انضمت مصر لقائمة تحوي تقليدياً عدداً من الدول الغنية، لقد أصبح لها صندوق سيادي خاص بها على غرار دول الخليج والصين والنرويج، ويحمل اسم صندوق مصر السيادي.
فبينما كان المصريون منشغلين بكارثة قطار محطة مصر التاريخية، أصدر الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري، الخميس 28 فبراير/شباط 2019، قراراً بإصدار النظام الأساسي لصندوق مصر السيادي برأسمال يبلغ 200 مليار جنيه (حوالي 11 مليار دولار).
وتم نشر القرار في الجريدة الرسمية ، وهو ما يعني أنه أصبح أمراً واقعاً بالفعل ودخل حيز التنفيذ.
بالانفوجراف.. التخطيط تعلن تفاصيل صندوق مصر السيادي https://t.co/lHLvHcrEc2 pic.twitter.com/wNf0GjQLhM
— الحدث الآن (@eventnow20) March 6, 2019
وصندوق الثروة السيادي أو الصناديق السيادية هو صندوق مملوك من قبل دولة يتكون من أصول مثل الأراضي، أو الأسهم، أو السندات أو أجهزة استثمارية أخرى وهي تدير فوائض دولة من أجل استثمار بشكل يشبه القطاع الخاص.
ويعد الصندوق السيادي الكويتي من أقدم الصناديق السيادية في العالم، ولكن الصناديق السيادية في الإمارات والصين والنرويج من أنجحها.
ومن آواخر الدول التي تنوي إنشاء صناديق سيادية هي تركيا.
ولكن المفارقة في القرار أن أغلب الدول التي تمتلك صناديق سيادية، هي دولة غنية ولديها فوائض مالية كبيرة عكس مصر التي تعاني عجزاً كبيراً في ميزانيتها وديوناً كبيرة دفعتها للجوء إلى صندوق النقد الدولي.
فمن أين ستأتي مصر بالأموال اللازمة لتمويل هذا الصندوق السيادي؟
قيمة صندوق مصر السيادي ستصل إلى تريليون جنيه
وقدّر وكيل لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان، النائب مدحت الشريف، أن تصل قيمة أصول الصندوق إلى تريليون جنيه مصري (50 مليار دولار) بعد الانتهاء من الاستحواذ عليها. يعني هذا أقل من 5% من حجم الصندوق النرويجي.
لهذا يرى بعض المختصين أن هذا ليس صندوقاً سيادياً بالمعنى التقليدي وإنما جهة إدارية جديدة. بحسب وزيرة التخطيط هالة السعيد، فإن الغرض من الصندوق هو إدارة واستغلال أصول الدولة، واجتذاب استثمارات أجنبية، وفقاً لتقرير لموقع مدى مصر.
مصر مباحة له ويستطيع أن أن يختار منها ما يشاء
فقد أوضح قرار رئيس الوزراء الصادر مؤخراً، صلاحيات الصندوق السيادي، وهي الصلاحيات التي ينتقدها البعض.
وقد منح القرار الصندوق الحق في إنجاز 6 مهام هي:
1-شراء وبيع وتأجير واستئجار الأصول الثابتة.
2- الاستثمار في الأوراق والأدوات المالية.
3-المساهمة بمفرده أو مع الغير في تأسيس الشركات.
4-إصدار السندات وصكوك التمويل وغيرها من الأدوات.
5-إقراض أو ضمان صناديق الاستثمار والشركات التابعة.
6- القيام بجميع الأنشطة الأخرى اللازمة لتنفيذ أغراض الصندوق والتزاماته.
فضلاً عن أنه يحق لرئيس الجمهورية أن ينقل ملكية أي من أصول الدولة المستغلة أو غير المستغلة للصندوق.
ولكن من أين سيأتي بكل هذه الأموال؟
يأتي قانون تنظيم صندوق مصر السيادي بعدما تحدث مسؤولون كثيرون بالدولة في عدة مناسبات عن استغلال أصول الدولة المتراكمة.
تكرر استخدام "استغلال أصول الدولة" 13 مرة في البيانات الصحفية الصادرة بخصوص اجتماعات حكومية على مختلف المستويات خلال 60 يوماً فقط في 2016.
وفي العام ذاته، أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قراراً جمهورياً بتشكيل لجنة لحصر أملاك هيئة الأوقاف المصرية، المالك اﻷكبر ﻷصول الدولة غير المستغلة.
معلومات قد لا تعرفها عن صندوق مصر السيادي pic.twitter.com/6cBjpjksGH
— Dotmsr دوت مصر (@Dotmsr) March 4, 2019
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أصدر رئيس الوزراء شريف إسماعيل قراراً بتشكيل لجنة لحصر جميع أراضي ومخازن ومستودعات الدولة غير المستغلة المملوكة للوزارات والمحافظات والهيئات والجهات التابعة لها وشركات القطاع العام، وشركات قطاع الأعمال العام، ووضع تصور للاستفادة منها.
ومن المتوقع أن يكون أحد المصادر المحتملة لتمويل الصندوق هي إيرادات الغاز التي يتوقع أن تتزايد في مصر خلال السنوات القادمة.
جمال مبارك صاحب الفكرة الأولى
أول من فكر في هذا الصندوق كان جمال مبارك وفريقه، تحديداً الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار المقرب من نجل الرئيس حينها.
وتفيد معلومات حصل عليها "عربي بوست" بأن الفكرة بدأت مع موجة الخصخصة التي تبناها ما سمي بـ"الحرس الجديد" حينها، وسعوا جاهدين لبيع الشركات الحكومية.
ثم تنبه محمود محيي الدين ويوسف بطرس غالي (توليا منصبي وزيري المالية والاقتصاد) أن هناك أصولاً مصرية في عواصم أوروبية تحديداً في لندن وإسطنبول تقدر بمليارات الجنيهات، وأن بيع تلك الأصول سيحقق مكاسب طائلة للدولة.
والمفارقة أن الجيش هو الذي أوقفها
المشكلة التي واجهت جمال مبارك وفريقه حينها كانت أنه قانوناً لا يمكن إنفاذ هذا البيع.
لذا طرح محمود محيي الدين (وزير الاستثمار حينها) فكرة إنشاء هذا الصندوق، وهي الفكرة التي عارضها المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع حينها، حسب معلومات "عربي بوست"، وتدخل مبارك الأب.
المفارقة هنا في شيئين أولهما أن الجيش (ممثلاً في طنطاوي) الذي اعترض على فكرة الصندوق في عهد مبارك، هو نفسه الذي يتبناها اليوم (ممثلاً في السيسي) ويسعى إليها.
المفارقة الثانية أن محمود محيي الدين الذي فكر في إنشاء الصندوق حينما كان وزيراً للاستثمار في عهد صعود جمال مبارك، هو نفسه الذي يبارك الفكرة اليوم ويسوقها باعتبار أن مصر في أمس الحاجة إليه، خاصة بعد اكتشافات الغاز الجديدة.
لماذا يريد السيسي إنشاء هذا الصندوق الآن؟
وفقاً للمعلومات المتوافرة لـ "عربي بوست" من أكثر من مصدر، فإن محيي الفكرة هذه المرة هو الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصياً.
فالرئيس المصري اشتكى أكثر من مرة من الروتين وتكبيل القوانين البالية له ولمشروعه المستقبلي لبناء مصر الحديثة.
فالرجل الذي ضاق ذرعاً بدراسات الجدوى، وقال يوماً إنه لو اتبع دراسة الجدوى لما تحقق 20% مما حققه، يرى أيضا أن القوانين واللوائح تكبله؛ لذا فكر في إعادة إحياء مشروع صندوق مصر السيادي من جديد.
إنه يكره البيروقراطية المصرية، وهكذا يريد تجاوزها بالتعديلات الدستورية
تكرر نمط إنشاء جهات "إدارية" جديدة ﻹتمام مهام يفترض أن تقوم بها جهات أخرى داخل الجهاز اﻹداري للدولة كثيراً خلال سنوات حكم السيسي، والذي وصف الجهاز الإداري للدولة بأنه "عقبة في طريق تقدم مصر" خلال خطاب له في 2015.
هذا النمط يتضح عند مراجعة عدد من القوانين والتوجهات التنفيذية، ويأتي في محاولة لتجاوز عجز الجهاز البيروقراطي وعدم قدرته على تنفيذ سياسات وتوجهات الحكومة.
وأخرها التعديلات الدستورية نفسها والتي تضمنت بنداً لم يتم التركيز عليه يجعل موافقة مجلس الدولة (جهة قضائية معنية بالنواحي الإدارية) غير ملزمة على العقود الحكومية.
برلمانى: صندوق مصر السيادى قادر على تحويل مصر لدولة غنية لحماية أصولها https://t.co/FmBv9FIraJ pic.twitter.com/8h4TZozgX7
— Sudanese Online (@SUDANESEONLINE) March 3, 2019
يشير مختصون إلى أن السيسي يبني جهازاً إدارياً موازياً لكي يتمكن من تحقيق نمو اقتصادي يتجاوز أزمات البيروقراطية، ما يشكل رهاناً كبيراً يخاطر به نظام يقوم بمثل هذا التحول الكبير.
وهو ما يظهر في الصلاحيات الكبيرة الممنوحة للصندوق بعيداً عن أوجه الرقابة التقليدية.
لا رقابة برلمانية على الصندوق الجديد
وتقرر هذه المرة ألا يكون للبرلمان أي رقابة عليه، ويتمثل الدور الرقابي في مراقين حسابيين اثنين فقط، أحدهما من الجهاز المركزي للمحاسبات، والتاني من الرقابة الإدارية.
ويقتصر دورهما على رفع تقرير للجنة يرأسها رئيس الوزراء، والتي تقوم بدورها برفع التقرير لرئيس الجمهورية فقط لا غير.
كانت لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان أدخلت تعديلاً على مشروع القانون الخاص بالصندوق السيادي يقضي بعرض القوائم المالية، وتقرير مراقبي الحسابات، والتقرير السنوي التفصيلي عن نشاط الصندوق وخطته، على مجلس النواب.
لكن البرلمان تراجع عن التعديل خلال التصويت النهائي على مشروع القانون، ليخرج الصندوق من رقابة البرلمان.
أي أننا نتحدث عن سلطات مطلقة للتحكم في أصول مصر منحت لرئيس الجمهورية، وهو ما يفسر لماذا وجه الرئيس عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة بسرعة الانتهاء من خطوات تشكيل الصندوق.
أبرز المخاوف.. ما سيحدث بعد الانتقال للعاصمة الجديدة وإنشاء نيوم السعودية
هناك مخاوف عدة تشيع بين بعض المهتمين بالاقتصاد المصري من الصندوق الذي صدر بالفعل قرار بتفعيله نشر في الجريدة الرسمية الأسبوع الماضي.
ولعل أبرز المخاوف في ظل غياب أي رقابة شعبية أو برلمانية على تصرفات الرئيس في الصندوق الذي بات متحكماً في أصول مصر هي:
-الحق الممنوح للرئيس ينقل ملكية أي من أصول الدولة المستغلة أو غير المستغلة للصندوق، المتزامن مع قرار نقل العديد من المقرات الحكومية للعاصمة الادارية الجديدة، في ظل تسريبات تشير إلى أن هناك قراراً بنقل الوزارات قد يترتب عليه ضم المباني القديمة في قلب القاهرة والتي تساوي مليارات الجنيهات إلى الصندوق، كخطوة أولى لبيعها بعيداً عن أي رقابة.
– يزعم البعض إنه وفقاً لهذه القرارات سيصبح من حق الرئيس بيع أي أرض أو تسليم أي مساحة للمملكة العربية السعودية في سيناء لتنفيذ مشروع "نيوم" بها، دون أن يكون للبرلمان أو للأجهزة الرقابية حق الاعتراض أو حتى الاستفسار عن المقابل.
ومن المعروف أن السعودية أعلنت أن مصر والأردن جزء من مشروع نيوم الرامية لإنشاء منطقة تكنولوجية في شمال غرب المملكة.
– الأصول المصرية في أوروبا والممثلة في القصور الخاصة بالأسرة العلوية، والتي حاول جمال مبارك بيع جزء منها وفشل في عهد أبيه، أصبح الآن السيسي من حقه منفرداً بيعها أو التصرف فيها، دون أي اعتراض، باعتبار أنها جزء من الأصول المصرية التي يحق للصندوق التعامل عليها.
📈 انفوجراف | تعرف على النظام الأساسي لـ #صندوق_مصر_السيادي
موارد #صندوق_مصر pic.twitter.com/tc0wzW3vtA— وزارة التخطيط – مصر (@mpmaregypt) March 4, 2019
من الناحية النظرية، تبدو فكرة إنشاء صندوق مصري يتولى إدارة أصول الدولة في ظل فشل البيروقراطية لتشجيع الاستثمارات اﻷجنبية المتخوفة من مع هذه البيروقراطية عبر مشارك الحكومة في الاستثمار، فكرة وجيهة، حسبما يقول موقع مدى مصر.
ويرى أشرف الشريف، أستاذ العلوم السياسية والمحاضر في قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن نظام الحكم الحالي يختلف عن السابق تماماً.
إذ يقول لموقع مدى مصر إنه يتعامل بشكل متهور مع الجهاز التنفيذي الحكومي القادر على حكم البلاد، رغم كل عيوبه ويتوسع في خلق كيانات موازية له، دون أي تفاصيل واضحة، وعبر إجراءات عملية خطيرة تحمل قدراً كبيراً من الاستعلاء، حسب تعبيره.