
يتعجل الإنتربول الآن مراجعة 50 ألف إشعار أحمر نشط، جمعها على مرّ السنين، والتخلص من تلك الإشعارات واهنة الأدلة. وقال الإنتربول إن العديد من الوقائع الأخيرة التي جرت تغطيتها من وسائل الإعلام تضمَّنت أيضاً إشعارات قديمة لم يجر حذفها.
اعتبر المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون انتخابات الإنتربول العام الماضي، بمثابة نقطة تحول محتملة، بعد أسابيع قليلة من واقعة محرجة أخرى اعتُقل فيها رئيسها سراً من موطنه الأصلي الصين، وكان المرشح الرئيسي ليحل مكانه مسؤول أمني روسي. على الرغم من أن رئاسة الإنتربول منصب رمزي إلى حد كبير، جادل المسؤولون الغربيون بأن النصر الروسي من شأنه أن يقوض مصداقية الإنتربول. وفي خطاب حاد في اجتماع الإنتربول السنوي العام الماضي في دبي، قال نائب وزير العدل الأمريكي رود روزنشتاين، إن الانتخابات كانت بمثابة اختبار لمبادئ الإنتربول.
وقال: "قد يسأل المراقبون ما إذا كانت أصواتنا تعكس القيم التي نعلنها، يجب أن ندافع عن سيادة القانون". وأكد هو ومسؤولون آخرون على هذه النقطة في اجتماعات خاصة مع قادة أجانب في دبي.
نصر دبلوماسي لإدارة ترامب
بالعودة إلى واشنطن، دعا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو جميع الدول "التي تحترم سيادة القانون" إلى دعم كيم جونغ يانغ من كوريا الجنوبية للرئاسة. وضغط السيناتور الجمهوري ماركو روبيو من ولاية فلوريدا، على حلفاء أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. كان فحوى الرسالة واضحاً، قال المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون: الولايات المتحدة التي يشكّ رئيسها في المنظمات الدولية، ربما تعيد النظر في مستقبلها مع الإنتربول، وقدّم الحلفاء الأوروبيون ذات الحجة.
في النهاية، انتُخب كيم، وكانت النتيجة بمثابة نصر دبلوماسي لإدارة ترامب، ولحظة اتفاق مع الدول الأوروبية في وقت توترت فيه العلاقات. وقالت سفيرة ليتوانيا في الاتحاد الأوروبي: "بدايةً شعرت أنها معركة خاسرة، لكن الحلفاء هم الحلفاء، ويجب ألا نقلل من هذا".
شعر مسؤولو الإنتربول بالإحباط، لأن التغطية الإخبارية للانتخابات طغت على تحسيناتهم، ثم حدث اعتقال العريبي ذي الـ25 عاماً، نجم كرة القدم البحريني السابق. ألغى الإنتربول أمر الاعتقال، لكنه ظلَّ محتجزاً لأشهر قبل إطلاق سراحه.
لا يناقش الإنتربول الحالات الفردية، لكنه قال: "التحدي الكبير الذي لا يزال يواجه المنظمة هو إحجام الدول عن تأكيد ما إذا كانت قد منحت حق اللجوء أم لا". يبدو أن هذا لعب دوراً في اعتقال العريبي، وقال مسؤولون في الشرطة الأسترالية إنهم لم يكونوا على علم بمنح بلادهم العريبي حق اللجوء.
وأشاد راسل من Fair Trials، بالتغييرات التي أجراها الإنتربول، لكنه قال إن مثل هذه الحالات تُظهر حاجة الوكالة والحكومات الأعضاء لمزيد من الجهد. وقال: "لقد أداروا أنظارهم عن المؤسسة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، عندما تعلق الأمر بمشاركة أكبر قدر من المعلومات، رأوا أن الأضرار الجانبية غير مهمة، لكن لم يعد ممكناً غض الطرف عن هذه المؤسسة الآن".