ربما لم يكن الخيار الأكثر حصافة لناشطٍ فلسطينيٍ يعيش تحت مراقبة وثيقة من جانب الأمن الإسرائيلي، لكن الفكرة سيطرت على فادي قرعان، وعَقَدَ العزم عليها: كان سيدرُس الفيزياء النووية في جامعة ستانفورد الأمريكية.
قال مازحاً بعد مرور سنوات على المرات التي كان يَعبُر فيها قسم مراقبة الجوازات الإسرائيلية بعد التخرج: "كنت أتوقف كثيراً على الحدود، ولكي أكون صادقاً عندما بدأت الأمر لأول مرة كل ما أردته كان الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء، كنت أبلغ من العمر 18 عاماً، وأحببت الأمر".
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إن قرعان أراد استخدام درجته العلمية في مجال الفيزياء لإمداد الفلسطينيين بطاقة الرياح والطاقة الشمسية، لكن الخطة توقفت، لأن إسرائيل أجَّلت استيراد التكنولوجيا الضرورية، حسبما قال، وصار المسؤولون الفلسطينيون مهتمين، وطلبوا الحصول على حصة من شركته. وأضاف: "كنت بين شقي الرحى".
المشهد الفلسطيني الخدّاع
والآن، بعد أن بلغ من العمر 30 عاماً، يجلس في مقهى فاخر في وسط مدينة رام الله في الضفة الغربية، ويحظى بإنترنت ذي سرعة عالية، ومشروب "الموكا" المضاف إليه الشوكولاتة. ويجلس في الجوار نيفٌ وعشرون شخصاً يرتدون ملابس شبه رسمية، ويدخنون، بينما يكتبون على أجهزة الحاسوب المحمولة. يبيع المطعم المجاور طعام السوشي، ومع الابتعاد أكثر في اتجاه قمة الشارع يوجد مركز لشحن السيارات الكهربائية بجوار مركز استعلامات سياحي.
يقول قرعان إنه مشهد مبهج، لكنه خادع. وأضاف: "إذا ذهبتَ على بعد ميلين في أي اتجاه خارج وسط رام الله، فسوف تجد مستوطنة (إسرائيلية)، أو جداراً، أو نقطة تفتيش، أو ما إلى ذلك". واعترف بأن سيطرة الجيش الإسرائيلي ليست مرئية مباشرة هنا، لكن ذلك من براعته.
يعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية، في ظلِّ نظامٍ كان من المفترض استمراره لخمس سنوات فقط، وهي اتفاقية أُبرمت قبل 25 سنة، باعتبارها خطوة أولى نحو دولة ذاتية الحكم بجوار إسرائيل. بموجب اتفاقية أسلو، مُنحت حكومة مؤقتة تسمى السلطة الفلسطينية حُكماً محدوداً على جيوب صغيرة من الأراضي، وهي في الغالب مقصورة على المدن والبلدات، فيما ظلَّت إسرائيل مسيطرة على بقية الأراضي.
ولكن بعد انهيار عملية السلام، شرعت إسرائيل في عملية وقائية عن طريق بناء شبكة موسعة من الطرق، والقواعد العسكرية، والمستوطنات، والمحاجر. وفي غضون ذلك، تشبَّثت السلطة الفلسطينية بالحكم، وبقيت على طريق التنسيق الوثيق مع قوات الأمن الإسرائيلية.
السلطة صارت عبئاً على الفلسطينيين
يقول قرعان إن السلطة الفلسطينية صارت "مقاولاً بالباطن للاحتلال. والطريقة الأخرى التي يمكن من خلالها وضع ذلك في إطاره الصحيح أنهم صاروا نسخ ما بعد الحداثة من العم توم: فهم أشخاص تداخلت مصالحهم الشخصية مع مصالح "سادة العبيد" الذين سوف يخدمونهم ويخونون مصالح أقوامهم".
اليوم، يريد أكثر من ثلثي الفلسطينيين تقريباً استقالة رئيس السلطة الفلسطينية المريض، البالغ من العمر 84 عاماً، محمود عباس، حسبما تشير الاستطلاعات، ويعتقد نصفهم أن السلطة الفلسطينية "صارت عبئاً".
يعيش الفلسطينيون في حالة ذهول دائم، عندما يسمعون حديث قادة العالم ودبلوماسييه، كما لو أن ربع القرن الماضي لم يكن له أي وجود. ففي الشهر الماضي، كتبت الدبلوماسية الكبيرة في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني مقالاً من 3000 كلمة، بدا كما لو أنه مناشدة "بائسة" للفلسطينيين والإسرائيليين، من أجل مواصلة العمل على حل الدولتين.
ظلَّت الحكومات الأجنبية متمسكة تمسكاً شديداً بفكرة الدولتين، بالرغم من التغيرات الجذرية المشهودة على الأرض. وحتى إذا كانوا يعترفون سراً بأنه احتمالٌ متلاشٍ، لا يزال الدبلوماسيون يتحدثون عن "العمل من أجل" الدولتين.
عند استطلاع آرائهم، لم يرَ أغلب الفلسطينيين إمكانية حدوث ذلك؛ إذ يعيش حوالي 600 ألف مستوطن إسرائيلي الآن في الأراضي المحتلة، ولا نية لديهم للمغادرة. وفي غضون ذلك، يتحدَّث الساسة الإسرائيليون في الحكومة عن ضمّ مساحات شاسعة من الضفة الغربية. ويقول قرعان: "تقريباً لا أحد يصدق حل الدولتين بعد الآن".
حل الدولتين انتهى
عاش باسم التميمي، القادم من قرية النبي صالح، حياتَه في مقاومة الاحتلال. يشير صاحب الـ52 عاماً إلى ندبة في رأسه، نتيجةً لعملية جراحية يقول إنه أجراها بعد دخوله في غيبوبة بسبب المحققين. ويقول إن أخته ماتت بعد دفعها من أعلى درج محكمة إسرائيلية. وقُتلت ابنة عمه بسبب قذيفة مباشرة لقنبلة غاز. والآن، سُلطت الأضواء على ابنته المراهقة عهد التميمي في جميع أنحاء العالم، بعد أن صَفعت جندياً إسرائيلياً وقضت ثمانية أشهر في السجن.
يرى التميمي أن النضال الفلسطيني الآن صار مواجهة من أجل مساحات أراضي أصغر من أي وقت مضى. عندما تأسست دولة إسرائيل عام 1948، تُرك للفلسطينيين 22% من مساحة الأراضي التي كانوا يعيشون عليها. بموجب اتفاقية أوسلو، وافقوا على العمل من أجل امتلاك سيادة على هذه المنطقة، والآن صار لديهم حكم ذاتي محدود على جزء أصغر من تلك المساحة.
تنهّد قائلاً: "ناضلتُ من أجل حل الدولتين، فقدت أصدقائي، وفقدت أختي، وفقدت أبناء وبنات عمومتي، وضاع عمري في السجن".
وقد تخلّى منذ ذلك الحين عن فكرة وجود دولة فلسطينية بجوار إسرائيل؛ إذ يقول: "يشعر مجتمعنا أنها فُقدت، وهذه هي المرة الأولى التي حدث فيها ذلك". توقفت القرية عن التظاهرات في 2015 نظراً إلى أن كثيرين أُطلق عليهم الرصاص. وتساءل: "لماذا يجب على عهد النضال من أجل أن تحظى بالحياة التي عشتها؟"
يدعو التميمي الآن إلى دولة "علمانية" واحدة في جميع الأراضي، يتشارك فيها الإسرائيليون والفلسطينيون، على حد تعبيره. وتكتسب الفكرة زخماً حتى بين دوائر المسؤولين الفلسطينيين، الذين ساعدوا على إنجاح مفاوضات أوسلو. عندنا اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمدينة القدس، المتنازع عليها عاصمةً لإسرائيل، قال السياسي الفلسطيني البارز صائب عريقات، إن الرسالة كانت واضحة: "حل الدولتين قد انتهى. والآن حان الوقت لتحويل النضال ليكون من أجل دولة واحدة بحقوق متساوية لجميع الأشخاص الذين يعيشون في فلسطين التاريخية".
الفلسطينيون سيشكلون أكثر من نصف السكان
يعيش الفلسطينيون بالفعل داخل إسرائيل وهم يحملون جنسيتها. وهم العائلات التي بقيت في مدنها وقراها عندما فرّ الآخرون أو طُردوا خلال الحروب التي نشبت حول تأسيس إسرائيل. لكن حياتهم ليست ما يطمح إليه الفلسطينيون الآخرون. قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأحد 10 مارس/آذار: "إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وهي له فقط".
ولا يؤيد نتنياهو أيضاً حلَّ دولتين مستقلتين، مما يترك الفلسطينيين في وضع معلق. يَحذَر الناشط قرعان من وصفه بـ "مؤيد الدولة الواحدة". ويعلم أنها عبارة مخيفة لكثير من الإسرائيليين، لأنها قد تؤدي إلى نهاية الصهيونية في هيئتها الحالية، ففي ظل دولة واحدة، قد يشكل الفلسطينيون تقريباً نصف السكان أو أكثر. وقد يعني ذلك أن إسرائيل لن تعود دولة ذات أغلبية يهودية.
لكن آماله تكرر ما ردّده التميمي. فقد قال: "أريد لكل شخص في هذه المنطقة أن يعيش بموجب نفس الدستور، ونفس العقد الاجتماعي الذي يكفل الحرية، والعدالة، والكرامة للجميع".