مع أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تكشف علناً عن "صفقة القرن" التي تأجلت طويلاً، زار غاريد كوشنر، صاحب الخطة وصهر ترامب وأحد كبار مستشاريه، في الفترة من 25 إلى 28 فبراير/شباط من العام الجاري 6 دول في الشرق الأوسط، وهي البحرين، وعُمان، وقطر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة.
وقد روّج لمبادرته المثيرة للجدل لدى قادة بعض الدول العربية والإسلامية الذين تأمل واشنطن أن يُقرُّوا في نهاية المطاف بما يُوصف بأنه خطة اقتصادية للمنطقة ويمولونها. ورافق كوشنر في هذه المهمة التسويقية الدبلوماسية جيسون غرينبلات، المساعد الرئاسي والممثل الخاص للمفاوضات الدولية، وبراين هوك، المبعوث الأمريكي الخاص لإيران.
وبدأ كوشنر رحلته بحملة إعلامية مصغرة عن طريق إجراء مقابلة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة مع قناة سكاي نيوز عربية الإماراتية يوم 25 فبراير/شباط، ونشرت صحيفة The National الإماراتية نصها كاملاً باللغة الإنجليزية في اليوم التالي. وفيما أصر على أن خطته أصبحت جاهزة لإطلاع الجهات المعنية عليها، فقد اعتذر، مثلما فعل في الماضي، لعدم رغبته في الكشف عن بعض التفاصيل المهمة حول مضمونها، والتي أصر على أنها مبنية على عامين من المشاورات مع عدد من أطراف الصراع.
ومع ذلك، أقر كوشنر بأن طبيعة مبادرته "اقتصادية" في جوهرها، وتهدف إلى توفير فرص تجارية للمواطنين في الشرق الأوسط، بمن فيهم الفلسطينيون والإسرائيليون، لتحسين مستوى معيشتهم، الذي جرى إبطاء تحسنه في الماضي نتيجة الصراع الدائر في المنطقة.
ووفقاً "لقيصر عملية السلام الإسرائيلي-الفلسطيني" في البيت الأبيض، فإن خطة السلام هذه ليست الأولى من نوعها في المنطقة بأي حال من الأحوال. ومع ذلك، في تصريح يهدف إلى خدمة مصالحه الشخصية، زعم كوشنر أن بنودها، رغم أنها لم تتغير بصورة كبيرة على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، أكثر عملية وعدلاً من المحاولات السابقة لتحقيق السلام؛ وهذا ما يتطلب إبقاءها طيّ الكتمان، لمنع تسريبها قبل الأوان وفشلها مثلما حدث من قبل مع بعض الأطراف الرئيسية التي رفضت تقديم التنازلات اللازمة. وصرح كوشنر، في مقابلته التي جرى الإعداد لها جيداً، بأن خطته تقوم على "حلول واقعية وعادلة لهذه القضايا في عام 2019".
طلب تمويلاً "ضخماً" وتجاهل مطالبهم.. كوشنر يخفق في جولته الخليجية لدعم "صفقة القرن"
مبادئ خطة كوشنر الساذجة
قال كوشنر إن خطته تركز على أربعة مبادئ: الحرية والاحترام والفرصة والأمن. أولاً، أوضح أن الإدارة الأمريكية التي يمثلها من المفترض أنها تريد "أن ينعم الناس بالحرية، حرية الفرص والدين والعبادة بغض النظر عن معتقداتهم".
يقول خليل جهشان، المدير التنفيذي للمركز العربي في واشنطن، في مقالة كتبها بموقع Lobe Log الأمريكي: لسوء الحظ، أهمل مستشار ترامب ذكر قضايا أساسية أخرى ضرورية لإنهاء الصراع في المنطقة، مثل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 52 عاماً للأراضي الفلسطينية، أو تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره، أو حل الدولتين، الذي يعتبر الخيار التقليدي لإنهاء الصراع الناتج عن عقود من محاولات تحقيق السلام في المنطقة. ومن الواضح أن كوشنر أخفق في إدراك أنه يتعامل مع قضية يهيمن عليها الجانب السياسي، وليست قضية فرص اقتصادية محدودة أو قيود على حرية ممارسة الحقوق الدينية.
يضيف جهشان: ثانياً، ركز كوشنر على الحاجة إلى الاحترام، معرباً عن رغبته في أن "تكون كرامة الناس مصونة وأن يحترم بعضهم بعضاً". ونكرر: هذه الرغبة الساذجة رغم مقصدها الحسن لا معنى لها عملياً لأناس عاشوا تحت نير الاحتلال القمعي لعقود. من المستحيل صراحة أن يتبادل طرفان الاحترام فيما يهيمن أحدهما على الآخر عسكرياً. إن العيش بكرامة واحترام متبادل يتطلب تغييراً جوهرياً في النموذج السائد لاحتلال إسرائيل طويل الأمد أو الدائم لفلسطين.
هل يخفق "التاجر الكبير" في صفقات السياسة؟
ثالثاً، ففي حين يمكن للمرء أن يتوقع المنطق الذي تبناه كوشنر بحكم أنه أحد أباطرة مهنة تجارة العقارات، فإنه أخفق في تقدير -وهو يؤدي دور الدبلوماسي- أن العالم الحقيقي أكثر تعقيداً من صفقة تجارية أو فرصة مشروع. إذ يشمل الصراع في فلسطين الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية التي حُرِمت منها، ولا يمكن معالجة مثل هذا الوضع بطريقة سحرية عن طريق زيادة فرص اقتصادية، تشمل محاولات جادة لتحسين الأحوال المعيشية المحلية. ففي غياب حل سياسي، سيضمن كوشنر وقوع ما يحذر أطراف الصراع منه، أي السماح "لنزاعات الأجداد باختطاف مستقبل أطفالهم".
رابعاً، إن كوشنر مُحق في قوله إن الأمن عنصر أساسي في أي صيغة يمكنها حل قضية فلسطين. ومع ذلك، أخفق كوشنر، مثل سابقيه الذي حاولوا تحقيق السلام، في تحديد الطبيعة المزدوجة للأمن. إذ إنه في الواقع طريق ذو اتجاهين: فما لم يجر تطبيق الأمن بصورة عادلة ومنصفة على كلا الجانبين، فقد يحتكره الطرف الأقوى، مما يمنع تحقق السلام في المنطقة مثلما حدث في السبعة عقود الماضية.
المشروع الفاشل.. والعودة إلى المربع الأول
يعتبر العديد من المحللين، بمن فيهم كاتب هذا المقال، أن مقترح "صفقة القرن" الذي خرج به كوشنر أبله وغير ناضج، وهو يحظى بترويج كبير، ولكنه فقير في مضمونه. ويعترف كوشنر ببساطة أن فريقه لم يركز كثيراً على القضايا التفصيلية، ولكن على العوائق الرئيسية التي حالت دون استفادة الشعب الفلسطيني بصورة كاملة من قدراته، والتي "حالت دون اندماج الإسرائيليين كما ينبغي في المنطقة ككل" بحسب تعبيره.
ويصر كوشنر على أن "خطتنا ستعالج قضايا الوضع النهائي"، لكنه يتحاشى سرد هذه القضايا، والتي تشمل الأمور التي تفسد إتمام الصفقات، مثل وضع القدس واللاجئين الفلسطينيين والمستوطنات اليهودية، والحدود النهائية والترتيبات الأمنية، والعلاقات الثنائية بين إسرائيل وفلسطين.
إن الفلسطينيين يركزون على قضايا وجودهم تماماً مثلما يفعل الإسرائيليون. ولم يتأثر المراقبون الفلسطينيون بتصريحات كوشنر، ويواصلون التشكيك في التزامه بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإعمال الحقوق الأساسية الفلسطينية. ووصف الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، خطة كوشنر للسلام بأنها "في صالح المستوطنين"، مضيفاً أن أي خطة تفشل في ضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة داخل حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، "لا تستحق المناقشة".
مشروع مقدَّر له الموت قبل أن يولَد
ومع أن الخطة التي تدعمها إدارة ترامب لم يُكشف عن كامل تفاصيلها بعد، ليس أمام الفلسطينيين خيار سوى رفضها بسبب إخفاقها في ضمان قيام الدولة الفلسطينية علناً وصراحةً في سياق حل الدولتين. ولن تؤيدها الدول العربية، بما فيها السعودية، التي تعتبر موافقتها على خطة كوشنر وتمويلها عاملاً حاسماً في استمرارها، طالما أن الجانب الفلسطيني لا يفعل.
يتعين على إدارة ترامب في هذه المرحلة العودة إلى المربع الأول، والتفكير في مقترح آخر، قبل الكشف عن خطتها بعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في 9 أبريل/نيسان. وما لم تجرِ معالجة الثغرات المذكورة آنفاً، وبصفة خاصة غياب تأييد الجانب الفلسطيني ومشاركته في عملية صياغة الخطة وتسويقها وتنفيذها، فإن هذا المشروع مقدَّر له أن يموت قبل أن يولد.