رجل كان يعمل في الخفاء لفترة لا بأس بها لدعم اليمين المتطرف في أوروبا، فجأة وصل إلى منصب حساس، بات يخدم فيه هذه الأفكار، إنه وزير الداخلية النمساوي هربرت كيكل، الذي كان أهم مُنظِّر يميني.
مجلة The Atlantic الأمريكية قالت إن كيكل يعيد بشكل جذري تشكيل سياسات اللاجئين، ونبرة الخطاب السياسي في جميع أنحاء أوروبا، بعدما وصل لهذا المنصب.
ويستخدم كيكل، من خلال سلسلة من التصريحات والمقترحات السياسية المثيرة للجدل، والمتعلقة بشكل أساسي بالهجرة واللاجئين، منصبه الجديد للمساعدة على ضمان بقاء هذه الموضوعات جزءاً من النقاش المحلي.
وبحسب المجلة الأمريكية فإن كيكل هو مثال لاتجاه أوسع في أوروبا. فحزب الحرية النمساوي دخل الحكومة في خريف عام 2017، بالشراكة مع المستشار النمساوي سيباستيان كورتس من حزب الشعب. وفي حين أنَّه كان من الأرجح تقليدياً أن يختلف شركاء الائتلاف حول مَن في وزارة الخارجية بإمكانه تمثيل البلاد على الساحة العالمية، أو مَن في وزارة المالية بإمكانه التحكم في المحافظ المالية للبلاد، فإنَّ هذا لم يعد هو الحال بالضرورة. فالسياسيون الشعبويون مثل كيكل يطمحون الآن للفوز بوزارة الداخلية.
ونظراً لأنَّ قضايا الهجرة لا تزال قريبة من أولويات جدول أعمال القادة الأوروبيين، حتى مع تناقص أعداد اللاجئين الجدد، فإنَّ هذه الوظيفة تعطي أشخاصاً مثل كيكل مبرراً للحديث عن موضوعهم المفضل. ذلك أنَّ كيكل، بصفته وزيراً للداخلية، ليست لديه الإمكانية فحسب للتعامل مع موضوعات الهجرة والاندماج، وإنما يضطلع بمسؤولية فعل ذلك.
منصب حساس للمهاجرين
وبحسب المجلة الأمريكية لا يحتاج المرء أكثر من إلقاء نظرة على كيكل أو ماتيو سالفيني، من حزب رابطة الشمال المتطرف في إيطاليا، ليرى مدى فاعلية مثل هذا المنصب بالنسبة لأهداف هذه الأحزاب. والواقع أنه بالنسبة للأحزاب والسياسيين من أصحاب الأفكار المتشابهة في جميع أنحاء أوروبا، فإنَّ النمسا وكيكل يمثلان حالة اختبار لمدى قدرة حكومة يمينية على تنفيذ سياسات هجرة أكثر صرامة. وقد اقترحت الحكومة في فيينا بعضاً من أكثر القواعد تشدداً في الاتحاد الأوروبي.
وقال كاس مود، الأستاذ بكلية الشؤون العامة والدولية بجامعة جورجيا، والذي يركز على الحركات الراديكالية والشعبوية المتطرفة: "تنظر أحزاب اليمين الشعبوي إلى كل شيء تقريباً بوصفه قضية أمن ونظام، بدءاً من المخدرات وانتهاء بالهجرة. ولهذا فإنَّ وزارة الداخلية هي المنصب الأهم بالنسبة لهم".
وقد أعلن كورتس وكيكل، في شهر فبراير/شباط، عن خطة لاحتجاز طالبي اللجوء الذين يعتبرون خطرين على وجه الاحتمال، لكنهم لم يرتكبوا أية جريمة (وهي سياسة توصف في ألمانيا باسم Sicherungshaft "الحبس الاحتياطي"). وأعلن كيكل عن هذه السياسية بأسلوب طنان معتاد، إذ قال إنَّ هذا الاحتجاز يستهدف "شخصاً ربط الحزام الناسف في عقله بالفعل". وسوف يتطلب تنفيذ هذه الخطة تغيير الدستور النمساوي، وقالت أحزاب المعارضة إنه ينتهك حقوق الإنسان الأساسية، مع تشبيه بعض المراقبين له بفيلم الخيال العلمي السوداوي Minority Report، بحسب المجلة الأمريكية.
وترافقت فكرة الحبس الاحتياطي مع عدد من السياسات الأخرى التي تهدف إلى إثناء طالبي اللجوء السياسي عن القدوم إلى النمسا. فاعتباراً من الشهر الجاري، على سبيل المثال، سوف يتغير اسم مراكز معالجة بيانات اللاجئين ليصبح "مراكز المغادرة"، ما يعطي رسالة واضحة عن مدى الترحيب باللاجئين والمهاجرين في النمسا. وقدمت الحكومة أيضاً ما يفترض أنه حظر تجول "طوعي" على راغبي اللجوء السياسي الذين ينتظرون قراراً يبقيهم في هذه المراكز من الساعة العاشرة مساءً حتى السادسة صباحاً، والتهديد بنقلهم إلى مراكز خارج المناطق الحضرية إذا لم يلتزموا بهذا الحظر.
إنَّ تغطية هذه السياسات والنقاش بشأنها أمر لا مفر منه في فيينا. فهي الموضوع الأساسي الذي يُسأل عنه السياسيون في المقابلات التلفزيونية، وتعرض الصحف القومية والصحف الصفراء في فيينا قصصاً عنها بشكل بارز، وهذا جزء من الأمر الأساسي.
نجاحات الأحزاب المتطرفة في النمسا
قال جايكوب موريتز إبيرل، وهو باحث في وسائل الاتصالات السياسية بجامعة فيينا وعضو في مركز the Austrian National Election Study (الدراسة الانتخابية الوطنية النمساوية) الذي يجري أبحاثاً حول الانتخابات والناخبين: "إنَّ الأمر الذي ينجح فيه حزب الحرية النمساوي فعلاً هو وضع جدول الأعمال". وقال إبيرل، فيما يخص كيكل تحديداً: "يبدو كما لو أنَّ ثمة خطاً أحمر، وهو يدفع هذا الخط ويدفعه باستمرار… وهو يحاول أن يرى إلى أي مدى يمكن أن يصل".
وأشار إبيرل إلى أنَّ العاصفة الإعلامية الأخيرة ليست سوى واحدة من الكثير من مثل هذه المسائل المثيرة للجدل من كيكل أو وزارته. وبدءاً من اقتراحه في أوائل عام 2018 بضرورة "حبس" طالبي اللجوء السياسي في أماكن محددة، وهو تصريح أصرّ لاحقاً على أنه لم يكن القصد منه الاستفزاز، فإنَّ كيكل قال مراراً أشياء تثير تساؤلات حول التزامه هو وحكومته بحكم القانون، وتشرك هذه التصرحيات النقاش السياسي في هذه العملية، بحسب المجلة الأمريكية.
وفي شهر يناير/كانون الثاني قال كيكل عن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة قوانين ملزمة قانونياً تحكم قضايا حقوق الإنسان في الدول الأوربية، إنها "غريبة"، وقال إنَّ قيودها "التي يعود تاريخها إلى سنوات عديدة تمنعنا من فعل ما هو ضروري". وفي الخريف الماضي، تعرَّض كيكل لهجوم حول مذكرة داخلية مسربة تأمر وكالات الشرطة، التي تتحكم فيها وزارته، بحجب جميع المعلومات، باستثناء المعلومات الأساسية المطلوبة، عن المنافذ الإعلامية غير الصديقة. وأشارت المذكرة أيضاً أنَّ على الوزارة أن تبالغ في استخدام الجرائم الجنسية التي يرتكبها طالبو اللجوء السياسي والمهاجرون، وأنه ينبغي لها أن تنص بوضوح على جنسية الجناة ووضعهم السكني القانوني في البيانات الصحفية.
ويتأثر نهج كيكل في عمله بوزارة الداخلية بالتكتيكات، التي لطالما مارسها عندما كان استراتيجياً (واضع استراتيجيات) في حزب الحرية النمساوي. وقد كان كيكل هو العقل المدبر للمسار الحالي للحزب، بدءاً من كتابة الخطابات لزعيم الحزب الراحل، يورغ هايدر، إلى إعداد خطاب حملة انتخابية معادية للمسلمين ساعدت على إحياء الحظوظ الانتخابية لحزب الحرية النمساوي في منتصف العقد الأول من الألفية (مثل Daham Statt Islam، التي تترجم بشكل تقريبي إلى "الوطن لا الإسلام" أو Mehr Mut für unser Wiener Blut، "المزيد من الشجاعة لدمائنا الفيينية")، بحسب المجلة الأمريكية.
وقال لي ميشيلا موسر، أحد منظمي المظاهرات المعادية للحكومة في فيينا، في واحدة من هذه الفعاليات في حي مايدلينغ، وهو حي من أحياء الطبقة العاملة في المدينة: "إنه (الحزب) يميني وسلطوي للغاية". وقالت عن كيكل إنه "مميز، على نحو سلبي".
عادة لا يجري توجيه الغضب في هذه التجمعات المسائية من كل خميس، التي عادة ما يحضرها بضعة آلاف من الأشخاص، إلى كيكل، وإنما إلى الحكومة ككل، وأحياناً إلى كورتس، المستشار، لسماحِهِ لليمين المتطرف بشغل مناصب مهمة في المقام الأول. ولما بدأت المظاهرة في التقدم ناحية واحدة من الحفلات الشهيرة المقامة في مكان قريب، حملت مجموعة من النساء المسنات، وهن جزء من منظمة Omas Gegen Rechts (جدات ضد اليمين) لافتات، ورقصن وهتفن بينما كان أحد الآباء يدفع طفلاً صغيراً في عربة أطفال مع لافتة مكتوب عليها Lieber Klein als kurs (أن تكون صغيراً خير من أن تكون قصيراً)، وهي مسرحية تحمل اسم كورتس.
وقالت موسر: "ينبغي لنا أن ندرك أنَّ (كورتس وحزبه) قد سمحا لتوهما لكيكل بالإفلات من كل هذا، لذا فهم إلى جانبه".
اليمين المتطرف في إيطاليا أيضاً
وليس كيكل الشعبوي الوحيد من اليمين المتطرف الذي يستخدم وزارة الداخلية في بلاده لخدمة الأهداف الخطابية أو السياسية لحزبه. فماتيو سالفيني في إيطاليا يتبنى الموقف ذاته. إذ نجح، من خلال خليط من استراتيجية التواصل الذكية واللغة المتشددة بشأن الهجرة، في مضاعفة الدعم الشعبي تقريباً منذ الانتخابات الإيطالية في العام الماضي. وعندما يعبر قارب من المهاجرين البحر المتوسط متوجهاً إلى إيطاليا، فإنَّ سالفيني هو الوحيد الذي يستطيع التعهد علناً بإعادته، ليسجل بذلك نقاطاً لدى قاعدته الشعبية. وعندما ينشر عنواناً مثيراً عن المهاجرين العنيفين على فيسبوك أو تويتر، فإنه يفعل ذلك لأنه يراه جزءاً من وظيفته بصفته وزيراً للداخلية.
وفي ألمانيا، ربما لا تكون وزارة الداخلية تحت سيطرة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، لكنَّ الرجل الذي يشغل هذا المنصب، هورست زيهوفر، حاول استخدامها العام الماضي لدعم أوراق اعتماده بوصفه متشدداً. فنظراً لأنَّ حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، من أحزاب يمين الوسط، والذي ينتمي إليه زيهوفر، كان يواجه تحديات من حزب البديل من أجل ألمانيا في انتخابات الولاية، فقد هدَّد زيهوفر بإسقاط الحكومة الألمانية إذا لم توافق المستشارة أنجيلا ميركل على مجموعة أكثر تشدداً من سياسات الهجرة، بحسب المجلة الأمريكية.
ومع ذلك، فقد أدَّت خطوة زيهوفر في النهاية إلى نتيجة عكسية، وبهذا فقد أوضحت الجوانب السلبية المحتملة التي يواجهها اليمين المتطرف في اضطلاعه بهذا الدور. وعلى الرغم من أنَّ زيهوفر قد انتزع بعض التنازلات السياسية من ميركل، فقد تراجع عن تهديده بإسقاط الحكومة، وسجل حزبه خسائر قياسية في الانتخابات. وفي الواقع، فإنَّ وزيراً للداخلية ينظر إليه على أنه متساهل أو ضعيف فيما يخص مسائل الهجرة سوف يخلق رد فعل عكسياً أكبر بكثير مما لو كان قد قام بهذا التهديد في مجال آخر من مجالات السياسة.
ولكن من خلال اقتراح سياسات راديكالية، حتى إن لم يجر تنفيذها في النهاية، فإنَّ أولئك السياسيين يعملون على تحصين أنفسهم من النقد [على شاكلة]: كان من الممكن لهذا البلد أن يكون آمناً لو أنَّ المعارضة استمعت إلى أفكاري. (وقد تكلم كيكل عن هذه النقطة عندما أعلن عن خطط الحبس الاحتياطي للحكومة، إذ قال: "كل من لا يدعم هذا التغيير يظهر بوضوح أنَّ حماية السكان من طالبي اللجوء من المجرمين ليست مصدر قلق حقيقي").
ومع تباطؤ عدد اللاجئين بشكل كبير في جميع أنحاء أوروبا، فإنَّ أحزاب اليمين الشعبوي المتطرف معرضة لخطر خسارة موضوعها الأساسي، والاستمرار، في الكثير من الأحيان، في تصعيد الخطاب المعادي للاجئين نتيجة لذلك. وتمنحهم سيطرتهم على وزارات الداخلية ووضع سياسة الهجرة طريقة لإبقاء هذا الموضوع حياً، وإقناع الناس أنَّ الهجرة واسعة النطاق لا تزال تشكل تهديداً.
وقال روث ووداك، أستاذ اللغويات بجامعة لانكستر وجامعة فيينا، الذي يركز على الخطاب الشعبوي اليميني: "يستخدم كل شيء للتدليل على هذا الخطر، وهو أمر سخيف نظراً لأنَّ النمسا لم يعد اللاجئون يأتون إليها، لكن من أجل الحفاظ على رضا ناخبيهم، فإنهم يستخدمون هذه الحجج باستمرار، تلك سياسة الخوف".