استعرضت مجلة The Economist البريطانية القطاع العام في عدد من الدول العربية من بينها مصر والسعودية مشيرة إلى أن عدداً كبيراً من عصب هذا القطاع سيتقاعد قريباً، إما بسبب كبر السن أو إحلال الأجهزة الإلكترونية بدلاً منه.
وفي القاهرة تتراصّ ماكينات مطلية حديثاً في مرآبٍ تابع لإحدى البلديات بانتظار توزيع التذاكر على السائقين. لكنَّ الماكينات مُطفأة. ويقف بجوارها عمال يُسلِّمون التذاكر يدوياً. تُعَد هذه واحدة من الوظائف الحكومية عديمة الفائدة في العاصمة المصرية، بحسب المجلة البريطانية.
إذ يمكن أن يصبح ختم جوازات السفر في المطار مهمة تحتاج إلى ثلاثة موظفين. وتمتلئ المكاتب بالموظفين الذين يطبعون المستندات أو يُحضِّرون الشاي (قليلون فقط من يضطلعون بالمهمتين معاً). ويعمل أكثر من 5 ملايين مصري في القطاع العام. يخدم كلٌ منهم ما يقل عن 20 مواطناً، هذا في حال كانت كلمة "يخدم" هي الكلمة المناسبة لوصف الأمر. وتكتفي بلدانٌ نامية أخرى بقطاعٍ عام أقل اكتظاظاً من هذا بكثير.
وبحسب المجلة البريطانية يستخف الرئيس عبدالفتاح السيسي بقوته العاملة. ففي مؤتمرٍ عُقِد في مايو/أيار الماضي، أشار إلى أنَّ مليون موظف بإمكانهم إنجاز العمل الذي يقوم به الآن 5 ملايين موظف. (على الأرجح سيتفق معه في ذلك أي شخص تعامل مع الجهاز البيروقراطي المصري). لكنَّه قلق من أنَّ فصلهم قد يتسبَّب في اضطرابات. في المقابل، تملك حكومته حلاً أفضل: لا تفعل شيئاً ودع البيروقراطية تقلص نفسها بنفسها. إذ يوجد حوالي 2.2 مليون موظف حكومي مصري ضمن أعلى شريحتي رواتب، والتي عادةً ما يتطلَّب دخولهما قضاء عقودٍ في العمل. ويراهن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على أنَّ 35% على الأقل من قوة العمل ستتقاعد في غضون عقدٍ من الزمن.
الاستفادة من قيمة الأجور
ومن شأن هذا تقليص فاتورة الأجور التي تلتهم 27% من العائدات الحكومية، ما يترك المليارات من الأموال متاحة لاستخدامها في الاستثمارات المطلوبة بشدة. وبصراحة، لا تحتاج الكثير من تلك الوظائف التي ستصبح شاغرة إلى إعادة ملئها. فمصر تنقل نفسها إلى العصر الرقمي. إذ صار مثلاً بإمكان المواطنين تجديد بطاقات الرقم القومي عبر الإنترنت، وسيكون تطبيق الشيء نفسه مع الوثائق الأخرى متاحاً في وقتٍ لاحق من هذا العام. وتُركِّب الدولة عدَّادت كهرباء بالإمكان إعادة شحنها باستخدام البطاقات الذكية. وحتى المحاكم المعروفة بقِدمها تشتري الآن الحواسيب. وكل هذا سيقلص الحاجة إلى وجود كوادر موظفين لجمع الفواتير وتدوين الملاحظات في الدفاتر.
توجد الكثير من البلدان العربية في وضعٍ مشابه. إذ كان يُنظَر إلى توفير الدولة للوظائف السهلة (التي تُدِرُّ دخلاً دون مجهود يُذكَر) باعتباره حقاً طبيعياً. فعمل كلٌ من أنور السادات وحسني مبارك على تضخُّم القطاع العام المصري للحفاظ على ولاء الطبقة الوسطى. وبدأت حكومات الخليج فورة توظيفٍ طويلة أثناء الطفرة النفطية في السبعينيات. لكن على مدى جيل، لم يواكب التوظيف في القطاع العام النمو السكاني. فمع أنَّ القوة العاملة المصرية تضخَّمت بمقدار 7.7 مليون موظف منذ عام 2005، فإنَّ الجهاز البيروقراطي سجَّل صافي زيادة بلغ 190 ألفاً فقط.
وتباطأ التوظيف في السعودية أيضاً، لكنَّ نسبة كبيرة من المواطنين تبلغ 45% لا تزال تعمل لصالح الدولة (في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادٍ يتألَّف في الغالب من الدول الغنية، يبلغ المتوسط 18% فقط). لكن كما هو الحال في مصر، يميل هؤلاء الموظفون إلى التقدم في السن، فتبلغ نسبة 31% منهم سن 45 عاماً فما فوق، في مقابل نسبة 7% فقط تحت سن 30 عاماً. ويريد ولي العهد السعودي توجيه الشباب السعودي إلى القطاع الخاص، لكنَّ شركات قليلة فقط هي التي ترغب في توظيفهم وفق الشروط المريحة التي يطلبونها. ويبقى 30% ممن هم دون سن الثلاثين بلا عمل، بحسب المجلة البريطانية
العاطلون قنبلة موقوتة
وبحسب المجلة البريطانية يخيف الشباب العاطلون المستبدين؛ فهم مَن يبدأون الاحتجاجات. وإذا ما بقيت الاقتصادات بطيئة، تكره الحكومات تخفيض رواتبهم. فمقابل كل شاب عربي متحمس لإقامة شركة تكنولوجيا أو مشروع صغير، هناك آخر سعيد بقبول وظيفةٍ لتلهيه. وخلُص استطلاع رأي أجرته شركة العلاقات العامة "أصداء بورسون-مارستيلر" عام 2016 إلى أنَّ نصف الشباب العربي يريدون وظائف حكومية. ويرتفع الرقم في الخليج إلى 70%. ويُنظَر إلى الوظائف الحكومية باعتبارها أكثر أماناً وربحية وأقل تطلُّباً من الوظائف الخاصة. ويدفع القطاع العام رواتب أعلى بـ39% في السعودية، وأعلى بنحو 60% في مصر.
وفي مصر، قد تخلق موجة التقاعدات مشكلةً مختلفة أيضاً. إذ ينص قانون التقاعد العام في مصر على دفع معاش يبلغ في حده الأقصى نسبة 30% من الراتب النهائي للموظف. وبما أنَّ متوسط الرواتب يبلغ 5 آلاف جنيه مصري (289 دولاراً) شهرياً، فإنَّ المعاش التقاعدي القياسي قد يبدو مبلغاً تافهاً يصل إلى 1500 جنيه (86.5 دولار تقريباً) شهرياً. لكن حتى هذا الرقم مضلل، لأنَّ الراتب الأساسي يمثل جزءاً بسيطاً من رواتب القطاع العام، في حين يأتي الجزء الأكبر من العلاوات والمكافآت المنتظمة.
قد يصل ملايين العمال قريباً إلى سنوات شيخوختهم بالحد الأدنى فقط من المعاش التقاعدي البالغ 750 جنيهاً، وهو أقل بنسبة 38% من الحد الأدنى للرواتب في القطاع العام. ولا ترتبط المعاشات بالتضخم. فمع أنَّ البرلمان رفع المعاشات بنسبة 15% الصيف الماضي، أدَّى خفض الدعم وارتفاع التضخم إلى التهام هذه الزيادة على الفور. لقد ظلَّ الموظفون الحكوميون يُمثِّلون لفترة طويلة قاعدة انتخابية موالية. لكنَّ هذا الوضع قد يتغيَّر قريباً. وسيكون على السيسي أن يأمل منهم التعامل مع الاحتجاجات بنفس قدر الحماس الذي كانوا يتعاملون به مع وظائفهم.